عن الدمِ والغاز ، والتحرر

08.06.2022 09:08 PM

كتب: عوض عبدالفتاح

بعد أن تهاوت حسابات المتورطين في الحرب الروسية -الاوكرانية -الغربية، وامتدت حتى الآن، لأكثر من ثلاثة أشهر ، والتي هي بمثابة حرب بالوكالة، تحوّلت الى مجرد خبر عادي فى نشرات الاخبار ، واستبدل الحديث عن الدماء المراقة بالحديث عن النفط والغاز والقمح والهموم اليومية . إنه مشهدٌ سرياليّ، يقفُ الفرد العادي إزاءه، مشدوهاً، ومتسائلا بمرارة؛ كيف يمكن للبشرية، بعد كل هذا التطور المذهل، في جميع الحقول العلمية والإنسانية، والسياسية، وإدارة الصراع، والحلول، و إعلان حقوق الانسان، وبعد أن مرت بحروب مرعبة، أن تُعيد إنتاج وحشية هذا الماضي، البعيد والقريب، بصورة أشد رعباً، ودمويةً. وكيف تنتعش حرب الاكاذيب المتبادلة، والدعاية والدعاية المضادة، و كيف تسقط جحافل المثقفين والاعلاميين، في الغرب والشرق والشمال والجنوب، في نفس أخطاء الماضي، وتخون مهنتها ورسالتها، الاخلاقية والانسانية.

إنّ العالم يشهدُ حربآً مجنونة، يجري تغذيتها بالأسلحة الفتاكة، والمضيّ بها وفق منطق النتائج الصفرية، وكأنها حربٌ وجودية. لقد أراد نظام بوتين من غزوه الوحشي للبلد الجار أن يكون قاصماً وفي غضون أيام ؛ احتلال أكرانيا وتغيير النظام، ونزع البلد من الاسلحة، ومنعه من الإنضمام الى حلف الناتو الامبريالي العدواني. أما الناتو بقيادة الامبراطورية الامريكية، الذي دأب على التوسع نحو الحدود الروسية والاستخفاف بمصالح هذا البلد الكبير ، رغم إختفاء العدو الشيوعي قبل ثلاثة عقود، وجد بهذا الغزو فرصته، هكذا يظنُّ، لاستنزاف روسيا، وهزيمتها، وذلك في إطار رؤيته لإضعاف روسيا ولمحاصرة الصين، الدولة الصاعدة اقتصاديا وتكنولوجيا. ورغم تعثّر تحقيق الاهداف القصوى من قبل نظام بوتين، وتخفيض سقف طموحاته في أكرانيا، تصرُّ إدارة جو بايدن على إلحاق الهزيمة الساحقة به، مع أن خبراء في العلاقات الدولية في امريكا والغرب، يحذرون من مغبة هذا التفكير ، غير الواقعي، بل الكارثي. بل يعتقدون أنه كانت هناك فرصة للدبلوماسية لمنع هذه الحرب وتحقيق تسوية تضمن مصلحة كل الاطراف؛ والتي تتمثل في تحييد أكرانيا وعدم إنضمامها عسكرياً إلى أي من التكتلات والاحلاف. غير أن جنون بوتين، وغطرسة الناتو، وجشع المجمع الصناعي العسكري الامريكي، وخضوع الاتحاد الاوروبي للضغوط الامريكية، كل ذلك أدى إلى إشعال حرب في غاية الدموية، في عموم بلدٍ كبير وواسع يمتد على أكثر من ٦٠٠ ألف كلم مربع، ويعيش فيه حوالي ٤٤ مليون إنسان. إنها حربٌ على النفوذ والسيطرة، وعلى استعادة المكانة. فالقيادة الروسية تريد أن تستعيد مكانة روسيا كما كانت في السابق، سواء في عهد الاتحاد السوفييتي، ولكن بدون المثال الاشتراكي ، أو في زمن روسيا القيصرية، كدولة قومية رأسمالية غير لبرالية، ومرجعيتها الكنيسة الاورثوكسية. أما الامبراطورية الامريكية، تريد استعادة قيادة النظام العالمي ذى القطب الواحد، الذي انفلتَ عقاله بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، إذْ هي لا تريد أن تعترف بنظام عالمي متعدد الاطراف، الذي يتشكل من خلال صعود قوى أخرى غيرها، ولا بالتعدد الثقافي في العالم. كما لا يدرك أن النموذج النيولبرالي يواجه الأزمات المتكررة، ويتعرض للتشكيك بنجاعته حتى من داخله. وقد صرّح بايدن، بوضوح في آذار الماضي، بعد أن تفاجأ بصمود الجيش الاوكراني، بأن "الامور تتغير الآن، هناك عالمٌ جديد يتشكل، وأننا سنقوده " .

لا يستطيع أحد أن يتنبأ كيف سيتطور مجرى الصراع، وكيف ستنتهي الحرب، ولكنّ المعسكر الغربي، الذي نسي واسترخص الدماء والأرواح المزهقة على الارض الاكرانية، و قوافل اللاجئين الهائمين على وجوههم، يكتوي الآن بنفس السلاح الذي اعتمده الناتو ضد روسيا، ألا وهو العقوبات الاقتصادية الجارفة، والتي أرادها حرباً اقتصادية خاطفة وجارفة تقصم ظهر الدب الروسي، واذا بها تخنق الغرب ذاته. فهذا الغرب ومعه العالم كله، يواجه الآن، أزمة نقص القمح وارتفاع أسعار الغاز والنفط، ومستوى المعيشة، وارتفاع مستويات التضخم. أي أن الأزمة لا تطال روسيا فحسب، بل أيضا دول المعسكر الغربي الذي يدير الحرب بالوكالة من خلال الرئيس الأوكراني.

لقد أثارت هذه الحرب،منذ إنطلاقتها، خليطاً من المواقف والآمال والتوقعات المتناقضة، لدى الشعوب المقهورة، وخاصةً تلك التي عانت من الاستعمار والامبريالية الامريكية والغربية. وانقسم مثقفوها وقادتها ونشطاء الاحزاب والحركات إلى معسكرات، وفرق. حتى التيارات اليسارية، سواء في الغرب أو في بقية انحاء العالم شهدت وتشهد انقساماً في الموقف والرأي، والتشخيص. ولم يستثن هذا الانقسام شعبنا الفلسطيني، ونخبه. وكان مفارقاً، ولا يزال، اصطفاف أوساط من هذه النخب الى جانب الغزو الروسي، باعتباره حرباً ضد التسلط الامريكي ومن أجل نظام متعدد الأقطاب . وكما في الثورات العربية، فإن هذا الموقف تخلى عن البعد الاخلاقي للتحرر، الذي يرتكز إلى الحرية وكرامة الإنسان، ومبدأ حق تقرير المصير للشعوب.

وقد كان حرياً بأن تقف هذه النخب موقفا تحررياً اخلاقياً، يستند الى الحرية والعدالة الانسانية، و الى رفض الحروب الامبريالية، فهذه هي القيم الأصيلة التي تبناها تاريخيا اليسار الديمقراطي، والديمقراطيون الراديكاليون. ليست هذه الحرب صراعاً بين الديمقراطية والاوتقراطية، بين التنور والتقدم، كما يصوّرها الغرب الامبريالي، او كما يدعى زلنسكي الرئيس الاوكراني، الصهيوني. وهي ليست حرباً طبقية لتحرير الطبقة العالمية والفئات المستغلة من استبداد النظام النيولبرالي المتوحش، او أنعتاق الشعوب العربية من الاستبداد و الفقر ، كما يعرضها بعض اليسار، وليست حرباً لتحرير فلسطين كما يخيل لبعض النخب الفلسطينية. بل هي حربٌ إجرامية عبثية، وقد أظهرت مجدداً ازدواجية الغرب الامبريالي، من خلال تمجيد المقاومة الاوكرانية، و وسم المقاومة الفلسطينية بالارهاب. كما أظهرت إنتهازية نظام بوتين، الذي فطن بأن احتلال الجولان العربي السوري المحتل هو احتلال غير شرعي، فقط عندما أدان وزير خارجية إسرائيل، يئير لبيد، مع بداية الحرب، الغزو الروسي. وهذا النظام الذي اعتمد استراتيجية الأرض المحروقة، ضد المدن السورية، كما فعلت الامبروطورية الامريكية، في العراق وافغانستان وغيرها من دول العالم، سمح ويسمح لاسرائيل بشن مئات الهجمات والغارات على سوريا.

من الصعب التنبـأ كيف سيكون شكل العالم ما بعد هذه الحرب. والتوقع العام هو عالم متعدد الاقطاب، ولكنه عالم بدون إدعاءات اخلاقية، أو سرديات كبرى كما كان عليه الحال قبل عقود، بل عالم المصالح وتقاسم النفوذ، عالم يحتكم للاقتصاد النيولبرالي، الذي أثبت انه غير مـؤهل لتحقيق عدالة اجتماعية وسدّ الفجوات الاجتماعية الخطيرة ومنع الحروب، والصراعات الاهلية.

في عالم من هذا النوع، سيتعين على الشعوب المقهورة، ومنها شعبنا الفلسطيني، وشعوبنا العربية، إعادة الـتأكيد على قواها الذاتية، و إعادة صياغة إستراتيجياتها التحررية، وتعزيز مفاهيمها وقيمها الاخلاقية، وتوطيد علاقاتها الكفاحية مع الشعوب المقهورة، في أرجاء المعمورة، في نضالها من أجل هزيمة الاستعمار والابرتهايد والاستبداد، وتحقيق التنمية المستدامة. أما على صعيد الدول، فإن قيادات حركات التحرر ومنها الفلسطينية، سيتعين عليها المناورة بين هذه الاقطاب المتعددة المتشكلة، والإفادة من صراعاتها، فق رؤية براغماتية، عملية، ولكن دون الإصطفاف في التحالفات التي ستنتج عنها، و بدون التنظير والتماثل الاخلاقي مع أي من هذه الاقطاب.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير