هند شريده تكتب لوطن: لوّاح وماشي في البلاد.. لوّاح

01.07.2023 11:00 PM

ما يميّز الأشهر الماضية التغطية الاستثنائية للطواقم الصحفية "السوّاحة" في البلاد، ما بين بلدة سبسطية، وحوّارة، وترمسعيا، وسنجل، والّلبن، وإم صفا، إلى سائر المخيمات من جنين وعين شمس وبلاطة وعسكر، وغيرها من بقاع فلسطين_المحتلة، وهي تلاحق التغطية الإخبارية لهجمات المستوطنين برعاية ومباركة من جيش الاحتلال الذي يحرسهم على الدوام.

يتواصل الصحفيون منضمّين لبعضهم البعض، يتشاركون ألفة المكان والزمان، وكومة مشاعر يصعب إدراجها تحت مسمى ما، فما بين لحظات الضحك وطرافة الموقف، إلى مشاركة الزاد والطعام، إلى الخوف المربك. يصطفون مرة على متن سطح، أو داخل بيت، أو سيارة، مشكّلين باتحادهم درعا صحفيا بيّنا، مرتدين بزّاتهم الصحفية المكتوب عليها بحروف غليظة (PRESS). كل هذه الإشارات، وبمعزل عن الكاميرات والعدّة، بمثابة إشعار جليّ للجيش بوجود (صحافة)، لكن جنود الاحتلال يدركون أن في الميدان جنودا من نوع آخر يوثقون بكلماتهم وكاميراتهم ما يجري حقاً، فيقومون بمحاصرتهم واستهدافهم بإصرار متعمّد، ساحقين مسمّاهم الوظيفي، ونازعين عنهم أي حصانة مكفولة لمهنتهم النبيلة في القوانين الدولية "السائلة" عندما يلتصق الأمر بفلسطيني.

مهما يوثق الصحفيون ما يحصل معهم، إلا أن هناك تقصيراً في الحديث عما يعانوه في الميدان. شخصيا، أتابع باستمرار ما يوثقه الزميل حافظ ابو صبرا من مغامرات التغطية، يريعني حقاً الصور التي ينشرها عن تموضع الصحفيين على السطح، إلى انبطاحهم أرضا خشية من إطلاق النار، إلى الرصاصة التي مرت بالقرب من أذنه لتصيب سيارته بفرشها الزهري والذي يخصّ ابنتيه مريم وكرمة، وغيرها من الخبرات المروّعة، والتي تحتاج وقفة جديّة. لا ننسى بالطبع استهداف الزملاء مع حفظ أسمائهم جميعا، من الصحفي حازم ناصر، وأحمد موقدي، ومؤمن سمرين، وعميد شحادة، وربيع المنير، ومعتصم سقف الحيط، وسجى العلمي، وليث جعار، وبلال التميمي، ومحمود فوزي، وعلاء بدارنة، وابراهيم رنتيسي، وأحمد الخطيب، وغيرهم الكثير.

استوقفتني شهادة صحفي آخر يقول فيها: "لوّحتلهم إني (أتوناي) أي بالعبرية صحافة، وعدتها بالانكليزية أيضا أني PRESS.. وبرغم المعدات واللباس إني صحفي.. لكنهم استمروا عن قصد بالاعتداء عليّ". تحت زخات الرصاص، ووابل قنابل الغاز المسيل للدموع، يلوّح الصحفي أو المصوّر بعتاده من الكاميرات والمايكرفونات الظاهرة للبيان، لكن هذا لا يشفع له بالطبع، فيقوم الجنود بقصد تام بالاستفراد به وقنصه، من باب التلذذ، والانتقام على إثر نقله للحقيقة.

بصراحة الفعل (لوّح) مثير للاهتمام، ما بين معانيه التي تفيد الظهور والبروز، إنما يفيد بواقعنا الفلسطيني محاولة لطمس المهنة من خلال استهدافها المباشر. تذكرت أغنية لعبد الحليم حافظ بعنوان "الفجر لاح" في ألبوم "خلّي السلاح صاحي". وبشكل عفوي، تراءت لمسامعي أغنية قديمة من أغاني الثورة الفلسطينية، من تسجيل صوت فلسطين في القاهرة، وخيّل لي التصرّف بكلماتها من باب المناصرة للعمل الصحفي، لنقول فيها: "لوّحنا عالقواعد لوّحنا... بالكاميرا والمايكرفون لوّحنا... تحت الرصاص شفنا الموت وما هبنا.. وصوّرنا العملية وروّحنا". تبعتها أغنية قديمة لفرقة نيسان السورية، تقول مع بعض الانزياح في الكلمات: "لوّحنا والموسم لاح.. والفكر بإيدينا سلاح.. الصحافة مهنة الملاح.. الصحافة مهنة الملاح.. مهما يرموا علينا سهام".

 

آخر ما ختمت به مونولوج الأغاني التي غمرت رأسي، ترنيمة ننشدها عادة في الجمعة العظيمة، تبدأ بالفعل "لاح"، وهي مرادفة للعطاء حدّ الفداء، مواءمة حدّ التطابق مع رصاصة القناص الاسرائيلي المتقن في التصويب، والتي هشّمت رأس الصحفية #شيرين_أبوعاقلة، رغم الدرع الصحفي الواقي، والخوذة التي لم تسعف بمحيطها رأس الشهيدة، تقول كلماتها: "لاحَت علاماتُ الفِدا... سِرُّ الصَّلِيب قَد بدا.. الحيُّ فيهِ إذْ غَدا... مَيْتًا حَياةً قد أوْجدا".
برغم كل الاعتداءات، يبقى التلويح الوحيد الجامع من شهادات الصحفيين/ات، أنّ التغطية_مستمرة، وستبقى دوما مستمرة.

 

 

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير