في معنى السقوط ..بقلم: الياس خوري

23.08.2011 06:54 AM

معمر القذافي يتهاوى، الديكتاتور في لحظاته الأخيرة، مترنحا امام السلطة التي تتداعى امامه. فجأة يكتشف العقيد ان كل ما بناه كان رملا بني على الرمل، وانه ضعيف وخائف ومثخن بالجراح.

يا ليتنا نستطيع ان نكتب تراجيديا عن احد هؤلاء القتلة الذين استباحوا العالم العربي اربعة عقود. وهذا من اجلنا لا من اجلهم. يا ليت احدهم امتلك مبدأ او فكرة كي نقول ان الخطأ ايضا قد يكون تراجيدياً وان تاريخنا لم يذهب هباء.

لكن مهما جنح بنا الخيال فاننا لا نستطيع ان نكتب مرثية الديكتاتور، فالبلاهة حكمت حيواتهم الخالية من المعنى. لا نستطيع ان نروي سيرة احدهم كحكاية انسانية، لا كاليغولا ولا نيرون، لا قيصر ولا بروتس، مجرد اقزام احتلوا حياتنا على اشلاء بطل تراجيدي وحيد اسمه جمال عبدالناصر.

عبدالناصر يستحق حكاية، بسبب ابو زعبل وجثة فرج الله الحلو المذابة بالأسيد، فالرجل كان سيدا في القمع وقائدا يمتلك رؤية ما وانتهى كبطل تراجيدي. اما ورثته الصغار، فكانوا نسخا مشوهة لا تمتلك اي حس تاريخي، ولا تستحق رثاء او حتى كلمة تشفٍ وانتقام.

ماذا يمكن لمن يكتب عن العقيد الليبي ان يكتب؟

لا شيء، صفحة بيضاء تنتهي في السطر الأول، تكفي كلمة واحدة كي تقول كل شيء: العته. رجل معتوه قاد بلاده اكثر من اربعين عاما في معارج الفراغ والخزعبلات والقمع الدموي والهستيريا.

لا ادري ما رأي اصدقائنا من 'مثقفي' ذلك الزمن الذين دبجوا المقالات واحتفلوا بأعياد الفاتح، ورقصوا على ايقاع خطب هذا الرجل، وتمتعوا بماله الوفير. فلقد اصيبوا واصبن بالصمت، واختفوا عن المسرح، او ابتعدوا مؤقتا في انتظار ان يبرز معتوه جديد.

اتمنى فعلا ان اقرأ شيئا ما يفسر لي جنون العقيد ويعطيه معنى ما. نحن في حاجة الى تفسير كي لا تكون اربعة عقود مجرد لا شيء. نحن في حاجة الى من يقنعنا بأن 'ملك ملوك افريقيا' حمل فكرة ما، واننا نستطيع ان نتذكره بغير وصفه للشعب الليبي بأنهم جرذان؟

لكننا لن نعثر على شيء، انها ديكتاتوريات الفراغ والكلام الذي لا يقول والتاريخ الذي رضي بأن يتجمّد ويتحول احجية.

عندما ظهر نجم ذلك الفتى الليبي الذي اطاح العرش السنوسي، وذهب اليه ناصر وكتب عنه هيكل، كان العرب يعيشون اسوأ لحظة في تاريخهم الحديث. هزيمة حزيران كانت تلفّ المشرق العربي بالألم والمهانة. فجاء القذافي كي يعيد للجيوش المهزومة في جبهات القتال دورها السياسي. لكن الرجل سرعان ما تحول الى مهرج، وبدأ يحلم بأنه فيلسوف وكاتب قصة وقائد ابدي.

فيلسوف بلا فلسفة، وصاحب نظرية لم تجد سوى حفنة من مرتزقي الثقافة وسفهاء العلوم الاجتماعية كي تصفق لها، وادب بلا ادب ولا لغة ولا خيال. خيال الطغاة يأخذهم الى الجريمة لذا لا حاجة لهم الى الخيال. هم الذين يصنعون الأسى ويرسمون الموت فلماذا يكتبون؟

لكن العقيد الليبي قرر ان يكون كل شيء. جلس على آبار نفط تحميها عصابة من اللصوص ومافيات المخابرات، وحول بلاده الى سجن، بنى للكتب مقبرة كانوا يفرمون فيها الكتب التي تشتريها الحكومة كدعم لبعض دور النشر، وانبرى الى التأليف ونشر ما أُلف عنه، وصارت ثقافة شعب كامل مجرد اضحوكة، على الرغم من دعم حفنة من المثقفين الليبيين والعرب له، وصولا الى جائزته العالمية للثقافة التي كللت الثقافة بالعار.

تحول العقيد الى مهرج يلبس ثيابا مزركشة، يحمل خيمته ويشتري ويبيع. ووجد في زعماء اوروبيين ضالته، اشتراهم بالمال، واشترى جرائمه بالصمت، واعتقد انه باق الى الأبد، وانه سينجب سلالة من الملوك كغيره من حكام العرب الذين سبقوه او سيلتحقون به الى الهاوية.

هل كان كابوسا طويلا؟ هل كانت العقود الأربعة الماضية هي كابوس العالم العربي؟ وكيف نفسر هذا الكابوس؟

لن نجد تفسير هذا الكابوس في ليبيا، فالعقيد كان اشبه بفضيحة متنقلة للنظام العربي الذي انتجته الهزيمة الحزيرانية. بل نجدها اليوم في بلد مثل سورية، حيث لا تزال آلة القمع تنفي وجود ازمة بينها وبين الشعب. تقتل الشعب وتتغنى بصموده! تستبيح كل شيء وتدعي انها تدافع عن الوطن! تستسلم وتدعي الممانعة!

كابوس العرب كان موتهم غير التراجيدي مكفنين بالأكاذيب. فعصابة المهرجين التي حكمتهم ونهبتهم لم تتعلم من التاريخ سوى امتهان اللغة. يعتدون على الكرامة باسم الكرامة، وينهبون الاقتصاد باسم الاشتراكية، ويتخلون عن فلسطين باسم قدسية القضية.

سقوطهم وبهدلتهم لن تحمل اي معنى تراجيدي. انظروا الى بن علي السارق والهارب الى الكنف السعودي، او انظروا الى مبارك المستلقي على سرير في قفص الاتهام محاطا بلصين احدهما اعد ليكون وريثه على عرش الجمهورية، او انظروا الى العقيد الليبي وانجاله. حفنة من السخفاء الذين لا يجسدون سوى الهباء. والهباء يتخذ شكلا غرائبيا حين نستمع الى الرئيس السوري وهو ينفي ما نراه كل يوم، معلنا اصلاحات لا تثير سوى الشفقة.

ميزة الثورات العربية واهميتها التاريخية انها اعادت للعرب حسهم التراجيدي. محت بالدم والارادة والبطولة والصبر تاريخ المهرجين الذين حولوا كارثة الخامس من حزيران الى ملهاة.

في تونس ومصر وليبيا وسورية استعاد العرب احساسهم بالتاريخ، تصالحوا بدمائهم المسفوكة في الشوارع مع انفسهم، واسقطوا المعتوهين والقتلة عن الخشبة.

  عن القدس العربي

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير