"القِرطَلَّــــة" الصديقة للبيئــة تنسج حكاية الوطن بين أغصان الزيتون
وطن- خالد أبو علي
تتذكر الحاجة فاطمة أول أجرٍ تقاضته وكان لا يتجاوز عشر قروش أردنية في الخمسينيات من القرن الماضي، حينها كانت طفلة في بيت والدها في بلدة جماعين جنوب مدينة نابلس، وتعلّمت صناعة تحف جميلة من عروق الزيتون الغضة الطرية.
كانت فاطمة تجلب عروق الزيتون من القرى والبلدات المجاورة والتي قلّما توفرت بسبب اهتمام الفلاحين بأشجار الزيتون وتقليمها بعناية فائقة.
وقد عُرفت شجرة الزيتون المباركة منذ الأزل بفوائدها العظيمة للإنسان، ويُستفاد من زيتونها وزيتها وخشبها وورقها، فالزيتون من أطايب الطعام بعد غسله وتخليله، أما زيته فهو من أفضل الزيوت، كونه الزيت النباتي الوحيد الذي يمكن تناوله كما هو، دون أن يُعالج بعد عصره من ثمرة الزيتون.
وتعتمد صناعة المنحوتات الخشبية على أشجار الزيتون الهرمة التي اُقتلعت في إثر فناء ثمارها أو الضعيفة منها التي لا تحمل ثمارًا،فهي بذلك لا تتسبّب في إلحاق أضرار بالقطاع الزراعي والبيئة، وكون خشب الزيتون قاسٍ ونادر فإن قيمته تزداد عند تحويله إلى أدوات وتحف تُستخدم في الحياة اليومية، كيف لا وهو في الأساس خشب فاخر.
كما يُعد صابون زيت الزيتون من أكثر الأنواع فائدة وأهمية ليس فقط من ناحية التنظيف، ولكن أيضاً بسبب فوائده العظمى للبشرة نتيجة احتوائه على فيتامينات تعمل على ترطيب البشرة وتغذيتها والحفاظ على نضارتها وحمايتها من الشيخوخة.
ولورق الزيتون فوائد عجيبة للجسم ولصحة الإنسان عمومًا، فضلاً عن وجود علاقة قوية ما بين خلاصة ورق الزيتون وعلاج بعض المشكلات الطبية، فمستخلص أوراق الزيتون يحوي مجموعة من المركبات النباتية الفعالة في علاج عدد من المشكلات الصحية، فمثلاً تحتوي أوراقه وخلاصتها على مضادات أكسدة قوية تُعرف باسم "الفينولات (Phenols)، ما يجعله فعالًا ومفيدًا.
هوية تراثية
مع بدء فصل الربيع من كل عام تنطلق الحاجة فاطمة عبد الرحمن من بلدة جماعين جنوب نابلس في الضفة الغربية ، في رحلة مشي على الأقدام إلى كروم الزيتون لجمع العيدان الغضة التي تطفلّت ونمت على جذوع الاشجار كي تقطع هذه الأغصان وتجمعها تمهيدًا لنقلها إلى البيت، حيث تجتمع نسوة الحي في البداية لتهذيب تلك العيدان وتنظيفها من الأوراق لصناعة السلال بأحجام مختلفة وما اصطلح على تسميتها بـ " قِرطَلَّــــةُ"، والقِرطَلَّــــةُ في القاموس الجامع معناها ( سلة من قضبان أو قصب، وجمعها "قراطل"، لاستخدامها في جمع الثمار المختلفة من العنب والتين وغيرها).
في مهرجان العاصمة الثقافي والذي أُقيم في بلدة "دير إستيا" شرق مدينة سلفيت، وكذلك في معرض جمعية أصالة السنوي في رام الله، التقيت الحاجة فاطمة "أم يوسف" وكانت تجلس في إحدى زوايا المهرجان وتنسج بيديها القويتين منتوجاتها التراثية لتنتج قاعدة تحف فنية من أغصان الزيتون على نحو متناسق ومنتظم.
تخبرني الحاجة فاطمة بروح ملؤها الحياة: "هذه الحرفة البيتية لها رمزية خاصة وتعكس هوية بلدة جماعين التراثية، لكنها يا للأسف تواجه خطر الاندثار بسبب عدم رغبة الجيل الجديد في تعلمها، لكنها تبقى جزءًا أصيلاً من الذاكرة الشعبية في محافظة سلفيت".
وتضيف الحاجة فاطمة أن التطور الصناعي والاعتماد على الآلات قلّص من الإقبال على تلك السلال، مستدركة حديثها: "لكن نحن في "جماعين" نحافظ على نفس الطريقة التي تعلّمناها من جداتنا، حيث تشعر أنك تنسج تاريخ وحكاية الوطن بين أغصان الزيتون “.
ويتركز هذا النوع من النشاط التقليدي التراثي في بعض القرى والبلدات في فلسطين، نظرًا لسهولة الحصول على العيدان الغضة محلياً في الجبال المحيطة بهذه القرى والبلدات التي تحتضن آلاف أشجار الزيتون، وتعمل عادةً النساء في المنازل في هذه المنتوجات التراثية لحساب جمعيات ولجان نسوية.
أنماط أكثر استدامة
وفي دراسة أعدّها معهد أبحاث الدراسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) بعنوان (الصناعات التراثية في الأراضي الفلسطينية، فرص وآفاق الاستثمار للصناعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة) تقول الدراسة في تعريف هذه الصناعات التي أعدّت في عام 2011 : "اختلفت الدول في الدراسات المختلفة في اعتماد مصطلح موحد للصناعات التراثية والسياحية....، ولكن ما نلاحظه من التعريفات العامة لهذه الصناعات أنها بسيطة ويدوية وتعتمد على العمالة الحرفية والعائلية أحيانًا، وتعتمد على مواد خام محلية، وتحتاج هذه الصناعات إلى مهارات خاصة متوارثة أو تُكتسب وتُتعلم، ومنتجاتها بسيطة وبكميات محدودة، ولا تعتمد بشكل أساسي على الآلات المتطورة عالية التكلفة، ولذلك فإن هذه الصناعات تتشابه إلى حد ما مع الصناعات صغيرة الحجم من حيث حجم رأس المال وعدد العمال ومستوى التكنولوجيا المستخدمة، ويمكن ممارسة أنشطتها داخل المنزل أو في مساحات محدودة" .
وبالعودة إلى الحاجة فاطمة فمن وجهة نظرها أن "حرفة صنع السلال هي فنٌ بحد ذاته ومن الأشغال اليدوية الابتكارية التي أتاحت لها وللعديد من النسوة بما لديهن من قدرات إبداعية أن تصبح مهنة وباب رزق لهن ولأسرهن يعتشنّ رغم الصعوبات التي تواجهها وخاصة فيما يتصل بالتسويق الذي لا يرقى إلى المستوى المطلوب".
ويجب ألا ننسى أن مثل تلك السلال التي تصنعها أم يوسف هي من البدائل الطبيعية والحلول الجيدة للتخلص من البلاستيك واستبدالها بمواد صديقة للبيئة، وبالتالي لا بد أن يكون لنا وقفة أمام غزو البلاستيك بأشكاله المختلفة لمنازلنا، فيما أصبحت مخلّفاته تشكّل خطرًا على البيئة وصحة الإنسان وجميع الكائنات الحية وبخاصة أنه من المواد التي يصعب التخلص منها، ويحتاج 400 سنة على الأقل حتى يتحلّل.
من جهته يقول ربيع ياسين عضو لجنة تنشيط السياحة في محافظة جنين: "إن أصحاب هذه الحرف التقليدية التراثية يميلون إلى تسويق منتجاتهم محليًا بواسطة قناة تسويق وحيدة وهي المعارض والمهرجانات التراثية، وهناك صعوبة في تسويقها للخارج إلا عبر جمعيات وتعاونيات ومؤسسات كبيرة، إضافة إلى القيود الإسرائيلية المفروضة على التسويق الخارجي".
ويضيف ياسين: "إن زيادة الوعي البيئي لدى الناس يزيد من طلب المنتوجات الصديقة للبيئة ومنها المنتوجات التراثية كالسلال والفخار وغيرها، وذلك لأسباب صحية ومادية، إذ إن هذه المنتجات آمنة ولا تشكّل خطراً على صحة الإنسان، كما أن الجهد المبذول فيها كبير إلا أنها تبقى منخفضة التكاليف".
ويرى أن الصناعات التراثية الصديقة للبيئة تهدف إلى تعزيز أنماط استهلاكية وإنتاجية أكثر استدامة ومحافظة على البيئة، وذلك بتقديم سلع وخدمات غير ضارة بالبيئة.
وتختم الحاجة فاطمة حديثها لمجلة "آفاق البيئة والتنمية" بالقول "ما زلتُ متمسكة بهذه الحرفة التراثية العريقة وأعتز بموروث يعبق برائحة الماضي، ويعبر عن أصالة وارتباط الفلسطيني بأرضه، وسأستمر بصنع السلال ما دمتُ على قيد الحياة".
خاص بآفاق البيئة والتنمية