نحن الفلسطينيين أحوج ما نكون للإبداع.. بقلم: د. حسن عبدالله

09.10.2011 03:20 PM

لأننا نعيش ظروفا غير عادية، ولأن كل شيء في حياتنا استثنائي، ما دام وطننا محتلاً، وما دامت حريتنا مكبلة، مقيدة، مصادرة، فان المطلوب اجتراح طرق ووسائل ابداعية للتعامل مع واقعنا، توطئة للارتقاء به وتطويره على طريق إحداث تغيير جذري. فالنجاح العادي البسيط قد يلائم شعوبا مستقره، تعيش ضمن وتائر رتيبه. اما بالنسبة الى شعب يتعرض يوميا لامتحانات جدية في السياسية والاقتصاد والثقافة والديموقراطية والاخلاق والحقوق والتعليم والصحة، من المفروض ان يتدرب ويستعد، لكي يكون بمقدوره اجتياز هذه الامتحانات باصرار يتوج بالابداع .

ومعلوم ان الابداع قد لازم التجربة الفلسطينية في مراحل معينة ، لكننا شهدنا في السنوات الاخيرة انتكاسات في مستوى وحجم ونوع الابداع في بلادنا لاسباب ذاتية وموضوعية، في مقدمتها الاحباط السياسي الذي ارتبط باتفاقات ومفاوضات لم تحقق للفلسطينيين الحد الادنى مما يطمحون، رغم التنازلات التي قدمت .

الفلسطينيون بعد العام 1967 أبدعوا في التعليم وأسسوا جامعات و فرضوها على الاحتلال في ظروف مجافية جدا،  وابدعوا في الحركة المسرحية في ظل رقابة احتلالية مشددة، وأسسوا صحفاً ومجلات واداروها باساليب ابداعية ونجحوا الى حد كبير في ترسيخ مدرسة صحافية ذات ابعاد وطنية وقومية وانسانية، بالرغم من ان الرقابة الاحتلالية كانت بالمرصاد لكل كلمة او تعبير او رسم كاريكاتوري. اما المعتقلون الفلسطينيون فقد طرزوا تجربتهم بسلسلة من الابداعات في التنظيم والأمن والاضرابات المفتوحة عن الطعام، وفي الصحافة والعلاقة الوطنية والديمقراطية وفن ادارة الصراع مع ادارة السجون، اضافة الى التعليم الذاتي، بحيث تحولت المعتقلات الى مدارس وجامعات خرجت افواج المثقفين والمبدعين والباحثين والمترجمين والصحفيين والكوادر التنظيمية.

الصحيفة في الاعتقال كتجسيد ابداعي ولدت من رحم المعاناة. والتجربة الديمقراطية شكلت خلاصة فكر وممارسة واعية، واستندت الى قياسات دقيقة لحاجات الجماعة المعتقلة لتنظيم وتسيير امورها دون اجحاف بحق الفرد، ودون قفز من الفرد على حقوق أو إرادة الجماعة .

مجالس الطلبة، اللجان النسوية، الحركة النقابية، العمل التطوعي، اللجان الصحية، كانت جميعها تجسيداً للابداع . ولولا هذا الابداع، لنجح الاحتلال في طمس هويتنا، وشطب خاصنا الفلسطيني، والحاقنا به كالعبيد، بيد ان الفلسطيني قد ذاد عن انسانيته وحماها، بل وجعلها تورق وتثمر إبداعاً في اقسى الظروف واشدها حلكةً .

واليوم ونحن ندخل مرحلة جديدة، عنوانها الكرامة والصمود امام الضغوط وعدم رهن الارادة الفلسطينية لاي كان، لا بالمال ولا بالتهديد والوعيد. مرحلة يخوض فيها الفلسطينيون معركتهم الدبلوماسية من اجل نيل عضوية كاملة في هرم  المؤسسات الدولية ، اسوة بالشعوب والدول المستقلة. هذه المرحلة التي تحررنا فيها من الابتزاز في الغرف التفاوضية المغلقة، سيكون لها انعكاسات وتداعيات، من المؤكد انها ستفرض علينا اساليب حياتية جديدة، في ظل ظروف اقتصادية صعبة، الامر االذي يتطلب العودة المكثفة لإجتراح الابداعات في الاقتصاد والاعتماد على الذات، وفي التقشف ودعم منتجاتنا الفلسطينية. ويتطلب ايضاً ابداعات في الاقتصاد المنزلي والتعليم والصحة والثقافة، بل في كل مجال.

 وفي الحقيقة أُزيلت في الشهور الاخيرة غشاوة عن عيون بعض المخدوعين المضللين منا، وتوضح لهم من معهم، ومن يقف ضدهم. لقد وضعت شعارات دول على المحك، وتبين الديموقراطي من غير الديمقراطي، ومن يتحدث عن حقوق الانسان نظريا بلا تطبيق، ومن يزاوج ويمازج بين طروحاته النظرية ومماراساته العملية على الارض.

لذلك وامام اية صعوبات وتحديات، فان الفلسطينيين قادرون بالابداع على الانتقال من مرحلة الى اخرى، كل فلسطيني يستطيع ان يبدع في مجاله وتخصصه، ان يبدع في بيته ومدرسته ومصنعه وجامعته ومؤسسته غير الحكومية. ومن يظن ان الابداع يقتصر فقط على كتابة القصة والشعر والرواية والنصوص المسرحية، فانه يحصر الابداع تحت سقف منخفض. لان الابداع يشمل كل شيء، فان تنجح امراة عجوز في قرية نائية في الاعتناء بدجاجاتها وتوفير اللحوم والبيض لاسرتها، فذلك يعني انها مبدعة، لكن بمقاييس ومتطلبات واقعها. وسائق سيارة الأجرة، عندما ينقل ركابه بهدوء ويحافظ على سيارته وعلى الشارع وينهي يومه ملتزماً بالقوانين والأنظمة بلا مخالفات، بعد ان مكّن العامل من الوصول الى عمله، والطالب من الوصول الى جامعته، فهذا ايضا درب من دروب الابداع. وعلى المستوى السياسي عندما يقف الرئيس محمود عباس أبو مازن أمام الأمم المتحدة، ويلقي خطاباً حقوقياً أخلاقياً وسياسياً شاملاً بمفردات لها دلالاتها المحددة، فإن ذلك يندرج بامتياز في اطار الابداع، بمعنى اننا نحتاج الى ابداع يبدأ من الانسان البسيط وصولاً الى هرم السلطة، كل في مكانه وموقعه، وحسب امكاناته وطاقاته وخبراته.

هناك من يسعى لتحويلنا الى شعب هامشي عبد وتابع بلا اقتصاد ولا استقلال وكرامه. ونحن من اجل ان نفشل المخططات المعادية، ينبغي ان نسلك كل طرق ومستويات الابداع. نحن شعب عانى من القهر ولا يزال، ولكي يتحرر من كل عوامل الدفع الخلفي، ينبغي الاندفاع الى الامام بقوة الابداع.

 

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير