شقاء العودة
كتبت: هديل صياد
لا تزال هذهِ اللحظات راسخة في ذاكرتي ، مَضت عشرات السنين كأنّها البارحة . اليوم أنا في مُنتصفِ عمري الثمانينيّ ، لكن هُناك لحظات لا تُنسى ، قال جدّي علي هذه الكلمات وهوَ يستعيدُ ذكريات شعبٍ صمدَ ورابطَ ورفضَ تهجيره .
صرخات الجيرانِ وأهلِ البلدةِ لا تزال تطنُّ في أذني ، لقد اشتبك جنودُ الاحتلال الاسرائيلي مع الجيشِ الأردني آنذاك ، واضطرّ سكان البلدةِ على الرحيلِ وتركِ منازلهم ، لم يكن جدّي يرغب بالرحيلِ وترك منزله ووطنه ، صمدَ لآخرِ لحظةٍ وانتظر لحظة الاعلان أنّ الاشتباك قد انتهى وأنّ الامور أصبحتْ تحت السيطرة ، فلم يكنْ هذا الاشتباك الأوّل الذي يشهده ، لكن سرعان ما تزايدَ اطلاق الرصاص على المنازلِ والبيوت ، وانهالت القنابلُ على المنازلِ كزخاتِ المطر ولكن صبره لم ينفذ بعد ، لكن ثمّة شيء قد تغيّر فجأة في داخله عندما جاءت عينيه في عيون طفليه " يوسف وفاطمة " ، فكان الخوف يعتريهم فقد وضعوا أيديهم على آذانهم في محاولةٍ منهم لمنع ذلك الصوت الذي يقتلُ طفولتهم من التخلّلِ لجسدهم .
اصطحبَ زوجته وطفليه وأخذَ معه بضعة دنانير كان قد خبّأهم لليومِ الأسود الذي أيقنَ أنّه آتٍ لا محالة في ظلّ الأوضاع التي يمرُّ بها شعبنا ، أغلقَ منزله جيّداً .. أخذ مفتاح المنزلِ وشدّ عليه في يده فثمّة شعور يجول في داخِله يُخبره بأنّ هذه ليست المرّة الأخيرة التي سيرى فيها هذهِ الجُدران .. غادر جبل الزيتون ، ذلك الجبل الصامِد ..
سلكوا الطريقَ مشياً ، ولم يشعُروا بطولِ الطريقِ من القدسِ لأريحا ؛ فقد كانَت صدورهم محمّلة بالخيبات ، وكان السؤال الرئيس الذي يجولُ في خاطرهم " هل سنعود لبيتنا ووطننا أم أنّها هجرة أبديّة " ؟ ، ولكن ثمة صوت قطع تفكيرهم وطريقهم ، صوت رصاصاتِ جيشِ الاحتلال فهم يعلمون بلجوءِ العديدِ من العائلاتِ المقدسيّة إلى الأردن ، ولم يكن لجدّي ومن معه حل آخر سوى الاستلقاء على الأرضِ والاختباءِ بين الجبال في الليلِ الموحشِ علّ ثعالب الاحتلال الماكِرة تذهب .. وضعَ جدّي يده على الأرض فشعرَ بشيءٍ غريب ، رفعها ليجدها مُغمّسة بالدم ، لقد استشهدَ جاره الذي لجأَ معه للبحثِ عن طريقٍ للحياة ، لكنّ طريقه لم تكتمل .. ! دفنوه مكانه وأكملوا طريقهم ..
وصلت الشاحنة ، الشاحنة التي ستحمِلُ الخيبات وتنقُلها للأردن ، مكثوا أربعين يوم ، لكنّ جدي لم يتحمّل فكرة التأقلم مع الحياةِ الجديدة كما تأقلم غيره معها ، لم يرَ نفسه خارج وطنه ، فقرر العودة بعد سماعه بشخصٍ ينقّل النّاس إلى فلسطين " على مسؤوليّتهم " ! ونعم هذا ما حدث ، فقد تركهم صاحب مركبة العودة في طريقٍ وحشيّ مقطوع .. وها قد عادت رحلة المشي على الأقدامِ المُنهكة .. كم كانَ صعب على رجلٍ وامرأته المشي كل هذه المسافة والخوف يعتري صدورهم ولا يعلمون إلى أين سيعودون ، فلا أحد يعلم ماذا حلّ بمنزلهم ! وكم كان صعب طمأنة طفلين لم يدركوا بعد وحشيّة الاحتلال الغاصب ..
وبعد ساعات طويلة وصلوا طوباس ، وركبوا الحافلة التي ستنقُلهم لرام الله ثم للقدس ، أخيراً .. وصلوا القدس ، ثمّة شيء غريب ، شعور لا يمكن وصفه ، فرح مغموس بالخوفِ والحزنِ ، فلا شيء يُضاهي فرحة العودة للوطنِ الذي نُحب ولكن هل بقيَ منزلنا كما تركناه .. وهل غيّر العدو معالم بلدتنا ؟ ..
ما أصعب تلك اللحظة ، لحظة أن ترى تعب العمرِ وشقاء الدهرِ مُدمّر أمام عينيك .. لم يترك العدو حجر على حجر .. ولم يبقى لهم ذكرى من المنزلِ سوى الحجارة المتراكمة ..
الآن ، وبعد مرور عشرات السنوات قال جدّي الحاج علي : " لا يوجد أثمن من هذا الوطن ولا يعرف قيمته سوى من جرّب شعور البُعدِ عنه " ، فالحجارة المُدمّرة والمنهارة رُفعت من جديد .. وبنيَ المنزل بتعبٍ واصرار .. لكن هذا الوطن يستحقّ كل شيء يستحقُّ شقاء العودة ..