الزحف الإسمنتي المتسارع على الأراضي الزراعية يغتال 5500 دونم في تسع سنوات

14.07.2023 11:19 PM

وطن- عبد الباسط خلف

تتسارع وتيرة تدمير الأراضي الزراعية في الضفة الغربية، فيما تؤكد الأرقام الرسمية أننا خسرنا في 9 سنوات نحو 5500 دونم من الحيز المتبقي من الأراضي الزراعية عالية القيمة خارج المخطط المكاني، البالغ نحو 550 ألف دونم.

فيما تشهد أراضي جنين ونابلس وأريحا والأغوار أكبر هجمة إسمنتية، حيث يَنفذ المعتدون من بوابة أن أجهزة السلطة الفلسطينية لا تُقدم على تنفيذ عمليات هدم.

من جديد، تُعيد "آفاق البيئة والتنمية" فتح ملف الزحف العمراني، وتحاور جهات الاختصاص ومسؤولين أجمعوا على أن الأرض الزراعية المتبقية مهددة، وتحتاج إلى إجراءات عملية لحمايتها، بينما يحذر مزارعون وناشطون أن 10 سنوات أُخر كفيلة بتدمير البقية، ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة لوقف تغول الزحف.

"فيتو" لمنع البناء خارج المخططات الهيكلية
قدّر عمار صلاحات، مدير عام الأراضي في وزارة الزراعة، حجم الاعتداءات على الأراضي الزراعية عالية القيمة بمئات الدونمات سنويًا.
وفي مستهل حديثه، قال إن الحيز المتبقي من الأراضي الزراعية "عالية القيمة" خارج المخطط المكاني يبلغ 9% فقط من مساحة أراضي الضفة الغربية البالغة نحو 550 ألف دونم، وكان حجمها في المخطط المكاني 10% عام 2014.
وذكر أن المحافظات التي تشهد أكبر اعتداءات على الأراضي هي جنين ونابلس وأريحا والأغوار.

"التعديلات التي تسعى الوزارة لإقرارها في مسودة القانون الجديد ستمنع إقامة أي منشآت زراعية في الأراضي عالية القيمة، حتى لو كانت زراعية وحيوانية؛ لأنها "ثغرة تُستغل للالتفاف على القانون"، وتغيير طبيعة المباني والحصول على خدمات الهيئات المحلية؛ وخاصة المياه والكهرباء" كما يقول.

وأشار إلى مبادرة قدمتها "الزراعة" لمجلس الوزراء، الذي أقرَّ في جلسته (78) المنعقدة في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 لوقف التعديات على الأراضي المُصنفة بذات القيمة العالية، وضع "آليات عمل عاجلة لحماية تلك الأراضي من أخطار الزحف العمراني غير القانوني، وغيرها من التعديات."
وأكد أن حماية ما تبّقى من أرض ليس مسؤولية وزارة أو جهة بعينها، بل هي فردية وجماعية، ويشترك المواطن نفسه فيها.
وطالب بمنح وزارة الزراعة "فيتو" داخل عمل اللجان الإقليمية للتنظيم والبناء؛ لمنع إقامة أي أبنية خارج المخططات الهيكلية للهيئات المحلية."

ويرى أن جزءًا من المشكلة "تدني العائد من العمل الزراعي، وانخفاض القيمة المالية للأراضي الخصبة"، ما يدفع الكثير من المستثمرين لتنفيذ مشاريع فيها، ويتسبب بالعزوف عن فلاحتها.

والمفارقة تبعًا لحديثه، أن الوزارة تجري عمليات تأهيل واستصلاح سنويًا لنحو 5000 دونم تكلف نحو 5 ملايين دولار، "فهل يُعقل مقابل ذلك تحويل الأراضي عالية القيمة لبيوت وشوارع ومصانع" يتساءل صلاحات.

وأوضح أن المناطق المسماة (ج) التي يسيطر عليها الاحتلال تشهد تعديات، ولا يمكن لمؤسسات السلطة متابعتها، وأن تغيير صفة الاستخدام للأراضي الخصبة وتحويلها إلى مشاريع صناعية وسياحية وسكنية بشكل فردي مخالف للقانون، ويستغل أن السلطة الوطنية لا تُقدم على هدم المباني المخالفة، كما يفعل الاحتلال، وتصبح بالتالي "أمرًا واقعًا"، حسب تعبيره.
وشدّد صلاحات على ضرورة دعم الفلاحين وتطوير زراعتهم، كي يشعروا أن أرضهم تحقق دخلًا يمنحهم حياة كريمة، فلا يُقدموا على بيعها، أو البناء فيها، ويمكن ذلك أيضًا بتخصيص جزء من الأراضي الحكومية عديمة القيمة الزراعية لدعمهم في إقامة بيوت.

غياب المخالفات يُفاقم الاعتداءات
ومن وجهة نظر المزارع الستيني صادق نزال، بخصوص تدمير الأراضي الزراعية كاملة، "فإننا إذا لم نشهد تدخلاً من المستويات العليا، وبموجبه تصدر قرارات صارمة لهدم التعديات ومنع حدوثها، عندئذ لن يستغرق الأمر أكثر من 10 سنوات لتتحول سهولنا إلى "كتلة إسمنتية ضخمة"، وحينها لن نجد منطقة واحدة صالحة للزراعة".

وأشار إلى أن غالبية المباني في الحقول المحيطة بأرضه تُشيّد دون ترخيص وبلا موافقات، فيما تخلو الجبال من أي بناء، وتكون مهددة بالاستيطان في أي وقت.

وأكد نزال، الذي يشغل موقع رئيس تجمع منتجي العنب، أن غياب المخالفات، والتقاعس عن هدم المباني المعتدية سرّعا من وتيرة الاعتداء في الأراضي الزراعية الخصبة.
ودعا صنّاع القرار إلى زيارة المناطق الزراعية ومشاهدة حجم الدمار، ومعاينة الزحف والتمدد العمراني، الذي لا يعترف بأي ضوابط.
ووصف الأرض بــ "ضحية" التحولات الاقتصادية والاجتماعية، التي أصبحت في نهاية المطاف تُعامل سلعة، لا قيمة وطنية كبرى.
لا تراخيص في الأراضي عالية القيمة

يقول هاني نجوم أمين سر مجلس التنظيم الأعلى في وزارة الحكم المحلي، إن المخطط المكاني صنّف الأراضي إلى "عالية، ومتوسطة، ومنخفضة القيمة الزراعية"، إذ تخضع الخصبة منها لإجراءات حماية مشددة، والمتوسطة لحماية نسبية، ويمكن بعد المرور بإجراءات محددة من اللجنة الإقليمية للتنظيم والبناء، ثم مجلس التنظيم الأعلى، السماح بإقامة مبانٍ في المناطق منخفضة القيمة، ويمنعها في المناطق الخصبة.

وأفاد أن المخطط المكاني يخضع لمراجعات وإجراءات دورية، تُوازن بين الحفاظ على الأرض عالية القيمة والاحتياجات المتزايدة، فيما تُوّسع المخططات الهيكلية على "الأراضي منخفضة القيمة".

وأضاف نجوم أن رفع الحماية عن "الأراضي عالية القيمة" يأتي بعد تغيير تصنيفها من لجان مختصة تُرفع توصياتها إلى مجلس الوزراء لتصبح قابلة للبناء.

ووصف الإجراءات المتبّعة لحماية الأراضي الخصبة بـ "الجيدة"، لكنه أقرّ بوقوع بعض المخالفات في مناطق متفرقة.
كما أقرَّ بوجود بناء عشوائي في الأراضي الزراعية، على يد مواطنين يستغلون أن مؤسسات السلطة الوطنية لا تُقدم على هدم البناء المخالف لأسباب إنسانية، إضافة إلى انتشار البناء في المناطق المصنفة (ج) التي لا تسيطر عليها السلطة.

وكشف أمين سر مجلس التنظيم الأعلى، عن وجود طلبات كثيرة تنتظر الترخيص في "الأراضي عالية القيمة"، إلا أن الوزارة لم توافق عليها، فيما يُدرس اتخاذ قرارات بهدم المباني المخالفة، في إطار الإجراء الرادع، إلا أن السلطة لا تنّفذ، وهو ما شجّع الاعتداءات.
وواصل حديثه قائلاً: "الموازنة بين حماية الأراضي والاستجابة للاحتياجات المتزايدة مسألة مهمة، حتى نحافظ عليها، كالسماح لمن يملكون مساحات كبيرة بالبناء على جزء صغير منها وزراعة البقية".

وأشار إلى أن التوسع الاستعماري، والمستعمرات الرعوية تهدد الأراضي غير المستغلة، وفي الوقت ذاته، يشجع الناتج المتدني من الأرض الزراعية أصحابها على التخلي عنها.

وشدد أن حماية الأرض الزراعية مسؤولية مشتركة بين الحكم المحلي والزراعة والهيئات المحلية، على أن تُحدد طبيعة الأراضي في كل موقع، على نحو مدروس ومقبول للناس من أجل الالتزام به.

ويخبرنا أن طواقم "الحكم المحلي" ترصد - حتى في أوقات العُطل - التعديات على الأراضي الزراعية، ومع ذلك أقرَّ "بالتقصير" في بعض المواقع، وبعدم تطبيق القوانين فيها.

ويتأتى حماية الأراضي الزراعية بزراعتها وعدم إهمالها وهجرتها، والكلام لنجوم، علمًا أن هناك مشاريع استصلاح في مناطق جبلية، في مقابل مواقع عديدة تشهد عزوفًا عن العمل في الأرض، مما يتطلب إجراءات عملية لدعم المزارعين للمحافظة عليها بزراعتها ووقف نزيف البناء العشوائي.

وكان "الحكم المحلي" قد هوجم في إثر تحديد أراضٍ زراعية خصبة في بعض المواقع، ثم أتي مستعمرون لوضع يدهم عليها.
معقبًا أن "الحكم المحلي" يحرص على التصوير الجوي سنويًا للمحافظات كافة، ويتابع الامتداد العمراني، ويتبنى رؤية متشددة للمحافظة على الأراضي الخصبة عبر المخطط المكاني، ويوجه البناء للمناطق منخفضة القيمة".

وقال إن الدراسات، التي تشارك فيها الوزارات ذات العلاقة، والمجتمع المحلي، تسعى لتقدير الامتداد العمراني لمدة تتفاوت من 20 إلى 30 سنة قادمة، وتدرس مدى تأثيره على الأراضي الخصبة، وسبل معالجته.

وأكد أن الوزارة نفذّت مخططات شمولية في مناطق من طوباس والأغوار الشمالية، وأريحا، ونابلس، ورام الله، ونسقّت مع الوزرات المختلفة، وأشركت المجتمع المحلي، في سبيل الحماية من الاستيطان والزحف العمراني، على حد قوله.
حماية الأراضي المتبقية "أمن قومي"

بدوره، قال جمال خورشيد عضو الأمانة العامة لاتحاد الفلاحين والتعاونيين الفلسطينيين، والأمين العام المساعد لاتحاد الفلاحين العرب، إن التاريخ سيكتب عن تدميرنا للأراضي الزراعية، "وسيحملّنا الأبناء مسؤولية تدمير الأراضي الخصبة وتحويلها لمبانٍ إسمنتية، وعدم وجود حيز ولو صغير لزراعته".

وأضاف أن اتساع مناطق (ج)، وعدم القدرة على بناء أي منشأة فيها، "زاد الزحف على الأراضي الخصبة بنحو ثلاثة أضعاف في مناطق (أ) لأن السلطة لا تهدم المباني المُخالفة".

وأشار إلى أن وقف الزحف يجب أن يبدأ بقانون زراعي متشدد يمارس الترغيب والترهيب، يُغرّم ويُجرّم كل اعتداء على المناطق الخصبة، إلى جانب إجراءات حكومية تسهل الاستثمار في المناطق الجبلية، وقليلة الخصوبة.
واستغرب خورشيد من حالة "غير المبالاة" عند الجهات المسؤولة عن مراقبة الزحف العمراني، واصفًا حماية الأرض الزراعية المتبقية بـ "مثابة أمن قومي".

وتوّقع تناقص الأراضي، بعد جيلين من الآن، بثلاثة أرباع مساحتها الحالية، وبالتالي ستنتهي المساحات التي يمكن زراعتها، مشيرًا إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية "قدمت لنا درسًا بضرورة امتلاك سيادتنا على غذائنا، وأهمية اتخاذنا إجراءات لمنع تدمير أرضنا".
ويشرح ما يقصده أكثر: "لتصبح حماية الأرض الخصبة جزءًا من الثقافة الوطنية، باتخاذ إجراءات من شأنها أن تمنع أي اعتداء جديد عليها، وتضع تصورًا للتعامل مع اعتداءات صارت واقعًا مفروضًا".

نوقف تدمير الأرض بحماية المُزارع
بالانتقال إلى د. عاهد زنابيط مدير الإغاثة الزراعية في شمال الضفة، فقد كان تشخيصه للحالة، أن الأرض الفلسطينية ضحية زحفين: استعماري، وعمراني، يُسرّعه العزوف عن الزراعة؛ بسبب اعتقاد بعض الناس بعدم جدواها، وتراكم الديون على الفلاحين، وتوجه الشباب نحو الوظائف، والعمل في الداخل المحتل.

وفي نظره، أن وقف نزيف الزحف العمراني يتحقق بحماية المزارع بأسعار عادلة، والإرشاد، وضبط المساحات، وتحديد الأصناف المطلوبة، على غرار تجربة الاحتلال في "الحسبة المركزية" التي تمنح التصاريح لأصناف محددة.

والمفارقة، وفق زنابيط، أن الكثير من الأراضي القليلة المتبقية اليوم أضحت فارغة، وهجرَها أصحابها، جراء الكساد المستمر في الخضراوات، التي لا تُضبط أسعارها ولا يوضع حدًا أدنى لها يَحول دون خسارة الفلاحين، الذين يُجبرون أحيانًا على إتلاف محاصيلهم.
وأشار إلى أن حجم الجهود التي تُبذل لحماية الأرض من الزحف لا يتلاءم والهجمة الكبيرة التي باتت عرضة لها، والتي تحوّلها إلى كتل من الحجارة، في وقت لم تعد هناك أرض زراعية في "مأمن من الإسمنت".

بإجراءات تصحيحية نحافظ على البقية

من ناحيته، يرى المهندس مازن غنّام الخبير الزراعي والتنموي، أن الزحف على الأراضي يُختصر بنقطتين، ما تبّقى من أرض، والواقع القائم.
وأضاف: "الأمر إذن، يستدعي "إجراءات تصحيحية" تحافظ على البقية، ولا تفاقم التدهور الحاصل".
وقال إن مشكلة الزحف تكمن في "الخشية من اتخاذ القرار، وترحيل الأزمات"، فتدمير الأرض ليس وليد اللحظة، وقد مرّ بمراحل، حتى وصلنا إلى الوضع الراهن.

"يتوجب على الجهات المسؤولة في المناطق التي تشهد تدميرًا للأرض، المشاركة في حل الأزمة، فعلى سبيل المثال مرج ابن عامر ليس مسؤولية بلدية جنين وحدها، بل تشترك فيه بلديات ووزارات وهيئات عديدة" يقول غنام.
واقترح إطلاق مائدة مستديرة في كل منطقة تشهد اعتداءات، تشارك فيها الجهات كافة لوضع خطة عاجلة للحفاظ على الأراضي الناجية حتى الآن من الزحف، والوصول لقرار جماعي.

وأشار إلى أن مخططات جنين الهيكلية ذهبت دون محددات باتجاه الأراضي الزراعية، وكان بالإمكان أن ترتد نحو الجبال، والأقل خصوبة.
وذكر غنام أن القيود على الأراضي كان يجب أن تكون أكثر تشددًا، لافتًا إلى أن ما ساعد على سرعة تدمير المناطق الخصبة ارتفاع مستوى المعيشة والإغراق بالكماليات، وتلاشي نمط الحياة الريفية.

حوّلنا مرج ابن عامر لصناديق إسمنتية
من مكانها، تُطلق آمنة دراغمة، الناشطة النسوية والموظفة السابقة في سلطة جودة البيئة، على نفسها لقب "محامية مرج ابن عامر"، هي التي تسكن منذ سنوات في شقة مطلّة على المرج، وتراقب التغيرات العاصفة به.
تعرب دراغمة عن حزنها على الحال الذي وصل إليه المَرج، فقد اختفى المشهد الأخضر، بعد أن كان على مدّ النظر، وتحوّل إلى "صناديق إسمنتية" فوق بعضها البعض، وبحرقة تُلقي سؤالها: "لماذا لا تتخذ الجهات المسؤولة عن المرج خطوات عاجلة ورادعة لوقف التدمير، والحفاظ على الأجزاء القليلة المتبقية؟".

وأفادت أن هذا الحال لا ينطبق على مرج ابن عامر فحسب، بل في طوباس وغيرها، التي تزحف المنازل والمشاريع التجارية على أراضيها.
وفي مقارنة تبدو مؤسفة، وفق دراغمة، أن الأراضي الواقعة في ما تسمى مناطق (ج) تسلم من الاعتداءات والزحف الإسمنتي؛ كونها خاضعة للاحتلال، الذي يهدم أي منشأة تُقام على حساب الأراضي الزراعية.
وختمت حديثها بقولها: "الشهداء يرتقون في سبيل الدفاع عن الأرض، وعلينا ألا نُقابل ذلك بتدميرها وتخريبها، فهلا حافظنا على الأرض للأجيال القادمة دون أن ندفنها في الإسمنت".

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير