صراع الإنسانية في ظل الحروب والدمار

01.02.2024 06:08 PM

كتب نبيل المصري: القلم لم يجف، والصفحات لم تنفذ، ولكن... عندما بدأت بالكتابة، بدأ القلم ينزف دماً، والأوراق تسمع أنين الألم وصراخ الأطفال وعويل الأمهات وبكاء الرجال وبين الركام وفوقه ترى أشلاء ودماء. بالأمس، بل منذ لحظات، كانت الحياة تدب بالحي، أطفال يلعبون، واليوم كانت السماء زرقاء، اليوم الطائرات والمصفحات والمدافع تبعث صواريخها لتجعل من المنازل ركاماً ومن الأرض خراباً.

امتلأت السماء بين دخان متصاعد وأشلاء تتطاير، وغبار ممزوج بالدم وجندي يطلق من رشاشه صليه تتبعها أخرى، كان رنين هاتف محمول يخرج بين الفينة والأخرى، حمل الجندي المحمول وقال: "(شناه توفا بت نخمداه) لحظة، يا محبوبتي، سأهديك من المعركة هدية بالصوت والصورة، دمر منزل فوق رؤوس ساكنيه وتحت الركام أشلاء وأجساد ودم ممزوج بأبشع صور الحقد والكراهية بعيداً عن المشاعر والأحاسيس، لم يتوقف إطلاق الرشاش وبدأ بالتمشيط والاجتياز على كل كائن حي في المكان، تقدم نحو الركام رأى رأس طفلة تنزف، وأشلاء تحت الركام، لمع في عينيه عقد يتدلى من رقبة الفتاة، نزعه بعنف دون رمشة جفن وقال: "أجمل هدية لابنتي"... قف ايها السادي المتغطرس، فأنت لست بجندي أو فارس، أنت مجرد لص سارق قاتل امتهنت القتل والجريمة وعبثت بالديار، والطفلة تصرخ رغم الألم، لا... لا تشوه الطفلة البريئة وتسرق عقدها بل اعلم بأنه هدية عيد ميلادها من ابيها، إنه لا يعرف قيمته فهو الحب والإنسانية لطفلة تطمح أن تعيش سعيدة وتروي لصديقاتها عن عظمة وشهامة أبيها، تمهل، أنت لست بطلاً، أنت قاتل مجرم، تمارس مهنة القتل والتنكيل بعيداً عن القيم الإنسانية والقوانين الدولية. أليس هذا تأكيداً على تراجع الفكر الإنساني عن القيم والأخلاق؟ وما هو هدف إسقاط تلك القوانين والسماح بضرب كل ما هو إنساني وحضاري على هذه الأرض؟

ألم يخبروك عن تلك الطفلة التي رفضت أن يخرجوها من تحت الإنقاذ قبل العثور على أمها وأباها وأخاها؟ وفي مكان اخر أم تحتضن طفلها بجسدها، ورضيع تعلق بجسد وثدي أمه؟ هل تجولت بين الإنقاذ والخراب الذي حل بالمستشفيات والمدارس ودور العبادة؟ تمهل، أنت لست بفارس، ولا مقاتل، لم يعلموك قوانين الحرب وقيمها وأخلاقها ولم تسأل نفسك لماذا تتجه العمليات الحربية عن القيم الإنسانية والقوانين الدولية؟ أليس هذا تراجعاً في الفكر الإنساني والقيم الأخلاقية؟

في حال ابتعاد العمليات الحربية عن القيم الإنسانية والقوانين الدولية، أليس هذا تأكيداً على تراجع الفكر الإنساني عن القيم والأخلاق؟ ام انها حقيقة الفكر الصهيوني؟ بشاعة الفكرة الصهيونية القهر والظلم واستعباد الشعوب ونهب الثروات وتشويه الاديان هذا ما قاله نزار: الفرق شاسع ما بين الفكر الانساني والفكر الفاشي العدواني فالفكر الانساني ينطلق من مفهوم الانسان اغلى ما بهذا الكون ويعتبر ان الناس شركاء في ثلاثة: الماء والنار والكلاء، تلك القيم الانسانية التي لا تؤمنوا بها انطلاقاً من الفكر العنصري الصهيوني.

يعتبر مجلس الامن وهيئة الامم المتحدة بمنظماتها وهيئاتها الناظمة للمجتمعات الدولية ومرجعية قانونية لدول العالم المتحضر والحفاظ على الذات كقيمة وطنية وانسانية بالدرجة الأولى، وفلسطين ارضاً وشعباً موجودة عبر التاريخ قبل تأسيس هيئة الامم وعصبة الأمم ايضاً وان باستطاعة الامبريالية والحركة الصهيونية الغاء التاريخ، "ارض بلا شعب لشعب بلا ارض" من خلال طمس التاريخ والحضارة والإنتاج، وما العمليات الحربية الهادفة الى القضاء على الحياة الانسانية والانتاج الحضاري والديني بالإضافة الى اعمال النهب والسلب، وتجربة الشاعر محمود درويش وبصيرته وقت الموافقة على اتفاقية أوسلو حين قال: اعطيني ما ضاع من حريتي، والشهيد يحاصرني كلما عشت يوماً جديداً ويسألني اين أنت؟ لا نريد ان نكون ابطالاً أكثر، لا نريد ان نكون ضحايا اكثر، لا نريد أكثر من أن نكون بشراً عاديين. الا ان طمع الاستعمار وعنصريته يعشش في تاريخهم وفكرهم، ولم يتعظوا حين قال: انا عربي ورقم بطاقتي خمسون الفا حذاري  حذاري من جوعي ومن غضبي، فاذا ما جعت اكل لحم مغتصبي، كما قال ايضاً: حنين الغريب وراء الأسلاك الشائكة إلى حبة تراب من أرضه المسلوبة الشهداء الذين يسقطون على الطرقات البعيدة كالذباب الأبرياء الذين يقتلون ولا ذنب لهم إلا أنهم بقية شعب مشرّد الأطفال الذين ينظرون إلى الغد بلا عيون ويبكون بلا آباء وأمهات والشيوخ الذين زرعوا ولم يأكل أحفادهم والأرض التي يحرّم عبيرها على فلاحها والكوفية البيضاء أروع ما خلّفه لنا التاريخ في متاحفه، الكوفية التي تهان والشعور بالغربة والعزلة في أرض الوطن والبيوت التي أصبحت أطلالًا ترتمي في جنباتها قطع صغيرة من خوابي عتيقة.

تجسيد حي وواقعي لواقع غزة وناسها بل لم يرى في تصوره المشافي بمرضاها وطواقمها تقصف، والمساجد والكنائس تدمر وتحرق، يقتل اطفال خدج وبقايا اشلاء ومقابر تنبش حصار فوق حصار لا ماء ولا دواء ولا حليب للرضع، هي ابادة لشعب كامل، وتدمير المدن والمخيمات كزلزال اعاد الانسان للبدائية الأولى يلغي التاريخ والحق عبر الزمان.

لم اجد ابلغ من تلك الكلمات بعد اذن صاحبها حين قال في حوار لي مع ناشط نمساوي مناصر للقضية الفلسطينية وناشط ضمن حركة المقاطعة العالمية ويساهم اسبوعياً بتنظيم حراكات في النمسا واوروبا سألته عن سبب تهافت الشعوب حالياً لنصرة القضية الفلسطينية رغم البعد الجغرافي والديني والايديولوجي حتى رغم البروباغاندا الاعلامية والسياسية المضادة لقضيتنا، قال لي: ببساطة نحن شعوب تبحث عن المعنى، انهكنا ما يسمى بالنظام الدولي الجديد والحياة الرأسمالية واكتشفنا لأي درجة كنا مستعبدين، قضية فلسطين وجملة مقاطعة إسرائيل لم تعد تمثل حرية فلسطين فحسب بل باتت فئة كبيرة من الشعوب الغربية تدرك ان تحرير فلسطين هو تحرير لهم من قبضة الصهيونية من جهة ومن قبضة رأسمالية الحاكم للعالم من جهة أخرى، هو تحرير حقيقي للإنسان الحديث.

هل ادركتم الان معنى الطوفان؟ مرة أخرى اعلموا اننا لا نريد أكثر من أن نكون بشراً عاديين كيف لا والعديد من شعوب العالم تنتفض من اجل فلسطين واسمحوا ان اصرخ وبأعلى صوتي، ما قاله النائب في البرلمان الايرلندي للسفير الصهيوني: اطالب بطردك لأنك تمثل دولة فصل عنصري وهجرتم الفلسطينيين من ارضهم ان المواطن الفلسطيني البسيط انتفض لأنكم منعتم عنه حقوقه الأساسية، اذا كنتم جادين بشأن اتفاقية أوسلو وحل الدولتين لماذا تستمرون بالاستيلاء على الأرضي والتي بحسب الاتفاقية تم اقرارها كأرض فلسطينية. ان ما يجري في غزة يجسد بالدرجة الأولى غريزة انتقام وعقاب جماعي يتنافى مع كافة القوانين والاعراف واستهتاراً بالقانون الدولي الانساني لدولة الفصل العنصري والسؤال الذي يطرح نفسه هل هناك مجال للاجتهاد والتأويل أو متسعاً لوجهات النظر للتنظير والجدل البيزنطي؟ هو مشروع تهجير وابادة جماعية واذا كانت مرجعية العالم ودولة المتحضرة ومجلس الامن والهيئات الدولية في الحفاظ على الذات كقيمة انسانية ووطنية بالدرجة الأولى في ظل انهيار القيم الوطنية الجامعة والتحول الى معارك فردية للحفاظ على الذات، انه صهر الوعي الفلسطيني واعادة صياغة الشعب وفق رؤية صهيونية من خلال تدمير الحضارة والتاريخ والبنية الاجتماعية والإنسانية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير