"تلقّيت خبر استشهاد ابني على تيلغرام"

16.04.2024 10:10 PM

 

كتب: هيثم الشريف

لعلّ المحتوى الذي يستهلكه العالم من غزّة، يُنشر معظمه عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ وليس عبر القنوات الإخباريّة التلفزيونيّة، التي باتت تتعامل مع المواطن الذي يحمل موبايله مصدراً أساساً للصورة الميدانيّة. يسارع المواطنون والنشطاء والمؤثرون إلى نشر صور الإبادة المستمرّة وتوثيقها، ليرى العالم حجم بشاعتها. لكن في طريق هذا التوثيق قد تُنتهك حرمة جسد أو عائلة. قد ترى عائلة أشلاء ابنها قبل أن تعرف أنّه استُشهد. قد ترى اسمه في وسائل الإعلام بين أسماء الشهداء قبل أن تجد جثمانه. فهل ثمّة خطوط حمراء تُرى عند توثيق المذبحة؟

وضعت مؤسّسات دوليّة قواعد لأخلاقيّات العمل الصحافيّ. فكيف تُطبّق هذه القواعد في زمن يصمت العالم أمام إبادة شعب ومكان وتاريخ ومستقبل، يلهث أبناؤه كي ينقلوا الصّورة فتظهر أمام الأفواه المطبقة علّها تصرخ؟ في زمن صحافة الموبايل، تبدو هذه القواعد عند كثيرين سائلة، تطغى عليها الرّغبة في نقل الحقيقة العارية، مهما كانت قسوتها. وعند آخرين، تخلق هذه السيولة فوضى واختراقاً لخصوصيّة الناس وأجسادهم ومشاعرهم.

هل للجسد حرمة في الحرب؟
مجدي فتحي (34 عاماً) صحافيّ من غزّة. ينقل الصّورة منذ بدء الحرب بمصداقيّة، كما يقول، عاملاً واجبه في نقل كلّ ما يحصل في غزّة. لكن في أوقات كثيرة، يبدو له التصوير اختراقاً لكرامة الناس وخصوصيّتهم. "لا أستطيع نشر صور أشلاء الشهداء. أحاول أن ألتقط الصورة من زاوية أخرى دون المساس بخصوصيّة الشهيد"، يؤكّد مجدي. ويرى أنّ المُشاهد ملّ الصور القاسية والمؤلمة وربّما لم يعد يتعامل معها بحكم العادة. "أفضّل أن أركّز على صور معيّنة في الحرب، توحي بالصمود رغم الألم. أحبّ الصور التي تعكس الحياة اليوميّة في ظلّ الحرب ولا تُظهر الدم والمجازر وحسب".

ولعلّ هذا الحذر في نقل الصّورة، وإن كان يُجري بشكل أوتوماتيكيّ رقابة على نقل الحقيقة، إلّا أنّه سوف يختصر قصصاً مؤلمة على أصحاب الصّور نفسها. فوليد جلامنة (56 عاماً) من جنين، فقد ابنه محمّد شهيداً نهاية كانون الثاني/ يناير 2024 عندما اقتحمت قوّة إسرائيليّة خاصّة بمسدّسات كاتمة للصوت مستشفى ابن سينا في مدينة جنين واغتالت ثلاثة شبّان. محمّد كان أحدهم.

يقول الأبّ وليد، إنّه صعق حين تلقّى خبر استشهاد ابنه عبر تطبيع التيلغرام. "رغم معرفتي أنّ ابني قد يكون مستهدفاً في كلّ اقتحام لمدينة جنين، وأنّه قد يُعتقل أو يستشهد، لكونه مطارداً منذ أكثر من سنة، إلّا أنّ تلقّي خبر الاستشهاد بهذه الطريقة كان صادماً. فبما بالك لو تلقّت خبراً كهذا عائلة غير مهيّأة لاستهداف ابنها"، يتساءل وليد.

من جهته، يوضح حسام عزّ الدين، رئيس لجنة الأخلاقيّات وقواعد المهنة السابق في نقابة الصحفيين الفلسطينيين أنّ قواعد العمل الصحافيّ المهنيّ تشمل احترام خصوصيّة الآخرين عند التغطية وتجنّب نشر صور الشهداء واحترام خصوصيّتهم. "ثمّ إنّ السّبب وراء إقرار قواعد كهذه من قبل نقابة الصحافيين (والمستنبطة من القواعد المهنيّة الصحفيّة العالميّة المتعارف عليها) هو انتشار المحتوى في وسائل التواصل الاجتماعيّ وفوضى المعلومات التي باتت تُنشر عبرها"، يؤكّد عزّ الدين.

صناعة الصور الصادمة وتلقيها

لكن كيف يمكن الصحافيّ، الذي ينقل المشهد في غزّة أو في الضفّة لملايين الناس في العالم، أن يمارس نقداً ذاتيّاً وسط المذبحة والإبادة؟ وكيف يمكن السيطرة على مسألة الحفاظ على خصوصيّة الناس عند تغطية حدث جلل يشعر معه الصحافيّ بأنّه مسؤول عن نقله على حقيقته؟

يقول معمّر عُرابي، رئيس تحرير شبكة وطن الإعلامية، عن تجربة تغطية مؤسسته للحرب على غزّة: "نحن إعلام تحت احتلال. لذلك، ننشر ونفضح كلّ جرائمه بشكل واضح ومفصّل، بما فيها صور الأطفال والشعب الذي يُذبح". ويتساءل: "من نصّب نفسه وصيّاً على أمر الأخلاقيّات التي من المفترض اتباعها في العمل الصحافيّ؟ أنا مع نشر الحقيقة مهما كانت صعبة، ومع فضح كل ما يجري من جرائم".

لكن يبدو أنّ ثمّة دافعاً إنسانيّاً فطريّاً يشعر به الصحافيّ لدى امتناعه عن تصوير مشاهد معيّنة. دافع ربّما يسبق معرفته النظريّة في أخلاقيّات المهنة. الصحافيّ علي سمودي (54 سنة) من محافظة جنين كان من أول الصحافيين الذين وصلوا إلى موقع استشهاد ستّة شبان فلسطينيين، بينهم أربعة أشقاء قصفتهم مسيّرة إسرائيلية عند مدخل مدينة جنين في كانون الثاني/ يناير 2024. لم يستطع سمودي تصوير الشهداء الذين تبعثرت أشلاؤهم في المكان. "كان المشهد مروّعاً. أحد الشهداء مفصول رأسه تماماً عن جسده. والآخر كان دماغه على الأرض. منهم بلا يد، أو ببطن مفتوحة. لذلك لم أستطع تصويرهم. فاخترت أن أكتفي بتوثيق تفاصيل ما جرى وإفادات شهود العيان".

قد لا يختلف شعور المصوّر عن شعور الملتقّي الذي يشاهد هذه الصور في بيته. لكن يبدو بأنّ هنالك من يحرص على مشاهدة الصور القاسية كي يستمرّ في تعاطفه. شروف عيسى (36 عاماً) من الخليل تقول إنّها لم تكن تتحمّل المشاهد الصّادمة في بداية الحرب. لكنّها وبعد فترة بدأت تبحث عن هذه الصّور. فتقول شارحةً : "بعد فترة، شعرت بأنّ تعاطفي خفت. فبدأت أبحث عن صور وفيديوهات الأشلاء غير المغطّاة، وأدمنت مشاهدتها. بل وشاركتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي". وتضيف: "أشعر بأنّ الصور المظلّلة تظلّل أيضاً تعاطفي ومعرفتي لحقيقة وحجم ما يجري".

إعلام مشتبك. لكن أين هي الخطوط الحمراء؟
تقول الكاتبة والباحثة الإعلاميّة هداية شمعون من قطاع غزة، بعدما ساهمت في صياغة محور أخلاقيات الصحافة في الإعلام الحربيّ ضمن مساق أخلاقيات الإعلام الذي تدرسه جامعات فلسطين: "نحن لسنا مجبرين بعد الآن بالتسليم للنظريّات الغربيّة، بما في ذلك أخلاقيّات العمل الصحفي"، مضيفةً: "إنّ نظريات الأخلاقيات الصحافيّة لم تعد تصلح في فلسطين، ويجب أن نضعها خلف ظهورنا".

يوافقها الرأي معمّر عُرابي، الذي يقول إنّنا نحتاج لإعلام مشتبك ومنحاز لشعبه. إعلام تفرض أخلاقياته المهنيّة عليه أن ينحاز للإنسانية ولشعبه وأن ينشر الحقيقة بمصداقية، وأن يحارب من أجل رفع الوعي، دون أن يلتفت لمعايير غربيّة تهدف إلى طمس الحقيقة، تحت مسمّى أخلاقيّات مهنة الصحافة البرّاقة".

لكنّ الحدود بين الصحافيّ الذي يحارب من أجل الحقيقة وبين ذاك الذي يفزع لمرأى أبناء شعبه وهم يتمزّقون تكاد تكون ذائبة. فمثلاً، لم يصوّر الصحافيّ مجدي فتحي الكثير من شهداء غزّة. "ثمّة جثث وأشلاء كثيرة لم ألتقط لها صوراً. تجنّبت تصوير أشلاء الأطفال أو الأطفال الذي تعرّضوا لجروح بالغة سيّما في الوجه. فأذهب نحو اليد أو نحو أجزاء أخرى سليمة من الجسد. هكذا يستطيع الإعلام أن يتداول هذه الصور التي تتكلّم بنفسها عن الجريح أو الشهيد، فبالإمكان توقّع قسوة الحالة التي يكون عليها الجسد إن لم نصوّره كاملاً"، يقول فتحي.

تؤكّد شمعون أنّ الصحافيّ الفلسطينيّ اجتهد دوماً في عدم نشر صور الأشلاء أو أسماء الشهداء قبل الرّجوع إلى مصادر رسميّة. إلا أنّ الحرب غيّبت المسؤولين والمتحدّثين الرسميّين. "كلّ السلطة الحاكمة في غزّة في حالة إبادة"، تقول، مضيفةً: "في ذات الوقت، لا تزال هنالك إشكاليّات تتمّ مناقشتها في الأوساط الصحافيّة حول قواعد النشر، سيّما مع وجود محتوى يتمّ إنتاجه من قبل المواطن العادي غير العارف بما لا يجب أن يُنشر أو بما قد يعرّضه للمساءلة".

تؤكد شمعون على أنّ ثمّة محتوى كبيراً يتجاوز الخطوط المقبولة وينتهك أخلاقيّات النشر، كالكشف المتسرّع عن أسماء الشهداء دون الرّجوع إلى أهاليهم أو إلى جهات رسميّة. وكنشر صور الأطفال المشوّهين. "من يتحمّل رؤية فلذة كبده بهذا الشكل؟"، تتساءل. ثمّة كذلك صور يظهر فيها أطفال جوعى وهم يأكلون العشب دون أخذ إذن من وليّ أمرهم.

ازدواجيّة في المعايير
تتحدّث الباحثة شمعون عن ازدواجيّة المعايير في هذه المسألة قائلةً: "لقد خالفت أقوى وأكبر وسائل الاعلام الغربيّة كلّ أخلاقيات العمل الصحافيّ المتعارف عليها دولياً، عبر ترسيخها للسرديّة والرواية الإسرائيليّة دون أدلة أو وثائق، وتجاهلت الرواية الفلسطينيّة وشكّكت فيها وكذبتها رغم الحقائق الدامغة والواضحة".

وتضيف: "في المقابل، تناول وعالج الإعلام الرسميّ الغربيّ الحرب على أوكرانيا بصورة مختلفة. وهو ما يثبت ازدواجيّة معايير تلك المؤسسات الإعلاميّة، وسقوطها في الامتحان الحقيقي في حرب الإبادة الجماعيّة على غزة والذي لا يزال مستمراً".

بدوره، يشير حسام عزّ الدين إلى الانتهاك الواضح لأخلاقيات وقواعد المهنة من قبل الصحافة الاجنبيّة خلال الحرب الحاليّة. كثيرون من هؤلاء الصحافيّين مرّروا دورات في الأراضي الفلسطينيّة حول القواعد الصحافيّة، يقول عزّ الدين. "وفي الوقت الذي يُمنع فيه الصحافيّ الأجنبيّ من دخول غزّة لتغطية الحرب، نجدهم بكثرة في القدس. تتلقّفهم الماكينة الإعلاميّة الإسرائيليّة ويتم اصطحابهم للتغطية من مستعمرات غلاف غزّة، ويحدث أيضاً أن يتحدّث صحافيّ في إحدى وسائل الإعلام الأجنبيّة على أنّه إسرائيليّ"، يضيف عزّ الدين. ويردف: "إذاً، المشكلة ليست في الاخلاقيّات والقواعد، وإنما في مدى الالتزام بها وتطبيقها على أرض الواقع، سيّما من قبل الإعلام الأجنبيّ الذي جاء من مكان ولادتها".

صحافة الموبايل
"في كثير من الحالات التي يتمّ فيها إنتاج محتوى بشكل فرديّ عبر الموبايل، يفتقر المحتوى إلى الدقّة والموضوعيّة والالتزام بأخلاقيّات العمل الصحافيّ. لكن على الرّغم من ذلك تسهم صحافة المواطن في إعادة بناء الوعي الفلسطينيّ تجاه الصراع الوجوديّ الذي يواجهه وفي إيصال الرسائل للعالم الخارجيّ وتقديم سرديّات بديلة توثّق انتهاكات الاحتلال دون عوائق بيروقراطيّة وسياسات تحرير"، يقول د. إبراهيم حروب، أستاذ الإعلام التفاعلي والاتصال في جامعة بيت لحم. وكانت حروب نشر العام الماضي ورقة علمية حول طبيعة صحافة المواطن في فلسطين في إحدى المجلات البريطانية.

ويضيف: "إنّ الدور الذي تؤديه صحافة المواطن في الكفاح من أجل حرية التعبير هو بالغ الأهميّة في ظلّ القيود والتعقيدات التي قد تؤثّر على عمل وسائل الإعلام التقليديّة، فالأولى تقدّم الحقائق الكاملة وتعمل على تعبئة الرأي العام على الصعيدين المحليّ والدوليّ".

وترى هداية شمعون أنّ أخلاقيّات العمل الصحافيّ هي جزء من محاكاة الواقع التاريخيّ والسياق الثقافيّ والأخلاقي لدينا، وهي طاقة متجدّدة ولا تقف عند نظريات تاريخيّة وحسب. بل هي مستقاة من واقع التجارب الفلسطينيّة، ومنحوتة من تاريخ من حروب الاحتلال الإسرائيليّ. "ينبغي أن نحلّل أرشيفنا البصريّ لنتمكّن من تشكيل التجربة والمصطلحات الفلسطينيّة الخاصّة بالتغطية الصحافيّة للحروب. ما يسهم في تحقيق التزامنا بها استناداً إلى إنسانيّتنا والتزامنا الأخلاقيّ كمتخصّصين"، تؤكّد شمعون.

تظلّ الخطوط والفواصل سائلة بين ما هو أخلاقيّ وما يخترقه وبين الحفاظ على حرمة الجسد وبفضح الجريمة، وبين احترام دموع الفاقد ونشر حزنه كي يتعاطف العالم معه. ولعلّ هذه الخطوط أكثر سيولةً في زمن الحرب، زمن الإبادة التي يشاهدها العالم، بتفاصيلها الدقيقة والقاسية، عبر هاتفه.

 

المصدر: "رصيف 22"

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير