زينب الغنيمي تكتب لوطن من غزة: عودةٌ بطيئة للاتّصالات، لكنها كفيلة بأن تُخفّف من ضغط حالة الترقّب والانتظار التي أتعبتنا

16.02.2024 12:39 PM


اليوم الثلاثون بعد المائة للحرب على غزة 13 فبراير 2024:

سعدتُ اليوم صباحًا بمكالمةٍ هاتفية مع ابنتي حيث لا تأتأة ولا تأخير ولا تقطّعات متكرّرة. سعدتُ أيضًا بمكالمةٍ طويلة مع صديقتي النازحة في الجنوب ولأوّل مرّة نتمكّن من الحديث كلّ هذا الوقت، وبالرغم الأخبار المُحزنة التي عرفتها منها حول استشهاد عددٍ من أقارب زوجها، لكنّ مشاركتي لها في حزنها كانت مهمةً جدًا.

يبدو أن شبكات الاتصال المحلية بدأت الروح تعود لها وإن كان بصعوبة بعد محاولاتٍ عدّة، وتحمّست قريبتي أيضًا وطلبت أن تجرّب الاتصال مع صديقتها، ونجحنا فعلًا بالاتصال بها وإن كان متقطعًا قليلًا، كما اتصلت والدة صديقتي بأقاربها في الجنوب ولم تكترث كثيرًا للاتصال المتقطع.

حاولت بعدها الاتصال مع بعضٍ من صديقاتي العزيزات ولكن للأسف يبدو أنّ حصّتنا من الاتصال اليوم انتهت، فلم أستطع التقاط إشارة مع أغلبهنّ، ولكن لا يُهمني ذلك الآن طالما هناك أملٌ أن نستطيع التواصل لاحقًا، فما حصل اليوم باكرًا كان بشرى سارة نتوقع على إثرها أن تتحسّن الاتصالات أكثر فأكثر، وندعو ألّا تنقطع مرّةً أخرى كما حدث من قبل طيلة أيام العدوان الصهيوني، الأمر الذي كان سببًا في عزلتنا عن العالم وانقطاعنا عن التواصل الطبيعي مع من نرغب وفي الوقت الذي نريده.

وكالعادة، بمجرّد النجاح في التقاط اتصال مع أيٍّ من الصديقات من خارج قطاع غزة، سواء اللواتي في الضفة الغربية أو في أماكن أخرى في الدول العربية، يكون التساؤل: "لماذا لم تخرجي من مدينة غزة؟". أمّا الصديقات والزميلات اللواتي نزحن من مدينة غزة إلى الجنوب، فلا تطرحن هذا التساؤل أبدًا، بل يتمنين لو أنّهن لم يخرجن من مدينة غزة أو من شمالها، نظرًا لما لاقَينه من تعبٍ ورعبٍ وإحساسٍ مستمرٍ بالتشرد، وهي جزءٌ من الأسباب التي لم تجعلني أحاول الخروج مرة أخرى، وقد كنت قد غالبت نفسي وحاولت في وقتٍ مبكّر، ولمّا لم أنجح، لم أفكّر في أن أحاول مرّةً أخرى.

الكثير من الصديقات غادرن نحو الجنوب إمّا لأن بيوتهنّ تدمرت أو لارتباطهنّ بعائلاتهنّ. وهناك من نجحن بصعوبة في مغادرة قطاع غزّة نحو مصر أو ربما حتى إلى بلدانٍ أخرى بعد مصر، وكان هذا أيضًا خيارًا مرتبطًا بظروف تخصّ كل واحدةٍ منهن، فلكلّ شخصٍ أسبابٌ وخصوصيات واحتياجات علينا أن نتفهّمها ونحترمها بدلًا من الحكم عليها. وقد قُلت لصديقتي بالأمس عبر الهاتف هذا الكلام، حيث أنّ اللافت للانتباه في وسط الحركة النسوية خارج قطاع غزّة هو طرح التساؤل والاستنكار حول حركة النساء فقط: "لماذا غادرت فُلانة؟ ولماذا بقيت فلانة؟" بينما لا يلتفت الانتباه في وسط المجتمع المدني إلى "لماذا غادر فلان وهو مسؤول مؤسسة؟ ولماذا لم يبق فلان؟"

الحقيقة أنّ هذا العدوان الهمجي الصهيوني قاسٍ جدًا، وبشعٌ إلى الحدّ الذي لا يمكن وصفه، والذي من الصعب تخيّله لمن لم يعش في قطاع غزة منذ مائةٍ وثلاثين يومًا، كما لا نتمنّى لأحدٍ أن يعيش في مثل هذه الظروف مطلقًا. لذلك، لم تعد المعايير الأخلاقية التي كنّا نستخدمها ونتحدث عنها سابقًا صالحةً لما نعيشه اليوم، ولم تعد النظرة للعادات كما هي، ولم يعد ممكنًا وليس من العدل أيضًا الحكم على الأشياء عن بُعد، فمن فقدت عزيزةً أو عزيزًا ليست كمن لم يفقد، ومن فقدت منزلًا وتشرّدت ليست كمن لم يتشرّد. ولنتذكّر ونتفهّم وندعم بعضنا البعض، فلكلٍّ ظروفها وأسبابها، وما نتمناه حقًّا هو أن ينتهي هذا الشعور بالخوف والقلق، وأن تنتهي حالة الترقّب والانتظار المتعبة، وأن ينتهي هذا العدوان دون أن نمرّ نحن ولا أي من الناس بالمزيد من مرارة الفقد.

زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير