آية العباسي تهنأ لها بساطة العَيش كل يومٍ بِيومه (الحلقة الأولى)

09.10.2022 10:21 PM

وطن- حوار: هديل عوني عطاالله

"صباح الخير صبايا".. إنها أول خطوة في روتين آية اليومي، حين تلقي تحية الصباح على دجاجتيها "نوف" و"راني " وبطتها " ليزي" التي استعادت عافيتها أخيراً بعد أن فقأ قطٌ عينها اليمنى.

تضحك آية ضحكة مجلجلة حين تناديهن، هي تعلم أنهن لن يجبنّها، لكنها على ثقة أنهن يشعرن بمحبتها لهن، وتقديرها لجهدهن لما يعطين من بيض ومرح.

وفي المقابل كم حزنت، بل إنها بَكت حين مات ديكها الأبيض الجميل قبل شهر، لقد كان صاحب صوت صِياح لم تعهده آية على أي ديك ربّته من قبل، وستظل تتذكر تلك الصباحات التي استيقظت بها على صوته عند طلوع الفجر معلناً انطلاق يوم جديد.
آية العباسي التي تشعر بتأنيب الضمير لو تناولت الإفطار قبل أن تسقي نباتاتها، وأيامها تكون في عزّ جمالها حين تقضيها في الطبيعة، لما تبثه من سعادة في روحها، فتُجدّد امتنانها لما أنعمه الله عليها.

في اللحظات البسيطة تجد المدّونة المقدسية تماماً لأيامها، تعيشُ كل يوم بيومه. قد لا يكون يومها خارجًا عن المألوف، وربما لا يعدو أن يكون يومًا مشمسًا بهواء عليل، فقط هو بسيط مكرر بطيء، لكنه جميل وسعيد، والمهم في نهاية المطاف كما تقول "يكفيك في هذه البلاد أنك فيها وهي فيك".

وبإيجاز، آية صاحبة قناة يوتيوب ومصورة، وصانعة أفلام، وتتقن ست لغات، تتعلم باستمرار عبر الإنترنت، وبالتعلم الذاتي استطاعت أن تتوغل في عدة مجالات منها هندسة الحدائق وهندسة الديكور، وحازت على بطولات في الفروسية في دول عدة، وتمارس "اليوغا"، وتشارك في أعمال تطوعية في فلسطين وخارجها.

بصحبتها كان لنا حوار يشبه جريان نهر، نتعرف فيه على نمط حياة ممتع ومليء بالحياة اختارته شابة فلسطينية، بعيداً عن الوجه المصطنع للواقع الافتراضي، وقررت في الآونة الأخيرة أن تتجه نحو البيئة.

لو عدنا إلى طفولتك كيف أثرّت التربية في اهتمامك بالتفاصيل الصغيرة الخاصة بالبيئة؟
الانتماء للبيئة والاهتمام بها لم يأتِ من فراغ، عشت طفولة دافئة في كنف أسرة محبة للطبيعة، ونشأت وأنا أرى والدي يهتم بالزراعة، ويقضي ساعات طويلة في الاهتمام بحديقة منزلنا المتواضع، كنت أرى حديقة منزلنا تتخطى حجم منزلنا بأضعاف ويُعتنى بها عناية فائقة، فكان من البدهي أن تتشكل لدي رؤية مفادها أن البيئة منا ونحن منها، فلا يمكن لأحدٍ منا أن يدوس الآخر لأجل مصلحته، وكما تقدّم لنا البيئة من خير كثير، من ظلٍ ومطر وغذاء لا بد لنا أن نبادلها العناية، وإلا نكن جاحدين بالنعم.
أمي أيضاً كانت تهتم بشغف بزراعة الورود بأشكالها وألوانها، وفي كثير من المواقف شاهدت الدمع في عينيها لأنها رأت أشجارا قُطعت في مكانٍ ما، لأجل بناء أو تلبية حاجة أنانية لشخص ما كركن سيارة أو ما شابه.

كما أن للتربية الإسلامية التي نشأت عليها أثراً كبيراً في بلورة رؤيتي بهذا الخصوص، إذ تعودت منذ الصغر على فكرة أن الزراعة والاهتمام بالأشجار والعناية بالبيئة ليست من الكماليات، إنما من أساسيات شئون الحياة التي حثنا عليها ديننا الحنيف، وحتى في الحرب حيث يختلط الحابل بالنابل ولا يسع الانسان أن يتحمل ما يجري حوله، فلا يجوز قطع الشجر، وهذه وصية نبوية واضحة لا لبس فيها.

كونكِ مدونة و"يوتيوبر" كان لك باع طويل في تقديم محتوى عن تعليم اللغات ومواضيع حياتية متنوعة، لماذا قررتِ مع مطلع هذا العام أن تنحي نحو اتجاه مختلف وهو "البيئة".. هل هي استراحة محارب أم أن الأمر مغزاه أكبر؟

لم يكن قرارًا بمحض الصدفة، بل كان قراراً بمحض الضرورة، فطبيعة الحياة التي نعيشها بمختلف تفاصيلها، وما يشهده العالم من تغيَّر متسارع في المجال البيئي والزراعي والحيواني على حدٍ سواء، يحتّم علي أن أتخذ موقفًا.

أردتُ أن أسلّط الضوء على بقعة من هذه الجوانب التي من المفترض أن تكون همّ الجميع، وإلا سنشهد في السنوات القادمة  تغيرات لم نحسب لها حسابًا، بل وقد تودي بحياتنا إلى الهاوية ، بل سيتعداه الأمر إلى أجيال كثيرة ستتّبعنا لا ذنب لها فيما حدث، لكنها ستدفع ثمن ما اقترفناه نحن.

وما قدّمته حتى اللحظة ليس إلا جزءًا يسيراً مما أعمل عليه الآن، ففي الفترة القادمة سأحاول إلقاء الضوء على جذور المشاكل البيئية، وطرح بعض الحلول الفردية والمجتمعية، كما أنني أحضّر لمبادرة في الإطار نفسه، آمل أن تلقى قبولًا واهتمامًا محليًا وعربيًا وأيضاً دوليًا، سأعلن عنها قريبًا عبر قناتي في يوتيوب وصفحتي في إنستغرام.

علاقتك الناعمة مع الكائنات الحية في محيطك التي ربما تنطوي على فكاهة في التعامل معها، ماذا فعلت بروح آية؟ 
أشعر في كثير من الأحيان أن حديثي مع محيطي والكائنات التي تجاورني وتشاركني الحياة يصنع يومي بأحسن شكل.
الدخول بعمقٍ إلى هذا العالم جعلني إنسانًا أفضل

ولم يدع في نفسي مجالًا للأنانية
إذ لم تعد رغباتي الشخصية البحتة هي الأولوية، 
وأصبحتُ أكثر تعاطفًا والتفاتاً لكل ما خلق الله تعالى.
كانت دمعتي سخية في السابق، لكنها الآن أكثر سخاءً، ولا أخجل من قول هذا، لأن ذلك يعني أن مشاعري لا تزال في مكان جيد،
أنا اليوم أحيا بروح أكثر سعادة وامتناناً وتقديراً لكل ما هو حولي.

تتجولين مع كاميرتك برفقة أختك في القرى الفلسطينية.. ماذا أثار دهشتك من تقاليد أهالي بعض القرى، وزوايا أخرى لا يمكن أن يعرفها المرء إلا بالمخالطة؟ 

الإجابة تختبئ في السؤال، حقًا لا يمكن للمرء أن يتعلم إلا بالتجربة والمخالطة. في تجوالي في القرى الفلسطينية استشعرت تاريخ وعراقة هذه الأماكن، وتسنّى لي أن أعرف قليلاً عن طبيعة حياة من سكنَ هذه القرى.
في بعض القرى التي زرناها، لفت نظرنا كثرة الأدراج في إحدى القرى المهجرة وهي قرية سطاف قضاء مدينة القدس، التي تقع على رأس تلة.

حين وقعت يدي على صورٍ قديمة لبعض أهالي المنطقة، تبيّن أن من كان يسكن هذه القرية من نساء ورجال تمتعوا برشاقة الجسد.
والمدهش أن أيًا من هؤلاء الذين سكنوا المنطقة لم يسجلّوا وزنًا زائدًا على الإطلاق، ما دعانا للبحث في الأمر.
اتضح أن طبيعة الحياة في هذه القرية قديمًا كانت هي السبب، إذ عمل معظم أهلها في الزراعة، كانوا يزرعون أسفل التل ثم يصعدون الأدراج يوميًا في طريق عودتهم إلى بيوتهم، وهذا لم يقتصر على بيت او اثنين من بيوت القرية، بل توجّب على سكانها جميعاً المرور بهذه الأدراج ليعودوا إلى حيث يقطنون.

ومن جهة أخرى، زرتُ قرى لا يزال أهلها يعيشون فيها، تعرّفنا على جمال عادات أهل هذه البلاد المباركة، وأدركنا عِظم صمود أهل فلسطين، وعلى اختلاف العادات والتقاليد في بعض جوانب الحياة اليومية بين كثير من القرى في الأفراح والأتراح واستقبال الضيوف وغيرها، إلا أن معظم القرى إن لم تكن كلها، تجتمع في شيئين اثنين، البساطة والكرم، حتى أنه في كثير من الأحيان يتراءى لنا أننا نتنقل في ذات القرية مع اختلاف المكان الجغرافي.

أنتِ ابنة القدس وتعيشين التحديات يوميًا مع الاحتلال وانتهاكاته للإنسان والبيئة والأرض، تُرى أيها يستفزك بشدة على هذا الصعيد؟
يقهرني ويعتصرني ألماً أن لا حرية لك في التنقل، وهذا بالنسبة لي أصعب تحدٍ من الممكن أن يخوضه الإنسان.
كُثرٌ هم من لديهم أراضٍ صَادرها الاحتلال تعسفيًا، لا تزال مزروعة بالزيتون أو بغيره من الثمار، وأراهم يعودون إليها في مواسم القطاف ليقطفوا ثمارها على عجل خوفًا من الآتي، وكم تستفزني هذه المشاهد، ففيها من القهر ما لا يستطيع المرء أن يطيق.
شحّ المياه في كثير من المناطق الفلسطينية شكلٌ آخر من أشكال القهر، لأننا نعرف تمام المعرفة أن أرضنا أرض خير، وفيها من خير العيون والبحيرات الكثير، ومع ذلك نحن، وأراضينا وبيوتنا في قبضة من يُطبق الخناق على رقابنا.
لكن حين تشتد الكربات فلا بد أن يكون الفرج قريبًا، وأنا أعلم يقينًا أن الله لا يُكلف نفسًا إلا وسعها، وأن كل ما نمر به ما هو إلا امتحان لنا، وليتنا نكون من الناجحين
فيه.

ما هو الشيء المختلف الذي تحاولين تقديمه بخصوص البيئة في قناتك اللطيفة؟ 
منذ بدأت في عام ٢٠١٠ وبعدها في قناتي الثانية، لم يكن لدي هم سوى أن أشارك المعرفة، وأعزّز ثقافة "نحن" وأنبذ ثقافة الأنا.
وأبداً لم تشغلني مسألة الحصول على آلاف أو ملايين المتابعين، ما يهمني أن يشاهدني بعضٌ ويستفيد لا أكثر ولا أقل.
وفي اللحظة التي أشعر أنه لم يعد في جعبتي المزيد لأشاركه ربما سأتوقف، لكن ما دمت أتعلم وأستفيد سيتعين علي أن أشارك وأُفيد.

وكما تحدثت بأحد الفيديوهات، الفكرة التي أحاول إيصالها هي أنه ليس لزامًا على الإنسان أن يعيش في الريف ليحيا حياة قريبة من الطبيعة بكل تفاصيلها. أعيش في القدس حياة مشابهة لحياة الكثيرين من حيث الشكل، لا أسكن في منزلٍ مستقل بل في عمارة سكنية، ومن حسن الحظ أن لدينا حديقة منزلية، أعتني بها قدر المستطاع، أزرعها بالأشجار المثمرة وأخرى للزينة، فيما يخصص كثيرون جزءاً من أيامهم للزراعة حتى على أسطح منازلهم.

رحلتي التي أشاركها في فيديوهات اليوميات، ألقي فيها الضوء على المشاكل البيئية، وأحاول أن أشارك طبيعة حياتي التي اخترتها لنفسي منذ بضع سنوات، وقرارتي اليومية، وتصرفاتي التي من الممكن أن يكون لها دور ولو بسيط في التأثير إيجابيًا على البيئة.
في الفترة القادمة سأنشر عدداً من فيديوهات اليوميات التي تتناول بعض الحلول الفردية لمشكلات بيئية، والهدف أن أشجع  على تغيير السلوكيات اليومية، وأن ينهج المتابعون نهجًا مختلفًا حتى لو بتغيير شئون بسيطة، الأمر لا يحتاج إلى خطة مفصلة، بل إلى تغيير مفاهيم، وتبنّي نظرة عامة مخلصة للبيئة. 

ابتعدتِ عن "السوشيال ميديا" لفترة طويلة بلغت نحو عام، هل كان لديك قلق من أن تنفصلي عن الطبيعة؟ 
كلا، لم أشعر أنني أرزح تحت ضغط او تخوف من الانفصال عن العالم الخارجي، وإنما اتخذتُ القرار لأجلي، لأنني كنت بحاجة لإعادة ترتيب أوراقي، فوضعت نفسي أولوية، وأعتقد أنني كنت على صواب.
لم يكن من السهل أن أستعيد توازني، نعم شعرت بالراحة بعد الابتعاد عن مواقع التواصل الاجتماعي، لكن كان لا بد من العودة، حتى لو كنت سأضحي ببعض من راحتي، وفي المقابل قطعتُ عهدًا على نفسي ألا أتخطى مشاعري، وفي اللحظة التي أشعر بها أنني أعيش حالة توتر بسبب تواجدي في "السوشيال ميديا" لن أتردد في الانسحاب، وهذه الأيديولوجية جعلت نظرتي لهذا العالم مختلفًا.
ومن يتابعني يلاحظ أن ذلك انعكس في فيديوهاتي لأني الآن لا أشارك المعرفة فحسب، بل الراحة أيضًا، والراحة تمامًا كالسعادة مُعدية جدًا.

سمعت أحدهم يقول ذات مرة:
"كثير من الناس يعملون بجد لصناعة محتوى لمشاركته، لكنهم ينسون أنهم هم المحتوى..".
والخلاصة أني لا أفصل بين واقعي الحقيقي وواقعي الافتراضي، كلاهما عالم واحد، وأنا أعرف وأقرر فقط ما أشاركه منه.

آية العباسي، المدّونة المقدسية وصاحبة قناة يوتيوب ومصورة، وصانعة أفلام، وتتقن ست لغات، تتعلم باستمرار. وبالتعلم الذاتي استطاعت أن تتوغل في عدة مجالات منها هندسة الحدائق وهندسة الديكور، وحازت على بطولات في الفروسية في دول عدة، وتمارس "اليوغا"، وتشارك في أعمال تطوعية في فلسطين وخارجها.
بصحبتها كان لنا حوار يشبه جريان نهر، نتعرف فيه على نمط حياة ممتع ومليء بالحياة اختارته شابة فلسطينية، بعيداً عن الوجه المصطنع للواقع الافتراضي، وقررت في الآونة الأخيرة أن تتجه نحو البيئة.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير