زينب الغنيمي تكتب لوطن من غزة: تعدّدت الأسباب والأماكن والموتُ واحدً، وأيضًا ألم الفقد واحدٌ ولا شيء يهوّنه

17.04.2024 10:21 AM

اليوم الثالث والتسعون بعد المائة لحرب الإبادة على غزة 16 أبريل 2024

تلقّيت خبرًا مؤلمًا منتصف ليلة أمس، وهو أنّ صديقتي ورفيقتي في الدرب والنضال في هذه الحياة والقابعة في إحدى مستشفيات الأردن منذ ما يزيد عن ثلاثة شهور وأكثر أسيرةً للمرض العضال، عليّة أو "مي" وهو الاسم الذي أحبّت أن نناديها فيه، قد غادرتنا إلى الحياة الآخرة. وفي الوقت الذي أرسلت لصديقتنا الأخرى المقيمة في دمشق أُخبرها عن فجيعتنا بموت "مي" فوجئت أيضًا بأنّها مريضة إلى الحدّ الذي من الصعب عليها الرد على رسالتي لنواسي بعضنا البعض.

برغم مرضها الشديد وآلامها، كانت "مي" حريصة منذ بداية هذا العدوان على المواظبة بالتواصل معي كتابةً لأنّ المرض قد أضعف صوتها وقدرتها على الحديث. ولكن كُلّما سنحت لها الفرصة بالكلام كانت تتّصل وتعتذر وهي لاهثةٌ من أنّها لا تتمكّن دائمًا من الاتصال المباشر، وكنت أواسيها وأقول لها أنها ستًشفى وأنني بعد انتهاء هذا العدوان سأسافر كي أحتفل معها بعيد ميلادها السادس والستين في السابع عشر من آذار.

ولكن جاء آذار ومضى نحو شهرٍ تقريبًا والعدوان مستمرٌّ وحصارنا مستمرّ، وكُنت فقدت التواصل معها أيضًا قبل ثلاثة شهور، وأبلغتني أختها أنّها كانت كُلّما استفاقت من غيبوبة نوم المرض تسأل عن أخبار أهل غزة وعنّي، لأنها ترغب بالاطمئنان أنّني وأهلي ما زلنا على قيد الحياة، وأنّ بيتنا لم يتم تدميره.

هذا هو الموت لأيّ حبيبةٍ أو حبيب، ألم الفقدان واحد ولا شيء يهوّنه، مهما كان الداعي له، وفي أيّ مكانٍ أو حالٍ نكون فيه.

بالأمس فقط كتبتُ عن الشعور بالفقد وكم هو موجعٌ في ظلّ هذا العدوان الصهيوني الفاشي، وعن أنّنا حُرمنا نحن الذين ما زلنا على قيد الحياة في قطاع غزة من الإحساس بالأمن والسلامة، وكيف أنّنا نحتاج في كل خطوةٍ نخطوها، بين الثانية والأخرى، للاطمئنان على أنفسنا وعلى أحبتنا، حيث نعيش تحت التهديد دائمًا بالموت بطلقةٍ أو قذيفة، وكيف نتلفّت حولنا بفزعٍ إذا سمعنا مُجرّد طرقة بابٍ قوية بعض الشيء. ننام وعيوننا الدامعة على حالنا وعلى من فقدناهنّ وفقدناهم مفتوحة ولا تُغمض خشيةً من أن نحلم بكوابيس الفقد والموت، أو ربما خشية أن نموت دون أن نعرف أننا ذاهبون نحو الموت.

أشعر بالأسى العميق على فقدان صديقتي الأعز على قلبي، الأم الأخرى لابنتي في طفولتها والصديقة لها في شبابها، صورتي الأخرى في المرآة، متشابهتان في التفكير والإيمان بنفس القيم ومختلفتان في التنفيذ. نتشاجر معًا كأيّام الشباب كُلّما التقينا، ولكن لا نختلف على الأساسيّات، حيث نتشابه في تقييمنا للواقع السياسي والثقافي، وتقييم الأشخاص أيضًا، ولكن الفروقات بيننا موجودة وفي مقدّمتها أنها كانت ما تزال تعيش في أوهام الفكر الثوري المثالي البعيد عن الواقع وهذا ينطبق على كُثرٍ مِن الذين يعيشون خارج فلسطين، ولم يروا الصورة الحقيقية للواقع.

اليوم جُلّ ما أتمنّاه هو أن أستطيع أن أحزن على فراق صديقتي، ولا أريد أن يمرُ هذا اليوم كجزءٍ من زحام الحزن على كُلّ من فقدناهم وفقدناهن خلال أيام هذا العدوان الصهيوني. أحتاج لوقتٍ كافٍ لأبكي فيه صديقتي التي غادرت دون أن أراها أو أتمكّن من الوفاء لها بزيارتها والاحتفال معها بعيد ميلادها، ولكني أحسبُها شهيدة المرض وشهيدة الغربة فهي لن يُمكن دفنها في قرية آبائها "رُمّانة" كما كانت تتمنّى، بل ستُدفن في بلد الهجرة، بعيدةً عن الوطن.

زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف والحصار

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير