وتبقى فلسطين البوصلة

14.07.2014 04:51 AM

وطن - شريف الرفاعي: الأيام تثبت لنا يوماً بعد يوم كم هي حدودنا هشة، وكم يعوز مجتمعاتنا التماسك. لا الدين يمكنه أن يوحدنا، ولا اللغة، ولا التاريخ ولا الجغرافيا. تلك كانت أكبر وأجمل كذباتنا. ليس لدينا إجماع على أي شيء. نحن في حالة جوار عدائي مفروض بقوة الواقع. ليس من عربي حر على أرضه ولا في أرض الأشقاء. شرط حدودنا أن تبقى مغلقة في وجوه بعضنا البعض. شرط بقاء السوري في الخليج صمته وابتعاده عن الشأن العام، وشرط بقاء الفلسطيني في لبنان قبوله منة اللجوء والحفاظ على حدود المخيم لا يتركها ولا تتركه، وبات العراقي بحاجة الى بطاقة إقامة وفيزا لدخول أربيل. لعنةٌ أن تكون مصرياً في الخليج، ومغربياً في الجزائر وسورياً في كل مكان...

كل قضايانا قابلة للتأويل فلا نحن متفقون على هلال رمضان ولا على التعريفات البسيطة. منا من يناصر المستبد، ومنا من يفضل عليه العمامة وجهل القبيلة. منا من يرحب بالخليفة الجديد ومنا من يشيد الجدران للعزلة المقبلة.

بدأ الحراك العربي منذ ثلاث سنوات ونيف، وظهر الى العلن ما نجحت أكذوبات التاريخ الكبيرة بإخفائه زمناً طويلاً: مازال أمامنا وقت طويل قبل أن ننتصر للقيم المجردة! فأن تصرخ للحرية في تونس لا تعني أن تنتصر لمصر، وأن تبتهج لسقوط مبارك لا يعني أنك تريد نقيضه، وأن تدين عسف القمع في سورية لا يعني أن تنظر بالعين ذاتها الى البحرين. الحرية حريات قابلة للتأويل، والكرامة كرامات لا يضيرها الانحناء أمام العمامة وسلطان المال. لكل حاكمٍ قرضاويّ، ولكل محكوم قرضاويه. ليس منّا من لم يهادن ظالماً وليس منا من لا حدود لأفقه، وليس لأحلامنا أكثر من مصير الفراشات.

اكتشف العربي مرة أخرى، في زمن الربيع العربي مَن هو العربي للعربي، وأننا لا نزال في التيه (رحمة الله على كبيرنا عبد الرحمن منيف) وأننا نحطّم الجسور قبل عبورها...

وحدها فلسطين بقيت بلون الشمس ووضوحها. تعيد الأمور الى صيغتها الأولى: قضية مُحتل ومُحتل، يكفي أن تردد الكلمة نفسها مرتين لتعرف مَنْ الأول ومٓنْ الثاني وأنت مغمض العينين.

لم يكن جديداً عليها أن تدفع فواتير العرب ولا أن تحمل تناقضاتهم وحساباتهم، الجديد أن هناك من بات يجاهر أنها لم تعد القضية الأم ولا الأهم. جاء الربيع العربي على حسابها وليس لمصلحتها، حتى الآن على الأقل. تراجعت فلسطين في الضمير العام العربي والعالمي الى أدنى مراتبها أمام الفظائع التي نعيشها. وأصبح مألوفاً عقد المقارنات بين الاحتلال وأنظمة الطغيان، فابتسمت اسرائيل التي بدت أشد رحمة بفلسطينييها من الأنظمة بشعوبها، وهكذا نسينا فلسطين مرتين: البارحة، عندما زاودت الحكومات ولاتزال على مأساتها، واليوم، عندما قارنا بين موتنا وموتها فوجدنا أنها بألف نعمة فهجرناها أكثر!

لكنها فلسطين صاحبة الجلال، كان اسمها فلسطين، صار اسمها فلسطين! رحمة الله عليك يا لاعب النرد وكاتب "أثر الفراشة"... نحن لم نعد نموت كالفراشات، نحن نموت بصخبٍ وعواء وهدير، نموت في وضح النهار، في أقبية التعذيب، في وجع المنافي وأمام أسلاك الأشِقاء الشائكة... ثم نموت في داخلنا حين لا يميتنا أحد.

لقد اختفت الإشارات والبوصلات كلها، وأصبح لدينا حجاج جديد يقطف الرؤوس قبل يناعها، وحدود جديدة لا تقلّ زيفاً عما سبقها. أفقنا مسدود، ولأننا لم نعد متفقين على تعريف العدو أخذنا نرسم أعداء جدداً بالطبشور الأحمر. لكن فلسطين تبقى ضمانتنا الوحيدة كي لا نضيع. نذهب إليها أو تأتي إلينا، لا فرق... ها هي تصهرنا، تعجننا، تنسينا ذاتها، نظلمها ونقسو عليها، فيطل من فتحة السماء "الختيار" ويداه تلوحان للشعب الغفير وشفتاه تقبلان الجموع ساعة الوداع. وتذكر الحصار، وتعي ساعتها أنه لازال بداخلك لا يغادرك، هو حصارها لنا تغسله الدموع.

جُلّٓ جلالك فلسطين. لا يجمعنا إلا أنت.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير