زينب الغنيمي تكتب لوطن من غزة: بمناسبة الأول من مايو-أيار، عيد العمال، نتمنى لكلّ العاملات والعاملين الفلسطينيين السلامة والنجاة

08.05.2024 08:37 AM

اليومان السابع و الثامن بعد المائتين لحرب الإبادة على غزة، 30 أبريل و1 مايو، 2024

قبل يومين حدث حوارٌ مدهشٌ بعض الشيء في المنزل، عندما أخبر ابن قريبتي على والدته بأن لا تطلب منه أيّ عملٍ يوم الأربعاء، ولمّا استفسرت عن السبب باستغراب ردّ عليها: "الأربعاء هو الأول من أيّار عيد العُمّال ونحن في هذه الحرب أصبحنا عُمّالاً بدل أن نكون طلابًا".

صحيح، هذا هو الحال الذي نعيشه منذ شهورٍ طويلة في ظلّ العدوان الصهيوني على قطاع غزة. فهذا الشاب، مثلًا، يقوم يوميًا بتعبئة مياه الشرب من خلال جرّ الجالونات على عربة، كما يقوم بتعبئة المياه للاستخدامات الأخرى، وليس فقط لنا، بل لمعظم أهالي الحي تقريبًا -لأننا نملك، دون غيرنا- خرطومًا بلاستيكيًا طويلًا اشتريناه مع بداية الشهر الثالث للعدوان على إثر استمرار انقطاع المياه، لنتمكّن من وصله بموتور سحب المياه من الشارع الآخر-. يقوم هذا الشاب أيضًا بالتعاون مع أخيه الأصغر بجمع الأخشاب وتقطيعها كي تكون حطبًا لنوقد نار الطهي وتسخين المياه، عدا عن مشاركته مع أخيه بالذهاب للسوق كي يلبي حاجتنا من المشتريات المتنوعة، وهو بذلك يجد نفسه عاملا يستحق إجازة، في حين أنّه لا يأخذ حتى أجرًا على عمله.

قالت له والدته: "أنا كمان بدّي إجازة لإنّي عاملة خمس نجوم، عم بعمل شغل ستّي اللي كانت تشتغله قبل 70 سنة، بأعجن 50 لـ70 رغيفًا وانهديت من العرك، وبأخبز وبأطبخ على الحطب، وبأغسل على إيدي وبأطلع 3 مرات يوميًا عدّة طوابق على سطح المبنى عشان أنشر الغسيل، غير الجلي وتنظيف البيت، وبرضه أنا عاملة بدون أجر، وكلّ النساء هيك حاليًا سواء ربّات البيوت أو اللي كنّ عاملات بأجر قبل هذه الحرب، وإذا كُل واحد فينا بدّو إجازة يعني لا أكل ولا شرب ولا إشي مُفيد راح يصير في يوم عيد العمال".

جعلني هذا الحوار أتأمّل أوضاع العاملات والعمال في قطاع غزة في ظلّ هذا العدوان الفاشي، والذي دمّر كُلّ جهدٍ وتعبٍ لهم ولهنّ خلال سنوات الحياة الصعبة، حيث يحلم الشخص منهم ببناء منزله بعد شقاء ثمّ يراه ينتهي في ثوانٍ معدودةٍ في غارة طيران على كل المربّع السكني الذي يقيم فيه. في قطاع غزة، تحوّل كُلّ مواطنٍ ومواطنةٍ إلى عاملٍ وعاملة بدون أجر لأنّ الجميع يقومون بعملٍ منزلي مُرهقٍ جدًا، ومن ناحية ثانية ليس بالإمكان عودة العمال والعاملات للعمل كما كانوا في السابق.

في مدينة غزّة وشمالها لا توجد أيّة فرصة لأيّ شخص للعودة إلى وظيفته، أو أن يُمارس عمله الخاص في المكتب أو المحل أو الشركة أو العيادة سواء كصاحب أو صاحبة عمل، أو كعاملٍ أو عاملة بأجر.

فئة محدودة من الناس يعملون ويعملن مقابل أجر، سواء في مؤسسات المجتمع المدني، أو القليل من الرجال الذين يعملون في مهنٍ يتقنوها مثل الحدادة والنجارة والسباكة وتصليح العربات والسيارات وهذه مهنٌ رائجةٌ حاليًا في ظروف هذا العدوان البغيض وكميّة الدمار والإصلاحات المطلوبة لأبسط الأشياء. كما يعملون في البسطات المؤقتة على الأرصفة أو مفترقات الشوارع، ليبيعوا المعلّبات بأنواعها، والسمنة والزيت، والمكسّرات، والخضار، واللحوم المجمّدة، وأيضًا الملابس والأحذية والأدوات المنزلية. هذا بالطبع فقط منذ انتهاء عيد الفطر ودخول البضائع للتجّار بالإضافة لمواد المساعدات التي يحصل عليها الناس ويقومون ببيعها لحاجتهم الماسّة للنقود. وقد انتشرت كذلك مهنةٌ جديدة وهي بيع دقائق استخدام الإنترنت عند المفترقات المرتفعة ويعمل بها عادةً الشبّان الصغار.

الواقع هو أنّ الأيدي العاملة مُتعطّلة، والوظائف الرسمية مُتعطّلة أيضًا، حيث لا وزارات أو هيئات ودوائر رسمية، ولا مدارس أو معاهد أو جامعات، ولا رياض أطفال أو دور حضانة، ولا مستشفيات ولا محاكم. كُلّ شيءٍ مُعطّل بسبب هذا العدوان البغيض الذي دمّر نحو 90% من البنية التحتية والفوقيّة في القطاع.

وبهذا، ونحن نرى كيف تُسحق حقوق العاملات والعمال وأجسادهم وأجسادهنّ تحت الصواريخ القاتلة وكيف سُحقت المنشآت الزراعية والتجارية والصناعية والعلمية تحت جنازير الدبابات الصهيونية، يصبح السؤال: ما الذي يعنيه الأول من أيّار-مايو للطّبقة العاملة القديمة والجديدة في قطاع غزة؟

لفت انتباهي وأنا أتأمّل هذا الوضع وأتصفّح مواقع الأخبار بيانات وتقارير صادرة عن مؤسساتٍ نسوية وأخرى نقابيّة تتحدث عن يوم العمال العالمي، وعن حقوق العاملات، وعن أرقامٍ وبياناتٍ مُتداخلة سواء للقوى العاملة أو للشهداء والشهيدات في قطاع غزة، وهي ذات التقارير التي صدرت ببنية مشابهة في نفس المناسبة أو غيرها، حيث تتحدّث كُلّها عن أرقام ونسب ومُعطيات سوق العمل وعن ضعف مشاركة النساء وعن انتهاك حقوقهن في سوق العمل، وماذا بعد؟ لاشيء، وفي الحقيقة سيظلّ ثُلث الشعب الفلسطيني غائبًا رقميًا وواقعيًا عن واجهة الحدث، وهو الثلث المُقيم في قطاع غزة، وستبقى الوقائع والأرقام والتفاصيل الواردة في تلك البيانات متعلّقة بثلثي الشعب المقيم في الضفة الغربية. ومنذ الآن وحتى يأتي الأول من أيّار مرّةً أخرى في العام القادم، نأمل أن تتعدّل هذه البيانات كي تشمل الطبقة العاملة في قطاع غزة أيضًا، ولا نملك الآن سوى القول "كُل عام والعاملات والعمال في كُلّ فلسطين بخير".

زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف والحصار

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير