"كل الأرض صالحة للزراعة" قصة "أبو محمد" قد تلهم خبراء التنمية

23.02.2023 11:20 PM

وطن: سعد داغر

خاص بآفاق البيئة والتنمية

أخبرني أنه ترك العمل في البناء، وأصبحت الأرض شَغَفه وملاذه، بعد أن كان بَنّاءً محترفاً، تبادلنا أطراف الحديث عن الزراعة، التي يكتفي منها ويحقق دخلاً مجزياً، دخلٌ يُمَكِّنه من العيش الكريم دون الحاجة للعمل في ورشة أو العمل بأجر.
ظننته يتحدث عن مساحة كبيرة بمقاييسنا الفلسطينية المحلية (خمسة، عشرة أو عشرين دونماً) وعن زراعة مَروية، وظننتها أرضاً فيها تربة خصبة، عميقة وكافية وربما هناك دفيئة زراعية، واستخدام للأسمدة وشبكات الري الحديثة، وغير ذلك من مواصفات أرضٍ نتخيلها، فهكذا أصبحت الغالبية ترى الزراعة بهذه المقاييس والممارسات، عندما نسمع بأحدهم يمارس الزراعة ويعيش مما يأتيه منها ومن بيع الفائض.

التقينا في مكان ليس بعيداً عن أرضه، وأصرّ على دعوتي لزيارة مزرعته، ولكن الإصرار في داخلي كان أكبر، لأرى ما يتحدث عنه بكل هذا الشغف والحب، وفي الأسبوع التالي، حيث كانت الزيارة الثانية للمنطقة، وبعد الانتهاء من العمل المخطط، في أرض ليست بعيدة عن أرضه، انتقلت لمزرعة جلال علي عبد الرزاق وكنيته "أبو محمد".

لصار الزيت دمعًا
دخلت من الباب في زاوية الأرض، حيث فتحة في سياجٍ تمثل مكان الدخول والخروج لأرض يحيطها سياج يحميها من الحيوانات البرية، وما أن تجلّى المشهد حتى ظهر المعنى الحقيقي لمقولة "يحفرون الصخر بأظافرهم"، ومعنى ما قاله محمود درويش: "لو عرف الزيتون غارسه، لصار الزيت دمعًا".

حين تنظر للمكان المحيط ترى أرضاً، يطلّ فيها التراب بخجل من بين الصخور وبعضٌ من شجيرات وأعشاب، فالأرض هنا تغلب عليها الكتل الصخرية البارزة وحفنات من التربة بينها، لتكون في مقاييس خبراء الزراعة وتأهيل الأراضي "غير قابلة للزراعة" أو "منخفضة القيمة الزراعية" أو أرضٌ استصلاحها وتأهيلها عالي التكلفة.

نعم، لقد جعلنا بمؤسساتنا الزراعية التنموية، الأهلية والدولية والرسمية، من استصلاح وتأهيل الأراضي عملية عالية التكلفة بسبب الاستخدام المكثف للآلات، وأصبح الفلاح يعتقد أنه ليس بالإمكان تأهيل الأرض يدوياً، وأن الأرض تحتاج للآلات الثقيلة في أعمال استصلاح وتأهيل الأراضي، لقد أوصلناه بعملنا المؤسساتي إلى هذه النتيجة، فأصبح الفلاح لا يرى إمكانيةً لتحويل أرضه لأرضٍ منتجة، دون إدخال الآلة الثقيلة بتكاليفها العالية، التي قد تصل لــ 30 ألف دولار لتأهيل عشرة دونمات من الأرض (هكتار واحد)، مما جعل الفلاح في حالة انتظار لهذه المؤسسة أو الوزارة أو تلك، لكي يعمّر أرضه.

صحيحٌ أن بعض الحالات تحتاج لمساعدة الآلة، لكن هناك أيضاً قدرة على تأهيل الأرض بتكاليف أقل وبعمل يدوي، يقوم به الفلاح صاحب الأرض بنفسه، كما فعل الأسلاف وعمّروا جبال فلسطين بأظافرهم وزرعوها بالتين والزيتون والأعناب وكثير من الفاكهة، دون إلحاق الأذى بالتنوع الحيوي والنباتي والطبقة السطحية من التربة، ودون تشويه كبير للمشهد الطبيعي الذي تُحدِثُه الآلات الثقيلة.

منهج يخفف من آثار التغير المناخي
وبما أن تكاليف الحياة ومتطلباتها اختلفت اليوم عن ذي قبل، يمكن للمؤسسات والعاملين فيها إبداع صيغةٍ وآلية عمل، تعطي الأولوية للفلاح ليعمّر أرضه بنفسه وبيديه وبالاعتماد على خبرته وقراءته للأرض، بدلًا من شركات المقاولات التي تستنزف ميزانيات كبيرة. صيغةٌ تضمن للفلاح دخلاً يساعده على تغطية احتياجاته اليومية والعيش بكرامة، وهو يعمّر أرضه بيديه في فترة زمنية محددة، بإشراف الجهة التي ترغب بتقديم المساعدة، من متابعة إدارية ونحوه، ولكن الأهم الإشراف الفني لجعل الأرض قابلة لاستقبال كل مياه الأمطار وحفظها في التربة، في زمنٍ نشهد فيه اضطراباً في المناخ وحالات الطقس المتقلب العنيف أحياناً.
إشراف يحوّل الحقل إلى مزرعة متنوعة الإنتاج، ليبقى هذا الإنتاج متواصلاً على مدار العام ولرفع خصوبة التربة وزيادة المادة العضوية فيها بأقل جهد وبتكاليف محدودة، ولجعل الزراعة عنصراً مساهماً في الحد من انبعاث الغازات التي تسبب ارتفاعاً في حرارة الكرة الأرضية، ولتصبح الزراعة حلاً للتغير المناخي وحفظ الكربون في التربة والكتلة النباتية، بدلًا من أن تكون مصدر انبعاث الكربون إلى غلاف الجو.

وهنا يعيدنا "أبو محمد" جلال عبد الرزاق، إلى تلك الحقيقة ويثبت أن الكثيرين قادرون على الاعتماد على الأرض، ليعيشوا بكرامة، وأن التأهيل اليدوي للأرض ممكنٌ وبتكاليف قليلة، وإن كانت تغلب عليها الصخور، وأن الأرض التي تصلها الشمس يمكنها أن تفيض بالغذاء، وجلّ ما تحتاجه قليلًا من عرق الفلاح وعمق التصاقه بها وفهم بعض قوانينها الطبيعية.
وإن أرادت أن تحضر المؤسسات في المشهد، فهذا ممكن بشيء من التعديل على منهجية عملها، وطريقة التنفيذ، بعيداً عن العمل الآلي عالي التكاليف، أو بتدخلاتٍ آلية بسيطة وتكاليف أقل، ويكون الفلاح محور العملية.

عملٌ يمكن به إدخال منهجية "احتضان مياه الأمطار في التربة/الطبيعة"، وسيلةً أساسية لتحسين الإنتاج الزراعي، وتحسين المخزون الجوفي للمياه، وتحسين تدفق الينابيع، وذلك بحفظ كل قطرة مطر تسقط في حقول المزارعين، هذا المنهج الذي لم يجرِ العمل وفقه عملًا متكاملًا عندنا حتى الآن، وإن كانت هناك بعض التطبيقات المتفرقة هنا وهناك، دون تحويلها لأعمال متكاملة، في إطار رؤية شاملة للتعامل مع مياه السماء وتراب الأرض.

منهج العمل هذا، إضافة لأهميته الزراعية، يلعب دورًا مهمًا في التخفيف من آثار التغير المناخي والتكيف معه، ويسهم في شفاء أرضنا، التي باتت تئّن من وطأة ممارسات صفتها الأساسية الجهل بالأرض وما تحتاجه، الجهل بالتربة وما فيها، الجهل بما يمرضها ويقتلها، هذا الجهل واللامبالاة جعلنا نرتكب الجرائم بحق الأرض والتراب والطبيعة بتنوعها الحيوي والنباتي، بسكب السموم في جوفها في صيغة أسمدة كيميائية ومبيدات أعشاب ومبيدات آفات.
لكن ما الذي فعله ويفعله جلال هنا في مزرعته الصغيرة بمساحتها، الكبيرة بعطائها، في قريته دير السودان، شمال رام الله؟ الجواب يحمل الكثير من التفاصيل.

تعلّمتُ الكثير بعد أن كنت "غشيمًا"
ينظر الرجل إلى بيتٍ في أعلى التلة ويشير بإصبعه قائلاً: "هل تَرى ذاك البيت؟ كان آخر بيت بنيته لأصحابه، وبعده تركت مهنة البناء".
في يومٍ وأنا هناك، جاءني صديق ومعه شخص من خارج القرية، وقال: هل تريد بيع أرضك الصخرية تلك؟ سرنا معاً نحو الأرض وقال الغريب: ضع الرقم الذي يناسبك وسأدفعه مقابل هذه الأرض.
عندئذٍ قلت له: "هذه الأرض ليست للبيع ولم تكن يوماً كذلك، هذه الأرض سأعمرّها وأزرعها".
"لكنها كتل من الصخور"، قال ذاك الغريب الراغب بشراء الأرض: "ستراها إذا كتب الله لنا العمر الكافي وإذا كتب لنا أن نلتقي"، رد عليه أبو محمد وقد اشتعلت في داخله النار.

يستمر في حديثه معي: "أنهيتُ عملي في البناء وجئت للأرض وكلي إصرار وقناعة أنه لا توجد أرض هنا غير قابلة للزراعة، الأرض تحتاج للهمة والعزيمة والإرادة، فبدأت في إزالة الحجارة المتحركة وبناء الجدران الحجرية "السناسل" وتجميع التراب في بُقَعٍ هنا وهناك، وزرعتُ الزيتون والتين واللوز والعنب والبرقوق، حفرت الأرض بيدي، ونقلت التراب من جزءٍ لآخر بهذين الكفين، قضيت أسابيعاً وأشهراً وأنا أعمل وحيداً وما زال العمل مستمراً، فالأرض تحتاج للعمل دوماً، أُعطيها لتعطيني، أنا أقضي وقتي هنا، مع الأرض وما فيها من أشجار وخضار، أعيش مرتاح البال، هي ملجأي الدائم ومصدر توازني وسعادتي".
يقول: أنا أنتج من هذه الأرض ما يكفي للإنفاق على الأسرة، ولكن السر في ديمومة الإنتاج على مدار العام بلا توقف، يجب أن يكون الدخل متواصلًا وليس موسمياً، يجب أن تكون عندك خطة عمل في الأرض، تمامًا كما تعدّ مخططًا لبناء بيتٍ، وبعد البناء يجب أن تكون بحوزتك خطة استعمال وصيانة دائمة للبيت، هكذا هو الحال مع المزرعة.

لكن كيف، وأنت تعتمد الزراعة البعلية أو القليل جداً من الري في الصيف لبعض المحاصيل، وأرضك صخرية، والتربة قليلة وسطحية والمساحة 2200 متر مربع فقط، كيف لك أن تنتج وتحقق ما يكفي من الدخل؟ رد على تساؤلي: اُنظر، هنا الزيتون، بنيت حوله دوائر أو أنصاف دوائر من الحجارة، ملأتها بالتراب لأن الأرض صخرية والتربة غير عميقة، وهكذا أحفظ الرطوبة بنسبة عالية، ما يمكنّني من زراعة الفول والبازلاء والبصل والثوم والبطاطا في هذه الدوائر حول الشجرة وفي المسافات الفارغة بينها، الزيتون عندي يعطي محصولاً وفيراً كل عام، لم أعد أعاني "ظاهرة المعاومة" في الزيتون- الظاهرة التي يكون المحصول فيها غزيرًا في عام وخفيفًا في العام التالي-.

تراني أعتني بالشجرة، كما يعتني الأب بطفله، اُنظر إلى شجرة الزيتون كيف أقلّمها، لن تجد عليها غصناً جافاً، ولا مكسوراً، ولا أفرع متشابكة، ضوء الشمس يتخلّلها كاملةً وكذلك الهواء، شجرة مثل هذه وبكل هذا الاعتناء والحب، كيف لها ألا ترد علي بالحب والوفرة والإنتاج الغزير.
قال: "أصارحك، في البداية كنت قليل الخبرة في الزراعة "غشيم"، كنت لا أعرف كيف أقلّم الزيتون، أما اليوم، أتعامل مع الشجرة كما يتعامل الحلاق مع شعر الرأس، لقد اكتسبت ما يكفي من الخبرة ومع ذلك ما زلت أتعلم.
فمثلاً في الشقوق بين الصخور الثابتة والكبيرة، تلك التي لا يمكن تحريكها، الطبيعة تفعل فعلها، يمكنها "تمزيق" الصخور وفلقها، فالأشجار بجذورها تخترق الصخر وتفتّته ببطء، لتصل جذورها إلى الأعماق، وبذلك تزداد كمية مياه الأمطار التي تبقى في الأرض، وتتحول الأرض الصخرية إلى أرض يمكن الاعتماد عليها في الإنتاج.

معدل راتب موظف متوسط الدخل
في مزرعة "أبو محمد" يوجد العنب والأجاص والأسكدنيا، الليمون والبرتقال والتين، اللوز والزيتون، كما تجد الفول والبازلاء، البصل والثوم، البطاطا ولسان الثور، الزعتر والميرمية، الخس والزهرة والملفوف، السبانخ والجرجير والهندباء، اللوف والفجل، العدس والترمس، وهي أشياء يمكن أن تجدها عند آخرين في مزارعهم، لكن الفرادة هنا تأتي في الاعتماد على ما يأتي من الطبيعة: الحجارة التي يبني فيها أحواضاً للشجر، تربة الأرض التي يجمعها من بين الصخور ليصنع مكاناً يزرع فيه زيتونة، ومع الزيتون تجد في الحوض فولاً وغيره من النباتات، والأكثر إثارة زراعة بذور اللوز في شقوق الصخور لتفتّتها.

الهدف في الأساس هنا ليس الشجرة بحد ذاتها لكي تنتج؛ ولكن على المدى البعيد وبعد عدة سنين - صناعة أرض للزراعة بعد أن تتفتت الصخور لحجارة أصغر يمكن تحريكها، لا شراء للتراب من أماكن أخرى ونقله للمزرعة، لا جرافات وآلات حفر تمزق الطبيعة، بل قوانين الطبيعة التي تعلّمها الفلاح من طيور تحمل حبة لوز تضعها في شق الصخر، لتنقرها وتتغذى عليها، لكن حبة اللوز تهرب تحت ضغط ضربات منقار الطير وتذهب داخل شق الصخر بعيداً عن منقاره، لتستقر هناك حتى الشتاء، عندها تنمو شجرةً وتشق الصخر.
هكذا كانت دروس الطبيعة مع جلال عبد الرزاق، ألهمته وجعلته عاشقاً للأرض خادماً لها، فجادت عليه بخيراتها. وحين حسبنا ما يتحقق له من دخل سنوي من هذه الأرض، كان المعدل يساوي معدل راتب موظف متوسط الدخل، الفرق هنا أن "أبو محمد" أصبح سيد نفسه، مرتاح البال، لا يأبه بأزمات ارتفاع أسعار الغذاء، فكثير مما يحتاجه في طعامه ينتجه هنا، لاستهلاك أسرته ويبيع الفائض، ينتج بذوره البلدية ويبيع منها ما يزيد.

من الفول وحده يبيع ما يعادل دخل موظف لشهر، ومن البازيلا أكثر، أما الزيتون فيحقق منه دخلاً يعادل راتب موظف متوسط لخمسة أشهر، إذ يبيع ورق العنب، الذي بات يدّر دخلاً مجزياً له. 
لكن، لماذا يُقبل الناس على شراء إنتاجك، سألته؟ "الموضوع بسيط" يجيبني، الناس يثقون بالإنتاج، فأنا لا أرشّ ولا أستخدم أسمدة كيميائية، وحين يتذوقون إنتاجي مرة، سرعان ما يصبحوا زبائني، لدي زبائن من القرية وهناك غيرهم في القرى المجاورة أصبحت معروفاً لهم.
في الصيف يزرع الخضار الصيفية ويعطيها بيديه القليل من الماء بلا شبكات ري، فهو يزرع الخضار البلدية المتأقلمة مع نقص المياه، يزرع البامية واللوبيا، البندورة والكوسا البلدية، الفقوس، الحمص، قليل من الفلفل والباذنجان والفاصوليا والخيار لأنها مستهلكة للمياه.
ولا أملّ من حديثه الذي ينساب بحب: "الأرض أصبحت لي مدرسة، بل أكثر من مدرسة، كل يوم تعلّمني دروسًا، أجرب وأجرب وأتعلم، أتعلم كيف أقتصد في المياه، كيف أزيد الإنتاج، كيف يستمر الإنتاج على مدار العام لنأكل ونبيع، هذا ما تعلّمني إياه هذه الأرض، تعلمتُ أن الفول لا يعطيني فقط، بل هو يعطي غذاءً للزيتون والتربة، وكذلك هو الحال مع البازلاء.

أقلّم شجرة الزيتون بطريقة تسمح لضوء الشمس أن يتخلّلها ويصل للأرض تحتها، وهكذا أستطيع زراعة الخضار تحتها لأن الشمس ستصلها، وإذا زرعتُ تحتها أو بالقرب منها في الصيف خضاراً صيفية وأعطيتها بعض الماء، ستستفيد شجرة الزيتون من هذا الماء أيضاً، وبهذا أزيد قيمة الفائدة من الري القليل الذي أقدّمه للخضار.
تلك هي الإدارة الصحيحة للمياه والموارد، ويختم أبو محمد: "راحتي أجدها في أرضي، ها أنا أعلّم أولادي هذا العمل ليلتصقوا بها، كما التصقتُ أنا بها".

أبو محمد تعلّم من الأرض بعض دروسها، فمتى يتعلم خبراء التنمية من هذا الرجل شيئاً من دروسه؟

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير