أنسي الحاج.. المجدّد وراهب الشعر والجمال

22.02.2014 05:47 PM

وطن - وكالات: كل الأوقات مواتية لقدوم ورحيل الشعراء الكبار، ولا أحد يملك الحق في أن يصادر حقهم في يأتوا ويرحلوا متى أرادوا، تماما مثل أنسي الحاج الذي رحل في عز الحلم-الجرح العربي، مخلفا "بعضا" من الدواوين، عملا بمقولة "كل مكثر في الجودة مقلّ في الإنتاج"، وأمة من الشعراء الذين أحبوه وقرؤوه وربما كتب بعضهم مثله.

حين أعلن الشاعر أنسي الحاج عن نفسه من خلال "لن" أول مجموعة شعرية نثرية عربية عام 1960، كان الشعر العربي بحاجة إلى هذا الإعلان، حتى يعزز خطوة تحديثه التي خطاها السياب ورفيقته نازك الملائكة من قبل، ثم خطوة مجلة "شعر" التي كان أحد مؤسسيها عام 1957رفقة يوسف الخال وأدونيس وآخرين، والتي ساهمت -رغم كل الإكراهات- في جعل الشعر الحر حقيقة في المشهد الشعري العربي.

يرحل صاحب "الرأس المقطوع" عن سبعة وسبعين عاما، محدثا ضجيجا بين محبيه، وهو الذي عرف ببعده عن الضجيج نفسا ونصا.

الجزيرة نت اقتربت من بعض الشعراء العرب، واستطلعت آراءهم في تجربة صاحب "الرسولة بشعرها الطويلة حتى الينابيع" إنسانا وفنانا.

يقول الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير إن أنسي الحاج قامة شعرية عربية وازنة، ولم يؤثر غيابه الجسدي عن المحافل في أن يصبح حقيقة شعرية مكرسة بفعل محصلة إنتاج عمره نصف قرن.

ويضيف صاحب "حديث النهر" في تصريحه للجزيرة نت أنه يعتقد أن أنسي الحاج هو الشاعر العربي الوحيد الذي كان يجاهر بتقديره للجمال، وقد عاش وكتب كل شعره وفاء له "إننا نودع اليوم شاعر الجمال".

ويرى الشاعر التونسي نور الدين بالطيب أن أنسي الحاج أسس -بإصداره لمجموعته الأولى "لن"- مسارا خاصا في المدونة الشعرية العربية التي كانت بمثابة بيان التأسيس لقصيدة النثر التي كان أحد فرسانها، إن لم يكن فارسها الأبرز، ويبدي بالطيب إعجابه بخيار الراحل، والمتمثل في نأيه الدائم عن "المليشيات الشعرية" وما يتبعها من مهرجانات وجوائز، فقد كان مكتفيا بالإنصات لأصوات نفسه فقط، مثل نهر من الجمال لا يتوقف.

ويشير صاحب "دوز ذاكرتي" إلى أن العطاء الشعري لأنسي الحاج لم يكن منفصلا عن عطائه الفكري وموقفه السياسي في انتصاره للحداثة والجمال ضد ثقافة الظلام والطائفية التي دمرت الكثير من طاقات لبنان الجميل والمتعدد، وقادته إلى حرب طاحنة مازالت تداعياتها متواصلة.


يقول أنسي الحاج في "خواتم" التي تعد بيانا فكريا وجماليا قرأ من خلاله الوجود "يداكِ الخفيّتان تفتحان أبوابي الخفيّة"، مؤسسا لنظرة مختلفة إلى المرأة في الشعر العربي، تقوم على التماهي لا الاستحواذ.

وفي هذا الصدد، تقول الشاعرة الجزائرية نوارة لحرش إن أنسي الحاج لم يوظف المرأة كصورة لتزيين نصوصه، لكن المرأة كانت توجد في كتاباته من تلقاء الحب والشغف، فهي في شعره كيان كامل الأوصاف ومكتنز الحياة، بل هي الحياة ذاتها.

وتضيف صاحبة "نوافذ الوجع" للجزيرة نت "يكفي أن أنسي أخذ المرأة في شعره إلى الينابيع الطويلة، لم يبرز صورتها في كلمات جافة أو متخففة من المعنى الحميم الذي يليق بمكانة المرأة/ الكون. إنها الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع. ومن غير أنسي، يصطفي المرأة رسولة في شعره وفي نثره وفي أغنياته وينابيعه؟".

ويؤكد -من جهته- الشاعر المغربي إدريس علوش أن صاحب "ماضي الأيام الآتية" عاش مقولة بن عربي "كل ما لا يؤنث لا يعول عليه" فكتب امرأة تفيض في القصيدة، لتعيد التوازن إلى جدوى الحياة وأفق انتظاراتها. فالقصيدة عند أنسي الحاج  أكثر من أفق وحلم وامرأة تستظل الحواس بكينونتها، وتعيد البوصلة إلى القلب وشرك المعنى.

وختم صاحب "الطفل البحري" أن أنسى الحاج -إنسانا أولا وشاعرا في مرتبة التماس المباشر والحي بشأن الإبداع وقضاياه- لم ير المرأة يوما فصيلة من الزواحف، وهي الأنثى أساس الفيض والخصب والعطاء وتوأم القصيدة القصوى ضمن رؤيته للكون والعالم والمحيط والمجال والكتابة، لقد ظل وفيا للمرأة القابعة بين العقل والجمال".

وفضل الشاعر والأكاديمي الجزائري فيصل الأحمر أن يكون تصريحه للجزيرة نت رسالة موجهة إلى الفقيد الكبير الذي سبق له أن التقاه "تذكر صديقي؟.. كنت أنا صغيرا لأنني حديث عهد بالحياة، وكنت أنت تقول إنك صغير لأنك جربت الكثير. انتظرت أنا أن أكبر كفاية وظللت أنت خائفا من الكبر، لأن كل من حولك صار "الشاعر الكبير" والشاعر الكبير -كما تعتقد- يخرج من الكلمات ليدخل كتب التاريخ، "فينام لكي لا يستيقظ مرة أخرى".

ويضيف صاحب "ساعة حرب.. ساعة حب" مخاطبا الشاعر الراحل "كنت طالبا في جامعة قسنطينة، وكنت أخشى قصيدة النثر، فسألتَني ساعتها: كيف تحب السرياليين وتكره قصائد النثر العربية؟ أليس ذلك تناقضا؟ لم أقل شيئا، انتظرت أن تكمل أنت، ولكنك ظللت صامتا، كبار الشعراء ذوو الشباب الأبدي قليلو الكلام. ولا زلت أكرر في صمتي الصاخب كلماتك الجميلة تلك التي بثثتها لي في لقائنا الأول: إذا أكون رسولاً، كلامي كأغصان يتدلّى على القلوب، إذا أكون مبشراً فماذا بغير الحب؟".

وسألت الجزيرة نت فيصل الأحمر عما تعلمه من لقاء أنسي الحاج، فواصل يخاطبه كأنه هو السائل "علمتني أن أترك اللغة تتكلم، وأن أقدس الحرية لأنها جمال، لا أن أقدس قيود الجمال. علمتني أن أقول الحقيقة لأنها فن...لا أن أتفنن في الكذب على منوال الآخرين. علمتني -كما علمت الجميع- أن أبدأ كل الجمل الإخبارية والاستعطافية والإشراقية، وحتى الاستفهامية بلافتة الرفض: لن".

تصميم وتطوير