الفنان الفلسطيني صبري الشريف وروح المهاجر

11.04.2015 03:55 PM

وطن: كتب صقر ابو فخر

الذاهب من الشام إلى مصر عليه ان يتوقف في يافا. والقافل من مصر إلى الشام عليه أن يتوقف في يافا أيضاً. وقد قُيض لهذه المدينة التي ولد فيها صبري الشريف في سنة 1922 ان تجتمع في نواحيها عناصر جمالية كثيرة: البحر والميناء وسهول البرتقال وزهر الليمون ونوادي الأدب والمسارح ودور السينما والصحف وإذاعتها المشهورة التي عزف فيها سامي الشوا الحلبي، وغنى فيها فريد الأطرش السوري، علاوة على محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ومحمد عبد المطلب من مصر، وعمل فيها فيلمون وهبي وإيليا بيضا وصابر الصفح وعامر خداج وزوجته عدلا جدعون من لبنان، والتي ألقى قصائده وخطبه في أفيائها الأخطل الصغير وأمين نخلة وحليم دموس وكثيرون غيرهم، ومثل على مسارحها يوسف وهبي (على مسرح أبو شاكوش في سنة 1932) ونجيب الريحاني ذو الجذور العراقية (اسمه الأصلي: نجيب ريحانة) وعلي الكسار وإسماعيل ياسين. وهذه المدينة التي بلغ عدد سكانها عشية النكبة قرابة 150 ألف نسمة كانت مدينة عربية تماماً، ففيها، على سبيل المثال، صدرت جريدة "فلسطين" سنة 1911، التي أسسها الفلسطينيان عيسى العيسى ويوسف العيسى. لكن يوسف العيسى لم يلبث ان سافر إلى دمشق ليصدر أهم جريدة فيها هي "ألف باء"، بينما تولى يوسف حنا، وهو من مصر، رئاسة تحريرها. أما منافستها جريدة  "الدفاع" فكان أبرز كتابها السوريين سامر السراج وخير الدين الزركلي، وكان سكرتير تحريرها المصري عبد الهادي عرفان. وفي هذه المدينة التي ولد فيها مئات المشاهير انتشرت دور كثيرة للسينما مثل سينما الحمرا وسينما نبيل وسينما الرشيد وسينما الشرق وسينما فاروق وسينما أبولو، وأشهر مسارحها كان مسرح أبو شاكوش (على قسوة هذا الاسم).

في هذه المدينة العابقة بكل تجديد ومعاصرة نشأ صبري الشريف الذي سيكون له، في ما بعد، شأن كبير في النهضة الغنائية اللبنانية وبالتحديد في المسرح الغنائي. ولعل روح المهاجر التي تملكت صبري الشريف هي التي أوقدت فيه جمرة التحدي والإبداع معاً، فتصدى لمصيره بما ملكت يمناه: العلم والثقافة والصبر والإصرار على الفرادة والتميز، مثله في ذلك مثل كثير من الفلسطينيين الذين لمعوا في مهاجرهم ومنافيهم.
تغيير الذائقة
كانت بيروت قبل النكبة الفلسطينية في سنة 1948 تكاد لا تعرف من فنون الغناء إلا الموال البغدادي الذي برع فيه إيليا بيضا، وكذلك القدود الحلبية والأغاني المصرية التي ترتبط بوشيجة قوية بالقوالب الغنائية التركية. وحين بدأت أغاني فيروز تذاع من الإذاعة السورية ومن الإذاعة اللبنانية استنكر أهل بيروت هذا الصوت وتلك الأغنيات. هنا بالتحديد كان لصبري الشريف المكانة الكبيرة وإسهامه المهم في انتقال الذائقة الفنية لسكان المدن المحافظة من القديم الى الحديث، أي من الغناء المحافظ التقليدي الى العصرنة والحداثة الجميلة. وكان رائداً في هذا الميدان حقاً اذ التفت مبكراً، وهو في فلسطين، الى الغناء الريفي كأغاني الأعراس والولادة والمواسم والجنائز، وأراد نقل هذا الفلكلور من حالته الخام الى حالة حديثة، أي من الأرياف الى المدينة، وهي عملية مهمة جداً ارتفعت لاحقاً في لبنان على اكتاف كبار أمثال حليم الرومي وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وعفيف رضوان وفيلمون وهبي، وهؤلاء كلهم من المجموعة التي اثر فيها صبري الشريف بقوة. وكان جوهر هذه العملية يعني وضع ألحان معاصرة لجمل موسيقية فلكلورية قديمة ومتوارثة. وهذه العملية بدأت في فلسطين، حين استدعى صبري الشريف لهذه الغاية الشاعر الشعبي اللبناني أسعد سعيد الذي عاش حقبة من حياته في فلسطين، وكلَّفه جمع الأغنيات الفلكلورية في لبنان وفلسطين وبقية بلاد الشام. وهذه المجموعة الغنائية هي التي اتكأت عليها البرامج الغنائية للأخوين رحباني في الإذاعة اللبنانية في ما بعد.

هكذا، بالجهد المتدرج لهؤلاء جميعاً، صارت أغاني الجبل اللبناني في حناجر وديع الصافي وصباح وفيروز ونصري شمس الدين مألوفة تماماً لآذان سكان المدن الساحلية. أي ان صبري الشريف بعلمه ودأبه وجهده وإدارته الفذة، وتجميعه موسيقيين لبنانيين ذوي تطلعات حديثة، منح الأغنية الريفية بُعداً مدينياً، وانتقل بها، مع رفاقه، من العزف على آلة واحدة (الربابة او العود او البزق) الى العزف في فرقة موسيقية متكاملة.

الفلسطينيون والفنون

في هذا الميدان أودّ أن أزحزح اللثام، ولو قليلاً، عن الصورة الغائبة لإسهام الفلسطينيين في النهضة الغنائية والموسيقية في لبنان، وكان صبري الشريف أحد هؤلاء بل ربما كبيرهم. لقد تناسى كثيرون ان اول فرقة للرقص الشعبي في لبنان أسسها الفلسطينيان مروان جرار ووديعة جرار (شقيقة وديع حداد). وأول من أسس الفرق الكورالية الفلسطينيان ألفاريس بولس وسلفادور عرنيطة (عم المغنية مادونا). ومن الذين لمعوا في العمل الإذاعي: صبحي أبو لغد ومحمد الغصين وكامل قسطندي ورشاد البيبي وعبد المجيد أبو لبن الذي اكتشف أنور البابا وشخصية "أم كامل" ورفيق السبيعي وشخصية "أبو صياح"، فضلا عن غانم الدجاني وناهدة فضلي الدجاني وعلي عصام مراد وأحمد جرار.
جمرة التجديد
يمكنني القول أيضاً إن الموسيقيين الفلسطينيين المهاجرين إلى لبنان، وإلى دمشق وبغداد، حملوا معهم الى الإذاعات العربية جمرة التجديد، فجاء الى إذاعة بيروت حليم الرومي وصبري الشريف ورياض البندك (الذي انتقل لاحقاً الى إذاعة دمشق التي سبقه إليها يحيى السعودي ويوسف البتروني)، وسافر الى إذاعة بغداد روحي الخماش. وكان تجمع حول القسم الموسيقي في إذاعة الشرق الأدنى (مكتب بيروت) خلال المرحلة القبرصية، عدد من الموسيقيين اللبنانيين كالأخوين رحباني وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وعفيف رضوان، وهؤلاء هم الذين نهضوا بالأغنية اللبنانية حقاً. ومما لا شك فيه أن شأن صبري الشريف وحليم الرومي في هذه النهضة كان كبيراً، وأن آراء صبري الشريف شكلت دافعاً قوياً لهذه النهضة، فقد كان العقل المخطط والموجه، واليد التي تمسك بجميع تفصيلات العمل الفني من أوله الى آخره على قاعدة «درِّب ثم سجل»، خلافاً لقاعدة الارتجال التي كانت سائدة قبل ذلك.
إن علاقة الفلسطينيين بالفنون في لبنان هي احدى نتائج "روح المهاجر" التي أنتجت أعلاماً كباراً في الفكر والأدب والبحث العلمي والسياسة والاقتصاد. وإذا كنت سأقتصد في الكلام في هذا الحقل لاقتصر على الفنون فحسب، فلا بد ان أتذكر المطرب الفلسطيني الكبير محمد غازي، وهو من قرية يازور المجاورة ليافا، فمتى نعيد الاعتبار الى هذا المطرب الذي درَّب فيروز على غناء الموشحات؟ وكي لا يغيب عن أذهاننا فلسطينيون كان لهم شأن في الفنون في لبنان أتذكر رياض البندك وعبود عبد العال وعبد الكريم قزموز (أشهر عازف رق في العالم العربي) والعازفين حنا السلفيتي وجورج أبيض وفريد السلفيتي، فمن نسل هؤلاء، أي الأبوة بالمعنى الإبداعي والمعنوي والبيولوجي معاً، تناسل كل من ماجدة الرومي وفادية طنب ابنة الرسام والنحات مارون طنب ورونزا (عايدة طنب). ولا ننسى في السينما محمود سعيد وعبد المسيح النمري (شرنِّو) والد ليليان النمري وغسان مطر. اما في الفن التشكيلي فلا ننسى بول غيراغوسيان ابن القدس وجوليانا سيرافيم ابنة يافا وإسماعيل شموط وإبراهيم غنام وتوفيق عبد العال وموسى طيبا ومحمد الشاعر وناجي العلي وآخرين غيرهم.
لعلني لا أجازف كثيراً في القول إن علاقة الرحابنة بفلسطين ربما كانت، في احد وجوهها، ناشئة من تأثير صبري الشريف وحليم الرومي فيهم، علاوة على «نصف سورِّية فيروز» (والد فيروز من بلدة ماردين السورية السريانية). والمعروف ان أول مغناة عن فلسطين للرحابنة كانت "راجعون" سنة 1955، ثم انهمرت بقية الأغاني المعروفة مثل "غاب نهار آخر" و "احترف الحزن والانتظار" و "يا ربوع بلادي" و "بيسان" و "القدس العتيقة" و "زهرة المدائن" و "سنرجع يوماً إلى حيّنا" و "أجراس العودة»" و "سيف فليشهر" و "جسر العودة". لنتذكر أيضاً مغناة «"أذكر يوماً كنت بيافا وشراعي في مينا يافا"... فمتى نرجع يا يافا؟
أنجزت فرح وجدي شيا فيلما عنوانه «"صبري" عن قصة حياة صبري الشريف، وقد كان لهذا الفيلم اثر مهم في استعادة سيرة صبري الشريف، ودوره الكبير في النهضة الموسقية والغنائية في لبنان طوال عشرين سنة (1953ـ1973).

عن السفير 

تصميم وتطوير