(الحلقة الثانية والأخيرة)

في الحنين إلى مشمش الحاصوم في صفد والمشمش الغزي في القدس

14.07.2023 09:49 PM

وطن- عمر عاصي

صمدت بساتين المشمش في قرى وبلدات فلسطينية كثيرة مثل بيت جالا وجفنا وسلفيت وسبسطية وبلعا، إلا أن زراعة المشمش تراجعت في الكثير من المناطق حتى أصبحت مُجرد ذكريات، فغزة التي كانت تُصدّر المشمش إلى أسواق القدس تراجعت فيها زراعة المشمش كثيرًا وصارت تستورده، أما بساتين المشمش بين يافا والرملة فقد تعرضت لها حشرة أهلكتها ومشمش بيت حنينا أصبح من الذكريات الجميلة، وكذلك مشمش وادي عارة ومثله مشمش السيلة الحارثية وحتى مشمش الحاصوم البري انقرض بعد أن كان منتشرًا في أحراش صفد.

المشمش البري النادر في أحراش صفد

من أعالي الجليل نبدأ رحلتنا حيث للمشمش تاريخ عريق جدًا، فبالقرب من الطريق المؤدي إلى قرية إقرث المُهجرة (قضاء صفد) كانت هناك خربة تاريخية عُرفت باسم خربة مشمشة  وهي واحدة من عشرات الموقع الفلسطينية التي ارتبط اسمها بالمشمش، حتى وإن لم نجد فيها أي شجرة مشمش، إلا أن المشمش كان حاضرًا في تاريخها.

مما يؤكد عراقة المشمش في الجليل، أن زراعة المشمش كانت منتشرة إلى الجنوب من خربة مشمشة وتحديدًا في المرج بين قريتي معليا وترشيحا  وكذلك نجدها حاضرة في قرية البقيعة التي عُرفت بزراعة التين اللذيذ وكذلك بكثرة ينابيعها التي وصلت إلى أكثر من اثنتي عشرة عين ماء للشرب أيام الصيف، أما في فصل الشتاء فكانت تتدفق الينابيع فتبلغ أكثر من أربعين ينبوعًا  ، وكما هو معلوم فإن شجرة المشمش المروي يُمكن أن تنتج - بحسب الإحصاءات المنشورة عام 1930 - حوالي 50 كغم .
تحديدًا في الدراسة المنشورة في نشرة دائرة الزراعة والغابات بعنوان "زراعة المشمش في فلسطين سنة 1930" نجد معلومة طريفة عن محطتنا القادمة و"المثيرة" بيت جن المشهورة تاريخيًا بزراعة العنب الفريد.

أحد أصناف المشمش النادرة وهو المشمش البري كان موجودًا في أحراش بيت جن وبكميات وافرة ويُطلق عليه اسم "حاصوم"، كما يذكر الخبير الزراعي علي نصوح طاهر الذي كان يعمل في "محطة فراضيّة" للتجارب الزراعية، ومما يستحق النظر في هذه المعلومات أن الكثير من الباحثين الذين انشغلوا بالتاريخ الطبيعي في فلسطين مثل تريسترام نفى وجود هذا المشمش في فلسطين .


في مقالة حول التنوع الحيوي، يذكر الكاتب أحمد الشربيني بأن المشمش البري (Wild Apricot (Armeniaca vulgaris، الذي كان منتشرًا في وسط آسيا، لأول مرة ضمن القائمة الحمراء وصُنّف «مُعرّض للانقراض» ويضيف بأن هذا النوع هو السلف المباشر لكل أنواع المشمش التي زرعت على نطاق واسع في دول كثيرة، وهو آخذ في الانقراض تحت ضغط تراجع الموائل الطبيعية بسبب التوسع السياحي والعمراني .

من الجدير بالذكر، أن العديد من الأصناف المحلية تراجعت أعداد أشجارها كثيرًا، وأشهرها المشمش المستكاوي واللوزي والحموي والحلبي والعلوي، ليحل مكانها أصناف أجنبية مثل صنف كانينو canino  الأسباني الذي تأقلم مع الظروف المحلية، واكتسح البساتين أو حتى صنف "رعنانا" الذي عُرف بإنتاجه الغزير إذ يتفاوت من 2 إلى 4 أطنان لكل دونم، علمًا أن طعمه لا يُقارن بطعم المشمش الحموي أو المستكاوي الذي يعد أقل إنتاجية.

مشمش جنين من السيلة الحارثية إلى عمان والكويت
من صفد ننتقل إلى جنين مرورًا بمرج بن عامر المُلّقب بــ "سلّة خبز فلسطين" نصل إلى قرية السيلة الحارثية قضاء جنين، حيث كان للمشمش "أيام عز" يشتاق لها من عرف مشمشها الذي لم يصل إلى أسواق جنين وحيفا فحسب، بل حتى عمان والكويت في شاحنات مُحملة بخيرات جنين، كبطيخها الذي اُشتهرت به، إلى جانب مشمشها الذي ذاع صيته أيضًا.
حتى السبعينيات والثمانينيات كانت السيلة الحارثية من أكثر بقاع محافظة جنين إنتاجًا للمشمش ، ووفقًا لصفحة "ديوان السيلة الحارثية" فإن نحو ( 7-10 ) شاحنات  كانت تخرج إلى عمان مُحملة بهذه الخيرات يوميًا، وتحديدًا البطيخ من شرق جنين، والجرنق من كفر راعي، والمشمش من السيلة الحارثية، وبالأخص "المشمش العلوي" الذي تميزت به هذه المنطقة، ويعد من الأصناف التي تنضج مبكرًا في أول الموسم، وكان يضمن دخلًا اقتصاديًا ممتازًا للعائلات، حيث تكون أسعاره أفضل في بداية الموسم.

مشمش وادي عارة

من السيلة الحارثية ننتقل إلى وادي عارة، هذه المنطقة الغنية بالعيون والينابيع، ووفقًا لدراسة حول الجغرافيا الاستيطانية في وادي عارة  كان هناك حوالي 92 عينًا وينبوعًا في المنطقة عام 1957، منها حوالي 72 عينًا وينبوعًا في أم الفحم ومحيطها، وأما في عارة وعرعرة فكان هنالك 12 عينًا، وفي كفر قرع 7 عيون.
في هذه البيئة الجبلية والغنية بالينابيع ازدهرت زراعة المشمش واللوزيات عمومًا، وحيث قلّت المياه كما هو الحال في كفر قرع فقد زُرع المشمش في كروم الزيتون مركبًا على اللوز البري (ليتحمل العطش والظروف الصعبة) وبالتالي استغلال الكروم بينما ينمو الزيتون ببطء .

أما أم الفحم، فتشير المصادر إلى أن اقتصاد أم الفحم اعتمد منذ القدم علی زراعة الفواکه مثل اللوز والمشمش لدرجة أن "لوز أم الفحم" أصبح علامة تجارية وصنفًا مسجلًا حتى يومنا هذا، أما المشمش فقد زُرع وفقًا لوجدي حسن جبارين حول العيون والينابيع التي تميّزت بها أم الفحم، وتحديدًا في منطقة البساتين في العيون وعين خالد والبير، وهذه المناطق غنيّة باللوزيات، أما اليوم فقد اختفت مُعظم هذه الزراعات.

الناشطة عصمت يونس من قرية عرعرة، أخبرتنا قائلة: "قرى وادي عارة مليئة بالسهول المزروعة مشمش، وكنا أحد مزارعي المشمش الرئيسيين، وآخر عهدنا به كان عام 1995 ".
أما عن تراجع هذه الزراعة واختفائها فتقول: "هناك عدة تفسيرات للتراجع، منها أن الأيدي العاملة اتجهت نحو المصانع في المدن، ووُجدت فرص عمل أكثر في الصناعة، وأصبح الطلب على الأراضي للصناعة، وإقامة المحال التجارية مجزٍ أكثر، ومع ذلك أحنّ كثيرًا إلى تلك الأيام".

انقراض مشمش بيت حنينا
اختفاء المشمش من وادي عارة يأخذنا إلى قرى القدس؛ وتحديدًا إلى بيت حنينا، ففيها أصبح من النادر مشاهدة شجرة مشمش، مع أن زراعتها بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين  وكانت من الزراعات المزدهرة، وبها ارتبطت حكايا تكشف بأن انقراض صنف من الأصناف لا يعني مأساة بيئية وزراعية، وإنما كما يقول الباحث خالد عودة الله: "انقراض أشجار المشمش المستكاوي من كروم قرية بيت حنينا إعلان مأساوي عن نهاية حياة اجتماعية كاملة، استنزفتها الهجرة إلى بلاد الحلم الأميركي الزائف، وأجهز عليها الاستعمار الصهيوني " .

ومما يُحكى عن مشمش بيت حنينا المستكاوي ولذّته أن مهمة حراسته لم تكن سهلة فابتكر الأهالي حيلة - يذكرها خالد عودة الله - وهي عبارة عن إعلان وهمي بأن المشمش مرشوش، فكانوا يدفعون لرجل معروف لينادي في القرية: "يا أهالي بيت حنينا الحاضر يعلم الغايب، كَرَم فلانة مرشوش بالفلدور - نوع مبيد خطر - وقد أعذر من أنذر". أما المشمش الكلابي أو "تشلابي" فلم يكن لذيذًا وكانت جودته أقل، ولذا كان يُباع وهو أعجر لطالبات المدرسة هناك.

كل هذه الحكايات وغيرها غابت كما غاب المشمش الذي أصبح مجرد تاريخ.

محطة العروب والمشمش في الأبحاث الزراعيّة
من بيت حنينا نتجه إلى محطة العروب الزراعية وهي من أقدم المحطات الزراعية في فلسطين ويعود تاريخ إنشائها إلى سنة 1935 وأقيمت بالقرب من عين العروب وعلى ارتفاع 890 مترًا عن سطح البحر  .
ولنتوقف عند هذه المحطة، لأنها ذُكرت كثيرًا في الحديث عن المشمش والتجارب المتصلة بها في التقارير الزراعية في حكومة فلسطين الانتدابية والتي كانت تُجري الكثير من التجارب لبحث أفضل طرق زراعة وتركيب المشمش كما مقاومة الحشرات الضارة ، فحكاية الفلسطيني مع المشمش تخلّلتها أيام "صعبة".

فوفقًا للتقارير الرسمية، كانت المنطقة الممتدة بين يافا والرملة غنيّة جدًا بأصناف المشمش المختلفة وقد بلغت المساحة أكثر من 1300 دونم إلا أنها أصيبت بحشرة "حفار الجذور" أو (الكابنودس) - باللاتينية: Capnodis tenebrionis - مما أدى إلى تلف الكثير من الأشجار وذلك قبل الحرب العالمية الأولى  .
ويذكر الكاتب جميل ضبابات أن المشمش في فلسطين كان عرضة لهجوم طاغٍ من الجراد عام 1915 أصاب البساتين بالخراب ، ما استدعى وجود خبراء وباحثين لحماية هذا الإرث الزراعي القديم من الآفات والنكسات، مثل فريق محطة العروب الزراعية.

صمود المشمش اللهواني

نُغادر الخليل إلى محطتنا الأخيرة، وهي محطة غير تقليدية وهي بلدة بيت لاهيا، شمالي قطاع غزة، التي اُشتهرت بالتفاح اللهواني وأما مشمشها فقد عُدّ من أجود أنواع الفاكهة، وكان يغطي كمية كبيرة من احتياج قطاع غزة  .
ووفقًا لإحصاءات عام 1928 فقد بلغت المساحات المزروعة بالمشمش حينها 171 دونمًا من الأشجار المثمرة  وكانت هذه المساحة من أكبر المساحات على مستوى فلسطين.

أما اليوم فإن كل ما يزرع من مشمش ولوزيات في القطاع لا يكفي حاجته، ووفقًا للخبير الزراعي نزار الوحيدي تراجعت زراعة اللوزيات كثيرًا في عقدي التسعينيات ومطلع الألفين .

لو فتشنا عن "المشمش الغزي" في المراجع التاريخية سنجد الباحث بشير بركات يتطرق إليه   بقوله إنه من الأصناف التي كانت تُباع في أسواق القدس، وتؤكد ذلك وثيقة من وثائق السجلات الشرعية تعود إلى 24 ذي الحجة 951 هـ يظهر فيها أن أسواق القدس في تلك الفترة كانت تُباع فيها أصناف من المشمش هي المشمش الغزي والمشمش الشامي، وأن غزة كانت تزود القدس، إضافة إلى المشمش "اللوز الغزي" و"البرقوق الغزي".

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير