مبادرات صديقة للبيئة في زمن الكورونا فهل تستمر؟

14.06.2020 11:08 AM

وطن- تقرير: ربى عنبتاوي

لا يقف البعض مكتوف الأيدي وغارقاً في حالة من الملل والسخط في ظروف الكوارث والأزمات، بل يبحث عن هواية مفيدة منتجة، هذا ما رصدته "مجلة آفاق البيئة والتنمية" من خلال متابعتها لصفحات كثيرٍ من الأصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي في ظل جائحة كورونا، والتي ألقت بظلالها على العالم بأسره منذ آذار الماضي.

كثير من تلك  المبادرات كانت بأبعاد صديقة للبيئة، تعزز من ثقافة الإنتاج أمام نزعة الاستهلاك، والأجمل أن أصحابها كانوا غارقين ما قبل الكورونا بمهن بعيدة عن هذا المضمار، إلا أن كورونا جعلتهم يقومون بأعمال حيوية، فباتوا أناساً أكثر إلهاما وتأثيراً ايجابياً على الآخرين.

متابعة بسيطة مع أصحاب المشاتل ومحلات الأدوات الزراعية في الضفة الغربية، تؤشر إلى تزايد الإقبال على الزراعة خلال الجائحة بشكل ملحوظ، وخاصة فيما يتعلق بشراء شتلات الخضار والأشجار المثمرة والبذور، كما لا يمكن إغفال دورِ كثيرٍ من مؤسسات المجتمع المدني بالتعاون مع وزارة الزراعة في تدعيم القطاع الزراعي، من خلال توزيع شتلات مجانية على كثير من القرى والمحافظات.

تدوير البلاستيك لصنع مفارش وحقائب

منال البُطمة، سيدة فلسطينية من بيت لحم، تعمل مهندسة معمارية في مكتب خاص، رغم إبداعها في مجال دراستها؛ إلا أن شغفها وحبها للطبيعة وهي ابنة قرية بتير الجميلة المحاطة بالخضرة والماء، جعلها تمارس هوايات صديقة للبيئة وجدت ذروتها خلال فترة الجائحة، حيث فُرض حجرٌ عام على الضفة الغربية وبشكل خاص منطقة انتشار الوباء الأولى "محافظة بيت لحم".
تعرضُ البُطمة أشغالها على صفحتها على الفيسبوك "تروشيه"، الاسم الذي لم يأتِ صدفة بل جاء نتيجة دمج المفهوم الذي تعمل عليه؛ وهو حياكة أكياس البلاستيك المقسمة إلى خيوط بالصنارة الواحدة الكروشيت مع المخلفات البلاستيكية Trash. تعشق البطمة البيئة منذ الصغر، وتؤمن في حياتها بـالثلاث Rs، (Reduce –Reuse- Recycle) ، فلا تتسوق إلا بكيس حاكته بنفسها من البلاستيك، ولا تستهلك مواد بلاستيكية إلا للضرورة، وتعيد تدوير ما يمكن استخدامه كالبلاستيك أو الخشب أو المواد العضوية (الكومبوست) أو تحولها لأعمال فنية.

تعلمت عاشقة التدوير مهارة حياكة البلاستيك من خلال فيديوهات مجانية عديدة على اليوتيوب، فصنعت منها حقائب، أكياس شراء، مفارش للطاولات، غطاء للموبايل والمناديل. لا تهدف البطمة من أعمالها للربح فهي تقدمها هدية للمهتمين، وتسعى لتعميم تجربتها على أوسع نطاق لأنها تمتعض من رؤية النفايات في الأماكن العامة، وترى أن البيئة يجب أن تُراعى أكثر من قبل مواطنيها.
تقول المهندسة التي كثفت من أعمالها بشكل ملحوظ خلال الجائحة، بأن حياكة البلاستيك غير مكلفة نهائياً فالمواد الخام متوفرة في البيوت والطرقات، وكل ما يحتاجه الهاوي هو صنارة  ومقص وذوق في تنسيق الألوان. "بهذه الهواية نحول الكيس من استخدام واحد إلى استخدام لفترة طويلة... الأمر ممتع وملهم وعلى الناس أن تدرك أهمية التدوير للحفاظ على البيئة". ختمت البطمة.

العودة للجذور

حول العودة للجذور المفاجئ في ظل الجائحة، تروي صانعة الأفلام الوثائقية "امتياز المغربي" للمجلة، قصتها مع الزراعة وكيف سخرت أرضاً مهملةً قرب بيتها المستأجر القديم في مدينة البيرة لزراعة الخضار والأعشاب الطبية.

"قبل يوم واحد من فرض الحجر المنزلي، توجهت إلى مشتل بمدينة رام الله، وقمت بشراء عدد من أشتال الخس والميرامية والبندورة والفلفل والبصل والثوم، بالإضافة إلى بذور البقدونس والكزبرة والجرجير، زرعتها في قطعة أرض قمت بتنظيفها بنفسي بعد أن كانت مكباً للنفايات، بذرتُ البذور، ووضعت الأشتال وسمدتها وواظبت على ريّها، حتى جاء اليوم الذي أكلت فيه نتاج ما زرعت، وكان الثمر له مذاق وطعم مختلف، لقد كان بنكهة الصبر والإرادة وحب الأرض". تقول المغربي
جاءت فكرة الزراعة للمغربي لتحقق جزءا من الاكتفاء الذاتي، خاصة أنها باتت بلا عمل في ظل الجائحة، كما كانت ترغب بتعميم تجربتها على جاراتها، فقامت بتوزيع بعض الثمار عليهم.

"أنا لاجئة من قرية سلمه قضاء يافا في الداخل الفلسطيني المحتل، ولدتُ في مخيم بلاطة للاجئين الفلسطينيين، وهناك كان أبي يزرع النعنع والجرجير في المساحة المتاحة ببيتنا ضمن أحواض صغيرة...، ربما انه الحنين لقريتي هو ما جعلني أمارس الزراعة بشغف، رغم حرماننا من المساحات الزراعية في المخيم المكتظّ بالبيوت الإسمنتية". تختم المغربي التي بدأت في أيار بزراعة الموسم الصيفي.

داغر: الأرض الحضن الدافئ والشفاء

تحليلاً لعودة الكثيرين للأرض والزراعة ونزعة تقليل الاستهلاك التي فرضت عليهم، وهل هي مستدامة أم لحظية في ظل الجائحة. يرى المهندس الزراعي والداعم الأول لمفهوم الزراعة البيئية "سعد داغر" ذلك من خلال فهم علاقة الأرض بالإنسان:
"ما لمسته من خلال الجائحة، هو نداء الطبيعة والأرض للإنسان، بأن شفاؤه النفسي والجسدي في كنفها، وهناك الكثير ممن استجاب لهذا النداء هروباً من حالة التوتر النفسي واللايقين ونقص المعلومات حول المستقبل بفعل الوباء..، في خضم كل ذلك صرخت الطبيعة: أنا الحضن الدافئ والشفاء".

التعلم من الدروس المستفادة

ومن متابعة داغر المباشرة  أو من خلال مئات الرسائل التي وصلته طلباً لاستشارات ونصائح زراعية، فكثير من الناس لجأت للزراعة سواء في أرض تملكها أو شرفة أو حديقة في منزلها أو حتى أصص زراعية على نوافذها، وكأنها بحثت عن ملجأ في وقت الأزمات.
وأشار إلى ضرورة تعلّم الدروس والعبر من الجائحة، وهو الالتصاق بالأرض وعدم تذكرها وقت الأزمة فقط، بل الاستعداد دائماً لمواجهة أي طارئ من خلال الاعتماد على مشاريع تعزز الأمن الغذائي والزراعات المعتمدة على الذات التي لا تتطلب أي مدخلات خارجية بل محلية. لكنه أبدى تخوفه من رجوع الناس لعاداتهم القديمة أو حياتهم الطبيعية "غير الطبيعية" من بُعدٍ عن الأرض، واستهلاك أكثر بعد انتهاء الجائحة.

ما ثبت فعلياً وفق داغر، أن المؤسسات والحكومات لم تكن مستعدة لمواجهة الحالات الطارئة ما أدخلها في حالة إرباك، وتبين أن كثيراً من الاستراتيجيات والخطط والأفكار التي طُرحت فلسطينياً لا تُناسب الحياة بشكل عام. فعلى سبيل المثال؛ فإن تركيز المشاريع كان على قضايا لا تُعزز الاعتماد على الذات، بل تزيد من ارتباط المزارعين بالمُدخلات الخارجية واعتمادهم على قنوات التسويق المتحكمة بالمزارع، والتركيز على دعم الزراعات التصديرية على المساحات الكبيرة، بدلاً من  التركيز على الحيازات الصغيرة القادرة على إنتاج الغذاء، فأرض بزراعة مكثفة مختلطة بمساحة 20 متر مربع، وفق داغر، قادرة على تحقيق الأمن الغذائي أكثر من 100 دونم مزروعة بصنف واحد.

مشاريع تعتمد على الاكتفاء الذاتي والحيازات الصغيرة ودمج الشباب
"خلال الجائحة، اعتز أن ارضي استطاعت تأمين غذاء لي بنسبة 80% ما يكفيني ويكفي جيراني، فأنا منذ سنوات أُنتج أشتال وبذور بلدية". يفتخر داغر

سعى داغر خلال هذه الفترة إلى استغلال الجائحة لنشر فيديوهات حول الزراعة البيئية، لإفادة الكثير من الناس المهتمين بالعودة إلى الأرض، بحيث توضح طرقَ الاعتماد على الذات والزراعة دون حراثة، وذلك بجهد اقلّ وبتكاليف تقترب من الصفر.
ونادى صاحب الدعوات الدائمة لاعتماد الزراعة البيئية، إلى استغلال إقبال الأطفال مع أهاليهم في الحقل والحديقة خلال الجائحة، والبناء عليها في الخطط والاستراتيجيات عبر مشاريع تستهدف أكثر هذه الفئة وتعزز روابطهم بشكل ذكي وفعال مع الطبيعة والبيئة، ما يساهم في إبعادهم قليلاً عما يفسد العقول ويعزلهم عن محيطهم كالموبايل والشاشات اللوحية.

العودة للطبيعة من وجهة نظر نفسية

تقول مديرة مركز الإرشاد الفلسطيني "رنا النشاشيبي" أن عودة كثير من الفئات المجتمعية خلال الجائحة للطبيعة والزراعة وتقليل الاستهلاك مقابل إنتاج أكثر، ترتبط برغبة الإنسان الفطرية للتأقلم مع الظروف وخلق حالة من التوازن النفسي، وذلك بأن ينزع نحو الإنتاج عبر مشاريع منزلية منها العمل في الأرض والزراعة، لأن فيها إنتاجية وشعور بالقدرة على العطاء، والشعور بالسيطرة والفخر وأن الإنسان مثمر بالحياة. والزراعة، وفق النشاشيبي، فيها تطور وتجدد وحياة وهذا ينسجم مع رغبة الإنسان بالخلود.

النزعة للخلود

وترى النشاشيبي صاحبة الخبرة الواسعة في الإرشاد النفسي، أن الأزمة دائما قد تكون فرصة، مؤكدةً أن هناك اختلافات وظواهر سلبية في التعاطي مع الجائحة فليس جميعها مشرقٌ، ولا يمكن تعميم المبادرات بأنها حالة عامة، لكن مما لوحظ منها؛ فهي بلا شك نزعات وهبات ايجابية، يعزوها مشكلة واحدة وهي الاستمرارية، فمهما كانت المبادرة عظيمة وخلاّقة ومبدعة، لكن هل تحمل بذور الاستمرارية؟ تسأل النشاشيبي. وهل الهدف منها خدمة الأجيال القادمة أم تحقيق مصالح آنية ونشوة مؤقتة تزول مع الوصول للأهداف المرجوة؟

"المبادرة لتكون ناجحة فعليها أن تحمل صفة الاستمرار في الإنتاجية،  والبعد عن الأنانية وليس لأهداف المتعة المؤقتة والسريعة". ختمت النشاشيبي

يذكر أن جائحة كورونا قد فرضت حالة من الحظر الشامل على جميع مرافق السلطة الفلسطينية ومؤسساتها ومنشآتها الاقتصادية، ما شلّ الحركة والحياة عموماً على غرار كثير من دول العالم، وذلك بدءاً منذ الخامس من آذار الماضي،  إثر تسجيل سبع حالات مصابة بالفيروس في محافظة بيت لحم. ليستمر الحظر مع بعض الإجراءات التخفيفية حتى أواخر شهر أيار، حيث أعلنت الحكومة عودة الحياة إلى طبيعتها في العديد من مرافق الدولة وخدماتها باستثناء المدارس والجامعات، وقد وصلت الإصابات المسجلة من قبل وزارة الصحة إلى 628 إصابة حتى تاريخ نشر المقال.

يبحث البعض في ظروف الكوارث والأزمات عن هواية مفيدة منتجة. هذا ما رصدته "مجلة آفاق البيئة والتنمية" من خلال متابعتها لصفحات كثيرٍ من الأصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي في ظل جائحة كورونا، والتي ألقت بظلالها على العالم بأسره منذ آذار الماضي.
كثير من تلك  المبادرات كانت بأبعاد صديقة للبيئة، تعزز من ثقافة الإنتاج أمام نزعة الاستهلاك، والأجمل أن أصحابها كانوا غارقين ما قبل الكورونا بمهن بعيدة عن هذا المضمار، إلا أن كورونا جعلتهم يقومون بأعمال حيوية، فباتوا أناساً أكثر إلهاما وتأثيراً ايجابياً على الآخرين.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير