التأمين الإلزامي في فلسطين: بين غياب المنافسة وتعزيز الاحتكار
" بوليصة تأمين المركبات ... غيابٌ للرقابة وانعدامٌ لمبدأ المنافسة وأرباح في تصاعد "
وطن - تحقيق فارس المالكي : معاناة المواطن الفلسطيني من قلة الخيارات أمامه في سوق التأمين الإجباري تتصدر المشهد مجدداً، حيث يجد نفسه محاصراً بين أسعار موحدة لجميع شركات التأمين وغياب أي منافسة حقيقية تعود بالنفع عليه.
رامي محمد صادق، مواطنٌ من بلدة بيتا جنوب نابلس، يختصر معاناة الكثيرين بقوله: "لا توجد خيارات حقيقية أمامي، كل الشركات تقدم السعر نفسه، فكيف يمكنني أن أختار؟ المنافسة غير موجودة تماماً."
تصريح المواطن رامي محمد صادق يعكس واقعاً أوسع يثير الجدل في الأوساط الشعبية والخبراء الاقتصاديين حول هيكلية قطاع التأمين في فلسطين، ومدى توافق التشريعات والقوانين المنظمة لهذا القطاع مع مبادئ العدالة وحماية المستهلك.
قانون واحد... وتأثيرات متشعبة
يعود أصل الأزمة إلى قرار أصدره مجلس الوزراء الفلسطيني عام 2008 يلزم شركات التأمين بنظام تعرفة موحدة لرسوم التأمين الإجباري " الإلزامي"، الذي بدأ تطبيقه فعلياً عام 2016 من قبل هيئة سوق رأس المال، هذا القرار أوقف أي خصومات كانت تقدمها شركات التأمين، الأمر الذي أدى إلى تثبيت الأسعار في السوق، محوّلاً هذا القطاع من مجال يتسم بالمنافسة إلى سوقٍ خاضع لتحكم القوانين والأسعار الموحدة.
المستشار القانوني لائتلاف "أمان"، المحامي بلال البرغوثي، وصف القرار في حديثة لوطن بأنه يشكل خرقاً واضحاً للقانون الأساسي الفلسطيني ومبادئ الاقتصاد الحر، حيث تنص المادة 21 من القانون الأساسي على أن الاقتصاد الفلسطيني يقوم على مبدأ السوق الحر، الذي يعزز المنافسة ويمنع الاحتكار. وأضاف البرغوثي: *"هذا القرار يخالف النصوص الدستورية لأنه يعطي صلاحيات لمجلس الوزراء ليست من اختصاصه، ما يجعله عرضة للطعن الدست
كيف تستفيد شركات التأمين؟
الأرقام تكشف عن صورة مختلفة، إذ تشير بيانات هيئة سوق رأس المال إلى أن شركات التأمين حققت أرباحاً ضخمة خلال السنوات الأخيرة، مدفوعة بغياب المنافسة وفرض الأسعار الموحدة، ففي عام 2022، بلغت أرباح شركات التأمين العاملة في فلسطين 21.72 مليون دولار، مقارنة بـ12.47 مليون دولار في 2021، أي بزيادة نسبتها 74% على أساس سنوي.
بينما تبرر شركات التأمين أرباحها بأنها ناتجة عن استثمارات ذكية، يشير المراقبون إلى أن الأرباح المتزايدة تعكس استفادتها بشكل مباشر من تثبيت رسوم التأمين الإجباري " الإلزامي"، ما يضع عبئاً أكبر على المواطنين دون أي تحسين حقيقي في جودة الخدمات.
عضو مجلس إدارة إتحاد شركات التأمين، أنور الشنطي في حديثه مع وطن ، يرى أن القرار الحكومي القاضي بتحديد تعرفة التأمين الإجباري ضروري للحفاظ على استقرار القطاع ومواجهة التحديات، مؤكداً أن هذه التعرفة تضمن قوة القطاع في وجه الأزمات الاقتصادية. لكنه في الوقت ذاته دعا هيئة سوق رأس المال إلى تعزيز رقابتها على أداء الشركات لضمان الالتزام بالمعايير وحماية حقوق المستهلك.
هل الحل في تعديل القوانين؟
هيئة سوق رأس المال، التي تمثل المرجعية القانونية لقطاع التأمين في فلسطين، لم تخفِ قلقها من الأوضاع الحالية.
رئيس الهيئة، عمار العكر، قال لوطن بأن :"استمرارية عمل شركات التأمين أمر ضروري، لكن لا يجب أن يكون ذلك على حساب المواطنين، وكشف عن نقاشات جادة داخل الهيئة والجهات الرسمية لإقرار قانون جديد للتأمين يعالج الخلل الحالي، وعلى رأسها قضية التعرفة الموحدة التي تعيق المنافسة الحرة في السوق.
جمعية حماية المستهلك الفلسطيني، من جانبها، تبنّت موقفاً حازماً تجاه هذا الملف، وقدمت مذكرة تفسيرية وقانونية تطالب بإلغاء القرار الصادر عن مجلس الوزراء باعتباره مخالفاً للقانون الأساسي، وأشارت الجمعية إلى أن القرار الحالي يمثل حماية لرأس المال على حساب المواطن، ويفرض عليه تكلفة اقتصادية إضافية في ظل ظروف معيشية صعبة.
أزمات متشابكة تحتاج حلولاً جذرية
إلى جانب الجدل حول أسعار التأمين، يشكو المواطنون من تراجع أداء شركات التأمين في الالتزام بتعويضاتهم، ما يزيد من شعورهم بعدم الإنصاف، جمعية حماية المستهلك لفتت إلى وجود شكاوى متكررة من سوء إدارة بعض الشركات، داعية هيئة سوق رأس المال إلى تحمل مسؤوليتها في الرقابة بدلاً من تحميل المستهلك نتائج تعثر الشركات.
المراقبون تساءلوا عن الدور الذي يلعبه اتحاد شركات التأمين في هذا السياق، إذ يُعتبر إطاراً يضم جميع الشركات العاملة في السوق، لكن كثيرين يرونه جسماً يكرس هيمنة هذه الشركات على القطاع، بدلاً من دفعها نحو المنافسة العادلة.
أرقام تعكس واقع السوق
بحسب بيانات حديثة:
- ارتفعت استثمارات قطاع التأمين في فلسطين من 249 مليون دولار عام 2021 إلى 290 مليون دولار عام 2022، بنسبة زيادة بلغت 16.5%.
- صافي أرباح الشركات لعام 2022 تجاوز 21 مليون دولار.
- إجمالي أقساط التأمين المكتتبة لعام 2022 بلغت 396 مليون دولار، مقابل 167 مليون دولار كتعويضات.
ومع ذلك، يشير المراقبون إلى أن هذه الأرقام لا تعكس بالضرورة تحسناً في مستوى الخدمات المقدمة للمستهلك.
أسئلة تبحث عن إجابات
- إذا كانت هيئة سوق رأس المال هي المرجعية الأساسية لقطاع التأمين، فلماذا يبقى اتحاد شركات التأمين صاحب النفوذ الأقوى؟
- ما جدوى الترخيص لشركات تأمين جديدة إذا كانت المنافسة شبه معدومة؟
- هل ستتحرك الجهات الرسمية لمعالجة الثغرات القانونية وحماية المستهلكين من الاستغلال؟
خطوة جديدة:
في السابع عشر من أيلول 2024 ، نشرت هيئة سوق رأس المال مسودة مشروع قانون التأمين الجديد في إطار توسيع دائرة المشاركة والتشاور حول المسودة وصولا لقانون يلبي كافة الاحتياجات ويعالج مواطن القصور في القانون ساري المفعول حاليا.
وكانت الهيئة قد أرسلت مسودة مشروع القانون إلى كافة الجهات ذات العلاقة لأخذ الملاحظات والتوصيات بما يقود إلى مواكبة التطورات في صناعة التأمين بفلسطين ، للاطلاع على مسودة مشروع القانون ، اضغط هنا
خلاصة:
بين صراع المصالح بين هيئة سوق رأس المال واتحاد شركات التأمين، وغياب التشريعات التي تضمن العدالة، يبقى المواطن الفلسطيني الحلقة الأضعف، الحلول تحتاج إلى إرادة سياسية ومراجعة شاملة للقوانين لضمان سوق تأمين عادل يرتكز على المنافسة الحرة ومصلحة المستهلك أولاً.