(الحلقة الأولى)

المشمش الصامد من مقاومة الاستيطان إلى السياحة البيئية

17.06.2023 05:16 PM

وطن- عمر عاصي

موسم المشمش في فلسطين يليق به الحضور البهي، إلا أنه ليس ككل المواسم؛ إذ بالكاد يكون أسبوعًا يسمى "الجمعة المشمشية"، والمؤسف أن يجد الباحث عن القرى التي تميّزت بزراعة المشمش أنها أصبحت تترحم على "أيام المشمش" مثل السيلة الحارثية التي كانت من أشهر قرى جنين إنتاجًا للمشمش، وبيت حنينا التي صارت أشجار المشمش فيها نادرة، وحتى جفنا التي اشتهرت بمهرجان المشمش تراجعت زراعته فيها كثيرًا، وكل هذا يدفعنا لتسليط الضوء على مبادرات فلسطينية تبدع في إعادة إحياء بساتين المشمش، فقد حُوّلت بعض البساتين إلى محطات للسياحة البيئية، وبعضها الآخر أضحت محطات للصمود ومقاومة الاستيطان.

المشمش الناصري والسياحة البيئية عند جبل الطور

نبدأ جولتنا من الناصرة والتي طغت فيها شهرة الكنافة على المشمش الذي لم يعد يُذكر كثيرًا، بيّد أن مصادر تاريخية تؤكد أن بساتين الناصرة كانت تزرع "المشمش الناصري" الذي يتمتع بمذاق خاص يعرفه أهل فلسطين بالمشمش اللوزي  - وهو نفسه المستكاوي في مناطق أخرى.

إذا ما أردنا تذوّق شيء من هذا التاريخ، فإن أشهر محطة نتذوق فيها المشمش هي مزرعة فواكه الطور الواقعة على مدخل قرية كفركما الشركسية، وهي مزرعة تصل مساحتها إلى 60 دونمًا تتيح للزوار الدخول وأكل المشمش بلا حدود، وفي المقابل يكون الدفع لقاء ما سيُشترى، ومن الجدير بالذكر أن هذه المزرعة هي من المزارع العربية القليلة التي تشجع هذا النمط من السياحة البيئية والآخذة بالازدياد.

هذا التطور في مجال السياحة البيئية - وإن كان بطيئًا - يُذكرّنا بدعوة نجيب نصار الذي كان يتجول في فلسطين قبل 100 عام، ضد الصهيونية مناديًا في حينه بإحياء الأراضي وزراعتها بواسطة صحيفة الكرمل قبل حوالي 100 عام (سنة 1922).
وفي زيارته إلى الناصرة راح يُطالب أهلها بالاهتمام أكثر بـما يسمى "وعر الناصرة" وزراعته بالمشمش والتفاح، مبشرًا أن هذه الزراعة يُمكن أن تحقق إيرادات عالية، "فتنتعش الناصرة وتسترد شيئًا من حياتها" .

المشمش البلعاوي وإحياء المشمش الحموي

من قرى الناصرة وجبل الطور ننتقل إلى قضاء طولكرم، وتحديدًا قرية بلعا التي يُعد مشمشها (المشمش البلعاوي) من العلامات التجارية البارزة في فلسطين، وتكاد شهرته تفوق نفق بلعا التاريخي الذي شُيّد لمرور القطارات في الفترة العثمانية قبل أكثر من 100 عام، وهو من المعالم السياحية الهامة في فلسطين.
مع أن بلعا ذاع صيتها كذلك بالرمان البلعاوي الأصفر المميز، إلا أن مشمشها يعد أكثر شهرة، فيذكر الكبار أن موسم المشمش كان أشبه بعرس في بلعا.

وبحسب التقديرات كان يُصدّر منه حوالي 20 طنًا إلى أسواق يافا يوميًا،  وقد تراجعت هذه الزراعة إلى حد كبير، إلا أن جهودًا مضنية تُبذل لإعادة إحياء زراعة المشمش وتحديدًا المشمش الحموي، فقد نفذّت جمعية الإغاثة الزراعية عدّة فعاليات لإعادة هذا الصنف، كما جاء في صفحة بلدية بلعا.

المشمش السبسطاوي في مقاومة الاستيطان

نُغادر بلعا وطولكرم، ومنها نتحول شرقًا إلى قرى نابلس وتحديدًا عند ارتفاع 440 مترًا عن سطح البحر نصل إلى بلدة تاريخية شهيرة اسمها "سبسطية"، لها مع المشمش حكاية عريقة.

كثيرون قد يعرفون عن علاقة سبسطية بالرومان، ولكن قليلين يعرفون ربما أنها كانت تُعرف سابقًا بـ "قرية المشمش" ، وحقًا كانت سبسطية قديمًا عاصمة الرومان في فلسطين، ولا يزال في القرية معالم من تلك الحقبة وأشهرها ساحة المدرّج الروماني، وأما مشمشها يوشك أن يختفي بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرضته "إسرائيل" على المشمش وغيره من الفاكهة التي تمنع تصديرها من الضفة ، إلا أن المشمش بدأ يعود في الآونة الأخيرة، وبحسب حديث كفاية غيث من مجموعة حكي القرايا  تُبذل جهود في الآونة الأخيرة لإعادة الاهتمام به، ويُمكن أن نراه في كل مكان في سبسطية، وقد "عاد المشمش السبسطاوي" إلى السوق وبقوة" .

إحياء الأرض وزراعتها كان كافيًا لإثارة غضب قُطعان المستوطنين الذين لا ينقضي جشعهم، ففي تاريخ 20.10.2020 عمد مستوطنو مستوطنة "شافي شمرون" المقامة على أراضي عدد من قرى شمال غرب نابلس، إلى إغراق الأراضي الواقعة غربي البلدة بالمياه العادمة ، وفي تاريخ 12.10.2021 اقتلع المستوطنون نحو 700 شتلة مشمش، و200 شتلة زيتون من الأراضي المحاذية لمستوطنة " شافي شمرون" .

مشمش سلفيت بصحبة الينابيع والأمطار

في المسافة الفاصلة بين سبسطية وسلفيت تنتشر قرى كثيرة، جلّها مزروعة بالكثير من التين والزيتون حتى نصل إلى سلفيت التي تقع في بحر من الزيتون كما يُقال، فقبل نكبة 1948 بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالزيتون فيها 9000 دونم، وهي أكبر مساحة على مستوى فلسطين، وهو ما ميّز سلفيت وجبال نابلس، ولكن ما يميز سلفيت كذلك أنها مشهورة بكثرة ينابيعها والتي بلغ عددها 60 ينبوعًا وفق الموسوعة الفلسطينية، كما أن كمية الأمطار فيها تصل إلى 700 ملم سنويًا، وهي من أعلى المعدلات على مستوى الضفة الغربية وفلسطين .

بحضور الينابيع والأمطار لا بد أن يكون للمشمش حضور لامع، كما أن سلفيت تقع على ارتفاع 500 متر عن سطح البحر، ما يعني أن الظروف البيئية مواتية لزراعة المشمش.

وفي حديث مع المزارع مراد القرواني يقول إن مزرعته تعود إلى حوالي 150 عامًا، وهي من أقدم مزارع المشمش في سلفيت والضفة الغربية ، ولو تأملنا خرائط فلسطين الانتدابية سنجد أن المناطق المرتفعة المحيطة بالعيون كانت تُزرع غالبًا بالفاكهة كالمشمش، ومن أبرزها "عين فريج" التي اُستخدمت للري من القدم، وتتميز بمياهها الباردة والنقية وتُصنف محليًا بالـ "دست"، وإلى جانب عين فريج فإن عيون سلفيت كثيرة، ولعل أشهرها اليوم هي "عين المغرفة" التي زُرعت حولها أشجار كثيرة مثل الكرز والتفاح، وكذلك اللوز والمشمش .

مهرجان المشمش الجفناوي وبساتين عين سينيا

من سلفيت نتجه جنوبًا باتجاه قرى رام الله، وتحديدًا إلى قرية جفنا التي كانت تنتج في السابق أطنانًا من المشمش ذي الجودة الفائقة، لكن يا للأسف أُهملت هذه الزراعة، ويبدو أن ثمة محاولات لإنقاذ وإنعاش بساتين هذه الشجرة بتنظيم مهرجانات عُرفت بـ "مهرجان المشمش"، الذي أقيم لأول مرة عام 1985 ثم نُظّم لسنوات لاحقة وحُشدت له جهود إعلامية لا بأس بها، وكل ذلك لتشجيع زراعة المشمش وتعزيز المزارعين وصمودهم، إلا أنه يا للأسف لم ينجح وفق مصادر متعددة بوقف تراجع زراعة المشمش في جفنا، بل إن تقريرًا لموقع "بُكرا" يذكر أن كمية المشمش المستكاوي التي عُرضت في أحد المهرجانات وصلت إلى 30 كغم فقط.
في مدينة رام الله اليوم، إذا سألنا عن المشمش سنجد أن قرية مثل عين سينيا حاضرة أكثر من جفنا التي حظيت بالسمعة التاريخية، ووفقًا لفريد طعم الله من مؤسسي "حكي القرايا" أن مزرعة العم "أبو عبد الله" في عين سينيا هي من بساتين المشمش الكبيرة في رام الله، ويبدأ فيها الموسم في مطلع شهر حزيران، وتزرع الأصناف البلدية المحلية كالمستكاوي.

وبالرجوع إلى صفحة "عين سينيا القديمة" فإن مزرعة "العم أبو علي نصار" في منطقة البقيعة هي كذلك من المزارع البارزة في القرية، ويمكن زيارتها والتمتع بطعم المشمش بعد قطفه مباشرة.

مشمش بيت جالا

من قرى رام الله إلى قرى بيت لحم، وتحديدًا بيت جالا، وهي القرية الأكثر براعة في صناعة العلامات التجارية الزراعية، ولها حكاية مع زيت الزيتون "البيتجالي" وهو أغلى زيت زيتون على مستوى فلسطين، ويُعتقد أهل بيت جالا أنه "أفضل زيت زيتون في فلسطين"، لكن البيتجاليين لم يكتفوا بهذا اللقب بل نجدهم يرون أن المشمش البيتجالي أفضل مشمش في فلسطين ويبدعون في تسويق الفكرة.

عندما نبحث عن حكايا بيت جالا سنجد أغنية شعبية عن البلد تقول: "مشمش بلدي وحبة تين بتسوى الغربة والملايين" و"بيت جالا محلا جبالا" وهذه هي المقدمة فقط، حيث نجد المزارع البيتجالي سامي المكركر يفتح مزرعته للزوار باعتبارها مكان للنزهة وتذوق المشمش البيتجالي المميز، مؤكدًا أن الناس أحبت الفكرة فيأتون إليه ويستمتعون بالوقت، يلتقطون الصور ويشترون ما يشاؤون من المشمش .

ويقول المزارع خضر المكركر إن طعم المشمش في بيت جالا يختلف من منطقة لأخرى، إذ يعد الطعم بمنطقة "المخرور" الأكثر لذة وحلاوة من أي منطقة أخرى في بيت جالا وفلسطين، مضيفًا أن أهالي المنطقة يمكنهم تمييز المشمش البيتجالي عن أي مشمش آخر لو قُدّم إليهم.

واللافت أن الأدبيات الزراعيّة تحيزّت لمشمش بيت جالا كما لم تفعل لغيرها من القرى، فهو حاضر في الكثير من الكتابات والمقالات أكثر من مشمش بيت حنينا، وأكثر من المشمش الجفناوي والسلفيتي والسبسطاوي والبلعاوي والسيلاوي.
ختامًا، لا شك أن زراعة المشمش لم تقتصر على هذه المناطق، ولكن من المؤكد أن هذه المناطق برعت في تسويق "مشمشها" أفضل من غيرها، فمن الصعب أن تبحث عن المشمش في فلسطين دون أن يُحكى لك عن مشمش بيت جالا المستكاوي أو بساتين المشمش عند جبل الطور الذي أصبح من الوجهات السياحية المهمة لعشاق المشمش، وتحديدًا في أول الموسم، وكذلك فإن بساتين المشمش في عين سينيا تفتح أبوابها للزوار، وهذه كلها خطوات من شأنها أن تجعل هذه البساتين تنتعش فتكون ملاذًا للسائحين ومُربحة للمزارعين.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير