بُن القدس

02.11.2020 03:47 PM

كتبت: رشا أطرش

رائحةُ الهَيْلِ الطّازج, في كُلِ بيتٍ، للميتمِ والعرسِ والعيدِ، مَجْمَعُ الشّبابِ والهِزَارُ، بابُ رزقِ، مستأجراً منذ 30 عاماً.

رائحةُ التّرابِ، حجارةٌ مبعثرةُ، حزنُ المَيْتمِ يَعْمُ المكانَ, مَجْمَعُ الشّبابِ الحزينِ, بَلا رزقٍ…، مُهْدَمُ‼! هذِه هي حكايةُ "دُكَانِي" "محمصُ بُن القدسِ".

في مَدِينتي المُقدسِة، في وسطِ قريةِ السّرِ الباهرِ, قبلَ 30 عاماً، في شبابِي، استأجرتُ دكاناً صغيراً للعملِ بهِ كمدخلِ رزقٍ إضافيّ بعدَ عَمَلي كمديرِ مدرسةٍ في القريةِ. قررتُ العملِ به كمحمصٍ للبُنِ والمكسراتِ الطّازجةِ.

وكأيُّ خطوةٍ أولى، لَمْ تُكنْ بُداية سهلة بَلْ تَخْطيتُ عقبةٍ خَلفُ الأُخرى، بالإيمانِ باللهِ، ورِضا الوالدينِ، وإصرارِ الشّابُ المقدسيّ أَصبحُ بُن القدسِ "أشَهرُ مِنْ النّارِ عَلى العلمِ" مِنْ بَيْنِ محامصِ المدينةِ.

لَمْ يَكْن كَأيِّ مَكانٍ تِجارِيّن بَلْ كانَ بمثابةِ حياةِ القريةِ، اجتمِعُ بِهِ مَعْ رِفَاقِي الشّبان، احتَاجُهم في ليالِ عيدي الفِطرِ والأَضْحى، كونه بِفضَلِ الله لَمْ تَهْبُ فرحةُ العيدِ على البيتِ المَقدسيّ إلّا بإدخالِ "كيسِ" بُن القدسُ وَبلحظةٍ شَمُ رائِحةِ الهَيْلِ، وَسَكْبه دَاخل ابريقِ الضّيافةِ.

وَعِنْدمَا كَبُرُ ابني، أَصبَحَ مَجْمَعُ رِفَاقه، إِذ أنْ المَحمصَ كالدولةِ الهاشميّةِ متميزاً بالحكمِ الملكيّ الوراثيّ, وَهَكَذا يَكُن المكانُ دَخَلَ جيلٍ آخر بَعدي، وَلكنّي حتى هذا لَمْ استطعْ أنا وَرِفاقي مُغَادرتِه، نَذهبُ يومياً لاستحضارِ ذِكرياتِنا فيه و"تَخْرِيفِها" للجيلِ التّالي، "جيلنُا أحسنُ مِن جيلِكم" جملةٌ يوميّةٌ أقولُها لَهْم بالرّغمِ مِن أَنّهم يَملكون نفسَ المواقفِ وَاللحظاتِ في ذاتِ المكانِ.

وفي صباحِ اليومِ التّاسعُ وَالعشرين من شهرِ تشرين الثّاني للعالمِ الألفين والعشرين دَخَلَ المكانُ جيلِه الثّالث ويومَه الأخير، كانَ من المفترضِ أنْ يَنتقلَ حُكمَهُ لحفيدي لَكنْ الاحتلالُ لَمْ يَسْمحْ لَهُ بالنّبضِ لأكثرِ مِن هذا.

"صباح الخير يمّا، أنا طالع عالمحل" حفيدي خارجاً متوكلاً، تاركاً رزقَه على اللهِ، ليصل وَيجد المحمصَ ساجِداً ميتاً، مهدوماً بكفِ العدو دونَ سابقِ إنذار ظُلمَاً وَبهتاناً, فَلَمْ يكن له أي ذنب بل قرار الهدم جاء لمجردِ إضافةِ "غرفة ألمنيوم" على "سطحِه" مِن قِبل ماله، وبين صّدمةِ حفيدي وألمهِ على انهيارِ تعبِ جده ووالده، وَبين حُزنِه على عدمِ تكرارِ لحظاتِهم بينه وبين رفاقِه، جَلَسَ على حجارتِه مُتحسباً باللهِ على عدونِا الظّالم.

30 عاماً خُفيت تحت الانقاضِ،  اندمجت رائحةُ البُن بالتّرابِ, المكسراتُ كُسِرتْ بالحديدِ، جَمعاتُ الشّبابِ أَصبحت على الحجارةِ, قَهوةُ العيدِ القادم مِن أينَ ستجلبْ؟!

تصميم وتطوير