المحامي إسماعيل حسين يكتب لوطن: واقع الإصلاح القضائي

21.09.2020 12:49 PM

واجهت عملية الإصلاح القضائي على مدار العشرين عاما الماضية تحديات عديدة في ظل الحالة غير العادية التي تعيشها السلطة القضائية وغيرها من السلطات والمؤسسات الفلسطينية بسبب واقع الاحتلال، ومن أبرز هذه التحديات: الانقسام السياسي الحاصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وتعطل المجلس التشريعي وحله لاحقاً، واستمرار المجلس التشريعي في غزة بعقد جلساته وإصدار التشريعات خلافاً للقانون الأساسي والنظام الداخلي للمجلس التشريعي، اضافة الى سيل القرارات بقوانين بالضفة الغربية، وتدخل السلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية وهيمنتها وأجهزتها على مفاصل القضاء وقطاع العدالة، والصراع بين مؤسسات "قطاع العدالة"، والخلافات بين القضاة أنفسهم ونظرتهم إلى استقلال السلطة القضائية بشكل مطلق على غير غايات القانون الأساسي الذي يشير الى استقلال القاضي بأحكامه، ومنع تضارب المصالح في حال وجودها، ووجود تحالفات داخل القضاء تساهم في إضعاف استقلاله وتدهور أدائه، وغياب الإرادة السياسية للإصلاح ومنع التدخل في الشأن القضائي، وغياب المشاركة المجتمعية الجدية في مسار عملية الإصلاح وحصرها بالجهات الرسمية فقط ولو من خلال اظهار شراكة وهمية من خلال استخدام بعض مؤسسات المجتمع المدني لتجميل حالة السيطرة على منظومة العدالة، بالإضافة إلى ضعف الإمكانيات المتاحة للسلطة القضائية، وتراكم القضايا في أروقة المحاكم، مما أدى إلى فقدان السلطة القضائية مصداقيتها أمام الجمهور الفلسطيني، وأثر سلباً على واقع الحقوق والحريات العامة، وعزز من حالة التعايش مع الانقسام تحت مبررات مختلفة.

فالسلطة القضائية لم تكن بعيدة عن تداعيات الانقسام، حيث أصبح هناك مجلسان للقضاء، واحد في الضفة الغربية وآخر في قطاع غزة، وأصبح هناك نائبان عامان، واحد في الضفة الغربية وآخر في قطاع غزة أيضاً، الأمر الذي أقحم السلطة القضائية في أتون الانقسام والتجاذبات السياسية، وهو ما يتحمل مسؤوليته بالدرجة الاولى رئيس مجلس القضاء الاعلى الانتقالي الذي طلب من قضاة غزة أبان كان رئيسا للمجلس الطبيعي عدم التوجه للعمل في غزة، الامر الذي فتح الباب امام حكومة الامر الواقع في غزة لتشكيل قضاء جديد هناك وادخال القضاء الفلسطيني في التجاذبات السياسية، وبالتالي أصبح القضاء جزء من الانقسام، وبحاجة إلى التوحيد.

لقد كانت هناك عدة مبادرات ومحاولات خلال العشرين عاماً الماضية لإصلاح الجهاز القضائي، ففي حزيران /يونيو 2000 تم إعلان تشكيل مجلس القضاء الأعلى الانتقالي لترتيب وضع الجهاز القضائي، ومن ثم في شهر أيار / مايو 2002 إثر صدور قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002 تم تعيين مجلس القضاء الأعلى. وجاءت المحاولة الثالثة بقرار رئاسي بتاريخ 14/3/2005 صادر عن الرئيس محمود عباس يقضي بتشكيل لجنة توجيهية لتطوير القضاء والعدل أنيطت بها مهمة إعداد مسودة مشروع قانون معدل لقانون السلطة القضائية، واقتراح الإجراءات التي يتوجب اتخاذها لتأمين استقلال القضاء وكرامة القضاة وكفاءتهم ونزاهتهم. لكن تم وأد هذه اللجنة ببقرار المحكمة العليا بصفتها الدستورية المنعقدة بتاريخ 27/11/2005 والتي قضت بعدم دستورية قانون السلطة القضائية رقم 15 لسنة 2005 الذي تبناه المجلس التشريعي آنذاك بناء على مقترح اللجنة التوجيهية لتطوير القضاء والعدل.

كما بذلت جهود حثيثة خلال السنوات الماضية تحت عنوان الإصلاح القضائي، من خلال عشرات المؤتمرات واللقاءات والخطط الاستراتيجية واللجان التي شكلت وملايين الأموال التي صرفت، إلا أن تلك الجهود في ظل غياب المصالحة الوطنية واستمرار عوامل غياب استقلال القضاء وانتهاك سيادة القانون والتي من أهمها تدخل السلطة التنفيذية في الشأن القضائي قد ساهمت جميعها في فشل المحاولات والمبادرات الهادفة لتحقيق إصلاح جدي لمنظومة العدالة وفي مقدمتها القضاء.

وفي 6/9/2017 أصدر الرئيس محمود عباس مرسوما رئاسيا يقضي بتشكيل اللجنة الوطنية لتطوير قطاع العدالة مهمتها مراجعة منظومة التشريعات القضائية واعداد رؤية شمولية لتطوير قطاع العدالة والقضاء، وقد حدد المرسوم فترة عملها بستة أشهر إلا أن مداولاتها وعملها استغرق عاما لتقديم تقريرها المتعلق بنتائج اعمالها وتوصياتها، و رغم تفرد السلطة التنفيذية بتشكيلها فقد تبنى التقرير الصادر عن هذه اللجنة مجموعة من التوصيات تتعلق بتعزيز استقلال القضاء، وتوسيع عضوية مجلس القضاء الأعلى، وتخفيض سن تقاعد القضاة ليصبح 65 سنة بدلاً من 70 سنة، ومعالجة الإشكاليات الفنية والمهنية المتعلقة بعمل الجهاز القضائي.

إن آخر مبادرات السلطة الفلسطينية لإصلاح الجهاز القضائي تكرس تدخلات السلطة التنفيذية في عمل القضاء والتفرد باتخاذ القرار، وتمثل ذلك بإصدار قرارين بقانون بتاريخ 15/7/2019م بتعديل قانون السلطة القضائية، وتشكيل مجلس أعلى انتقالي، واحالة ١٩ قاضي الى التقاعد خلافا لاحكام القانون الاساسي وقانون السلطة القضائية، واصدار مرسوم رئاسي بتاريخ 31/7/2019م بتشكيل المجلس التنسيقي الأعلى لقطاع العدالة، برئاسة رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي وعضوية كل من المستشار القانوني للرئيس، ووزير العدل، والنائب العام، ومدير عام الشرطة، ونقيب المحامين، ومدير عام الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان.

ان تشكيل مجلس القضاء الاعلى الانتقالي تم بشكل مخالف لاحكام القانون الاساسي والمباديء التي يقوم عليها واهمها مبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء، اذ ان القرار بقانون بشأن تشكيل المجلس الانتقالي خالف مبدأ الفصل بين السلطات من جهتين: الاولى من خلال تشكيله بموجب قرار بقانون باعتبار ذلك من صميم عمل السلطة التشريعية والثانية من خلال حل مجلس القضاء الاعلى الطبيعي وتشكيل المجلس الانتقالي باعتبار ذلك تغول على السلطة القضائية واحكام السيطرة عليها، وقد تم تشكيل المجلس الانتقالي بموجب القرار بقانون من اسماء محددة تضمنها القرار بقانون ذاته في خروج لافت عن مبدأ عمومية القاعدة القانونية وتجردها، وًمنح المجلس الانتقالي بموجب هذا القرار بقانون صلاحيات واسعة على القضاء والنيابة العامة، وإمكانية تعيين قضاة مباشرة في الدرجات القضائية كافة، وعزلهم أو إحالتهم للتقاعد المبكر أو نَدبهم لوظائف أخرى،وسندا لعبارات عامة وفضفاضة ومبهمة وردت بالقرار بقانون تتيح اساءة استعمال السلطة، وأَعادت تعيين أعضاء في مجلس القضاء الأعلى السابق ومَنحته صلاحية إعداد مشاريع مُعدِّلة للقوانين القضائية، ومَنحت المجلس الانتقالي ولاية مدتها سنة قابلة للتمديد ستة أشهر بناءً على تنسيب من مجلس القضاء الانتقالي ذاته وقرار رئاسي، ومَنحت الرئيس صلاحية صرف مكافأة شهرية غير محددة للقضاة المتقاعدين الذين جرى تعيينهم في المجلس الانتقالي علاوة على راتبهم التقاعدي بما يشمل رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، واستثنت قضاة مجلس القضاء الانتقالي من سِن التقاعد الحُكمي الذي شمل جميع القضاة، ورفَّعت عدداً من أعضائه الذين تجاوزوا سن التقاعد إلى المحكمة العليا التي سيستمر عملها بعد انتهاء ولاية المجلس الانتقالي في مساس مباشر بعمومية وتجريد النص القانوني ومساس بالقانون الأساسي ومبدأ المساواة وعدم التمييز.

وبمراجعة اداء مجلس القضاء الاعلى الانتقالي منذ توليته ادارة السلطة القضائية لوحظ تفرد هذا المجلس في ادارة عملية الاصلاح المدعاة من خلال تغييب كافة الجهات ذات العلاقة واهمها نقابة المحامين ومؤسسات المجتمع المدني وغيرهما من الجهات الاخرى، اضافة الى عدم وجود خطة حقيقية لعملية الاصلاح او عدم طرحها لنقاش مجتمعي واسع تتشارك به هذه الجهات جميعا، اذ درج المجلس على ادارة القضاء ادارة عادية باتباع سياسة الغرف المغلقة دون الاخذ بالاعتبار أن القضاء المستقل والنزيه هو حق مجتمعي لا يجوز حصره بأي جهة كانت.

ومن جانب آخر فقد ادى تعامل مجلس القضاء الاعلى مع الاصلاح على اساس بنيوي فقط الى تراجع لافت في دور القضاء في حماية الحقوق والحريات العامة، وعدم تحقيق اي تطور على جميع الملفات التي كانت سببا في المناداة لاصلاح وتطوير القضاء واهمها الحقوق والحريات العامة، والقضاء الاداري وطول أمد التقاضي واستقلال القضاء الفردي والمؤسسي، اذ تراجع دور القضاء في التعاطي مع هذه الملفات بشكل لافت ساهم في تعميق الازمة داخل القضاء.  وبالاطلاع على قرارات مجلس القضاء الانتقالي الحالي المشكل من شخصيات شاركت سابقاً في إدارة القضاء وكانت سبباً أساسياً في الخلل المطلوب إصلاحه، نجد أن أداء القضاء الفلسطيني ازداد تدهوراً عما كان عليه قبل تشكيل المجلس الانتقالي، خاصة ما يتعلق بالمساس بالحقوق والحريات الأساسية لا سيما الحرية الشخصية وحرية الصحافة والحق بالتعبير كحقوق دستورية يجب حمايتها وصونها من قبل القضاء، كما جرى مؤخراً بتمديد توقيف الحراكيين بشكل جماعي، واستعمال التوقيف كعقوبة، والموافقة على حجب عدد من المواقع الإعلامية، واعتقال صحفيين، والغاء الاضرابات النقابية.

كما أصدر رئيس المجلس القضائي الانتقالي قرارات إدارية متفردة، تبرز بشكل لم يحدث سابقاً، تآزره مع السلطة التنفيذية باستخدام الأدوات التي زودته بها وعلى رأسها محاولة اجراء التعديلات على قانون السلطة القضائية للنيل من استقلال القضاء اضافة الى  إصدار قرارات العزل والندب والإحالة على التقاعد للقضاة كوسائل لإرهاب القضاة وإخضاعهم، ومن هذه القرارات: إحالة عدد كبير من القضاة الفلسطينيين للتقاعد، وإجراء تشكيلات قضائية على خلاف قانون السلطة القضائية كعقوبة أو مكافاة، وتغيير تشكيل الهيئات القضائية بشكل يضعف من ثقة المتقاضين في حياد الهيئات واستقلالها، وإجراء تعيينات قضائية بعيداً عن مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، واستمرار نهج الفحص الأمني المسبق على القضاة على نحو غير معلن ومخالف للقانون، ومساءلة القضاة عن قراراتهم القضائية والتدخل بعمل الهيئات القضائية، واصدار قرارات قضائية في دعاوى هو خصم فيها ورغم عدم تمتعه بالصفة القضائية، ومحاولات الضغط على جمعية نادي القضاة وترهيب اعضائها بما يملكه من صلاحيات واجبار عدد من اعضاء مجلس ادارتها على الاستقالة، وإحالة عدد من القضاة على التحقيق الإداري على خلفية حرية الرأي والتعبير وانتقادهم لنهج المجلس الحالي، وندب عدد من القضاة لمؤسسات الدولة العامة، بشكل مخالف للقانون ، أدانتها عدد من الجهات ومنها نقابة المحامين، واعتبرتها في بيانها الصادر بتاريخ 30/06/2020، أنها جاءت في سياق تصفية الحسابات، وبتوجيهات من جهات متنفذة في السلطة التنفيذية تولت ادارة القضاء سابقا، وغير ذلك العديد من القرارات، التي لا يتسع المجال لذكرها وجميعها تجاوزت مبدأ سيادة القانون ومست بصورة القضاء واهدرث ثقة الجمهور به.

على ضوء ما سبق، نؤكد على أن الخلل الحاصل في القضاء هو نتاج تغوُّل السلطة التنفيذية وأجهزتها على القضاء ومنظومة العدالة، وتآزرها مع إدارات مجالس القضاء الأعلى المتعاقبين بما فيها المجلس الانتقالي، وإضعاف التكوين والأداء المؤسسي للمجالس القضائية، وانتهاك استقلال القضاة والقضاء، وأنَّ انفراد السلطة التنفيذية بالإصلاح هو تكرارٌ لمحاولاتها العديدة التي فشلت في الماضي، وأنَّ العدالة الناجزة حقٌ للمجتمع وواجبٌ في الضفة والقطاع.

وندعو في ظل التحديات الجسيمة والخطيرة التي تمر بها القضية الوطنية الفلسطينية المتمثلة بما يسمى "بصفقة القرن"، ومخططات الضم التي شرع الاحتلال الإسرائيلي بتنفيذها، إلى الحاجة الماسة إلى إصلاح وتوحيد السلطات والمؤسسات في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي مقدمتها السلطة القضائية، وأول خطوة للإصلاح تكون بإنهاء عمل مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، وتشكيل مجلس القضاء الأعلى الدائم المنصوص عليه في قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002 دون أي تعديل عليه، والالتزام الجدي بمبدأ الفصل بين السلطات، وإعمال مبدأ سيادة القانون، واحترام حياد واستقلال الهيئات القضائية كأساس للحكم الصالح، ومواجهة التحديات المحدقة بالقضية الفلسطينية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير