خالد بطراوي يكتب لوطن .. اعتذار واجب

14.06.2021 12:56 PM

ثمة إعتذار واجب تقديمه أيها الأحبة سأقدمه في نهاية مقالتي هذه وأتيكم مطأطئ الرأس مكبلا.

بداية سأحدثكم قليلا عن الجيل الذي سبق جيلي وهو جيل الآباء مع الإحترام والتقدير لهم والترحم على من أصبح منهم تحت التراب.

هذا الجيل وأقصد الجيل الذي كان قبل جيلنا،هو جيل النكبة، فمنهم من ولد قليلا قبل النكبة أو قليلا بعدها، هذا الجيل الذي ترعرع وشب محاولا النهوض والتعافي من آثار صدمة النكبة والتهجير، وقد راعه ما حلّبالشعب العربي الفلسطيني والشعوب العربية بسبب ويلات النكبة من ناحية وبسبب التخاذل العربي الرسمي من القيادات العربية التقليدية في كافة البلدان العربية الذين كانوا يتنافخون شرفا ويهددون بـ " رمي اليهود في البحر"، فجرجروا أذيال الخيبة وبانت عوراتهم ومع ذلك ظلوا أذنابا للامبريالية العالمية وأمريكا بشكل خاص للحفاظ على مواقعهم كقيادات تقليدية ورسمية للسواد الأعظم من البلاد العربية الذين وصفهم الشاعر العراقي مظفر النواب بالقول " تتحرك دكة غسلالموتى، أما أنتم فلا تهتز لكم قصبة".

هذا الجيل نما وترعرع أيضا على تجاذبات الدين السياسي المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين بشكل أساسي والفكر القومي والقومية العربية المتمثل في حزب البعث العربي الاشتراكي في القطر العراقي والسوري، والفكر الناصري المتمثل بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وأيضا الفكر الاشتراكي وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية ودحر النازية والمتمثل في الأحزاب الشيوعية العربية التي وصفت بأنها " تحمل شماسي في بلدانها كلما أمطرت في موسكو".

جميعها انشغلت في الصراعات الداخلية فيما بينها أكثر من انشغالها بمقاومة الإحتلال، فانكفأت الشعوب العربية نحو التحول في مجتمعاتها وخاصة بعد سياسة "الانفتاح الاقتصادي" التي دشنها الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وإغراق المواطن العربي بالديون كي لا يفكر إلا في كيفية تسديدها.

أما على صعيد الشعب العربي الفلسطيني، فقد انشغل – بعد النكبة - وتمسك بالعلم وذلك بعد أن فقد جزءا من أرضه وبعد أن خذله زعماء الأمة العربية، واتسمت مقارعته الاحتلال بغض النظر عن التوجه السياسي الذي يحمله هذا الفصيل أو ذاك، بالمقارعة الفردية اللحظية غير المستدامة كما التجربة الفيتنامية " هكذا إنتصر الفيتكونغ" واعتمدت المقاومة الفلسطينية نهج"حرب العصابات الشعبية طويلة الأمد" وسياسة " أضرب وأهرب" وقد تمكنت الصهيونية من إمتصاص ذلك كله.

ومن هنا، في محصلة هذه المعطيات، بدأت فكرة"إنقاذ ما يمكن إنقاذه" من الأرض تلوح في الأفق و الإبتعاد أكثر فأكثر عن الإصرار على إستعادة كامل الأرض، وظلت مسألة الحنين للعودة ماثلة في الأذهان ورموزها " كوشان الطابو العثماني ومفتاح باب الدار وبرتقال البيارات".

ولدنا نحن، قليلا قبل حرب الأيام الستة عام 1967 أو قليلا بعدها، ونعي الحرب "المهزلة" جيدا فقد كنت أنا مثلا إبن السابعة وسمعنا إذاعات العرب الحماسية ومنها "صوت العرب" من القاهرة وسمعنا عن تحرك الطائرات المقاتلة العربية لنتفاجأ في سبعة أيام بسيطرة الاحتلال الصهيوني على الضفة الغربية وقطاع غزة وبذلك جرى احتلال الكل الفلسطيني، لتطل علينا الراحلة الرائعة "كوثر النشاشيبي" ببرنامجها الإذاعي على راديو المملكة الأردنية الهاشمية الذي يربط الأهل في الخارج بالأهل في الأرض المحتلة مع أغنية فيروز في بداية ونهاية البرنامج الإذاعي  " وسلامي لكم ... يا أهل الأرض المحتلة، يامنزرعين بمنازلكم ... قلبي معكم .. وسلامي لكم".

اهتزت الشعوب العربية واهتز من بينها الشعب العربي الفلسطيني أمام تخاذل الأنظمة العربية مجددا، وبدأت المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزّة، ونشأ – مثلا - أول تنظيم محلي شبابي مقاوم في مخيم الجلزون بإسم " منظمة باطن الأرض" بقيادة الرفيق المرحوم جمال عربي وآخرين وبدأت خلايا "فتح" تقاوم الإحتلال، وتنامي الفكر القومي بقيادة الرفيق ميشيل عفلق و الرفيق وديع حداد في الخارج، وتشكلت الجبهة الشعبية الديمقراطية التي تحولت الى الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وبعد ذلك جرى"تفريخ" فصائل أخرى قاومت بدورها وعمل الشيوعيون الفلسطينيون تحت إبط" الحزب الشيوعي الأردني/ التنظيم الشيوعي الفلسطيني في الضفة الغربية" ،بينما عمل الشيوعيون في قطاع غزّة تحت إسم الحزب الشيوعي الفلسطيني، وأرعب جيفارا غزة الإحتلال الإسرائيلي سبعينات القرن المنصرم، ونشطت مدرسة الرفيق الراحل وديع حداد في "خطف الطائرات" وظهر التضامن الأممي على الأرض ورمزه الرفيق الياباني " أوكوزو أوكوموتو" الذي قاد عملية بطولية مسلحة في مطار اللد.

 في ظل هذه التداعيات نما جيلنا نحن، فقد استشهد من استشهد من بيننا، وجرى اعتقال غالبيتنا في السجون الإسرائيلية، وفرضت الإقامة الجبرية أو الاعتقال الإداري على كثيرين من بيننا، وأبعد آخرون ... وكبرنا .... ودّبت أمراض بداية الشيخوخة بيننا،ودبّت أيضا أمراض ثقافة الإستهلاك بيننا، ونحن الذين كنا نردد مع المطربة صباح –رحمها الله -  أغنية " ع البساطة ...البساطة .. يا عيني ع البساطة، غذيني خبزة وزيتون ... وتعشيني بطاطا"،فركبنا السيارات الفارهة وبنينا "الفلل" وأصبح لدى كل منا أكثر من حذاء" اجلكم الله" بعد أن كنا نقضي سنوات وسنوات بحذاء واحد و"شحاطة".

ظلت الفصائل الفلسطينية تراوح ما بين من يطالب بتحرير كامل التراب الفلسطيني ومن طالب كحل مؤقت ( أو حتى كحل دائم)  بإنشاء الدولة الفلسطينية الى جانب دولة الإحتلال، بمعنى " حل الدولتين" الذي حظي بتأييد عالمي "وهمي"لذر الرماد في العيون، وبقي الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني الغاصب، وبقيت القضية الفلسطينية موضوعا للتلاعب ما بين المعسكر الإمبريالي والمعسكر الاشتراكي ومعيار توازن القوى في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين. وقد نادت بعض الأصوات بفكرة" الدولة الفلسطينية الواحدة ثنائية القومية".

شيئا فشيئا بدأت الفصائل الفلسطينية في إعادة النظر في رؤيتها لحل القضية الفلسطينية، مع إستمرار النضال وبأرقى اشكاله" الكفاح المسلح" وخاضت الفصائل الفلسطينية واللبنانية بشكل أساسي حروبا دفاعية  مشرفة على الساحة اللبنانية، لكنها في كافة الأحوال لم تستطع ان تحرر شبرا واحدا من الأرض، واستطاعت أن تحصر الاحتلال في الأراضي المحتلة عام 1948 وتبعده أكثر فأكثر عن فكرة إقامة كيانه الغاصب "من النيل الى الفرات".

ظهرت دعوات الأنظمة العربية الخجولة إلى إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 جنبا الى جنب مع ما أسمته" دولة إسرائيل" مع فتح قنوات " التطبيع"، عدّلت الكثير من الفصائل الفلسطينية برامجها أيضا بقبول حل الدولتين، وبدأ جيلنا – لعجزه - يقتنع أكثر فأكثر أن هذا هو الحل المرحلي المعقول، وجاءت "إتفاقيات أوسلو" لتعزز هذا الطرح، وأغرقت هذه الاتفاقيات المواطن الفلسطيني بالمديونية للبنوك، ونما قطاع الخدمات والاتصالات على حساب قطاع الإنتاج، و انتعش قطاع "الكمبرادور" أي تلك الفئة من المستوردين لكل ما هبّ ودب، وانشغلنا نحن جيلالنكسة بتأمين قوت الأولاد وتعليمهم مع مشاركة هامشية هنا وهناك فيما يسمى"بـ التحرك والمقاومة الشعبية" والمسيرات التي تهتف " يا يهودي ... طق موت"، وبدأنا بشكل علني أو غير علني ننتقد الجيل اللاحق لنا من الأبناء والأحفاد لإنخراطهم في ثقافة الاستهلاك وابتعادهم عن القضية الفلسطينية وقضايا التحرر بل أصبحنا ننتقدهم لأنهم لا يعرفون من هو "خليل الوزير" مثلا ومتى حصلت معركة الكرامة وغير ذلك من الأمور التي نعتقد أنها من البديهيات، دون أن نؤسس لها.

وأمعن البعض منا، من جيلنا نحن جيل النكسة في بث حالة اليأس داخله وداخل أفراد أسرته داخل المجتمع بالتنازل حتى "عن حل الدولتين" والقبول حتى "بالحكم الذاتي" بل وسمعنا أصواتا تتحسر على" أيام الإحتلال" وآخرون يسعون الى تشكيل أجسام تشبه " روابط القرى" وتحول البعض منا الى تجار ووكلاء لكل ما هب ودب من البضائع المستوردة بل والبضائع الإسرائيلية وحتى بضائع المستوطنات (المستعمرات)، وتحولت أغانينا من" شدوا إيديكم شدوا على البارودة " الى " بوس الواوا".

وعندما كانت تهبّ "غزّة العزّة" و تتصدى للعدوان الصهيوني عليها، وصف البعض منا تصديها وصواريخها "بالعبثية"ودعا الى " مظاهرات البلالين" وانتشار وسائل التواصل الإجتماعي المحللين و" المفصعين" وظهر على الفضائيات من "يلمعونهم" بوصفهم إما خبراء عسكريين أو اقتصاديين أو مختصين في الشؤون الإسرائيلية أو غير ذلك من التوصيفات وأغلبهم لم يسمع أن طفلا فلسطينيا ذات يوم كانت تهمته "إعداد كوع" أو "زجاجة مولوتوف" فلا يعرف هذا الخبير العسكري معنى كلا المصطلحين ، ويظن أن زجاجة المولوتوف هي "رضاعة حليب".

الى أن جاء هذا الزخم النضالي الهادر المتمثل في هبة أهل القدس دفاعا عن المقدسات والشيخ جراح وأكناف بيت المقدس، وتلتها هبة الجماهير العربية في العالم العربي، و انتفاضة أهلنا في الداخل تلك الانتفاضة المباركة، ونصرة شعوب العالم التي أعطت للزخم زخما إضافيا، وللفعل العسكري المقاوم من المجاهدين في قطاع غزّة، لتقلب كل الأوراق، وتنشط بعدها الدبلوماسية. العالمية والعربية والإقليمية، مع إستمرار دعوات البعض من بيننا –ولشديد الأسف – بعدم المغالاة في نتائج هذا النصر ورفع سقف التوقعات استمرارا في الرؤيا الانهزامية المستكينة.

لذلك كله، ولأشياء أخرى ....  فإن الاعتذار واجب ... أعتذر للجميع، بأننا ظننا أن الجيل الذي أتى بعدنا جيل الأبناء والأحفاد قد تراجع وخفّ وهج شعلة الكفاح لديه،أعتذر للجميع أننا قبلنا بحل الدولتين كحل مرحلي لأننا ظننا أن الظروف العالمية والعربية والإقليمية والفلسطينية ليست في صالحنا، وثبت لنا الآن وبالفعل المقاوم على الأرض، أننا نحن من نجعل الظروف في صالحنا ونفرض المعادلات، أعتذر لأهلنا في الداخل لأننا ظننا أن الاحتلال قد تمكن من إدماجهم في لجة و ميمعة الحياةالإستهلاكية، أعتذر من أبناء الشعوب العربية قاطبة الذين ظننا أن "ثقافة النسكافية" وحضارة " الماكدونالدز" و"البيتزا" و"الهارديز" قد سيطرت عليهم، فوجدناهم يعبرون الحدود نحو فلسطين، أعتذر من شعوب العالم التي هبّت لنصرة القضية التحررية الفلسطينية فقد ظننا أنهم ما زالوا تحت تأثير " الماكنة الإعلامية الصهيونية " ... أعتذر للجميع لأننا لم نقم برواية روايتنا للعالم حول التاريخ وسمحنا للكيان الصهيوني برواية روايته.
أعتذر لأننا لم نفهم ذلك البيت الشعري الذي تردده  ونتغنى به دوما
سيعلم التاريخ قبل أن يعلم البشر ..... بأن الشعوب إذا ما هبت ستنتصر.    

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير