في الثامنة والستين : زرعَ .. زرعين- كتب: طارق عسراوي

15.05.2016 09:20 AM

صعد طفلان سلم الحافلة بعد أن اجتازا، بعينين مفتوحتين على أسئلة الغرابة، حاجز الجلمة الذي يجذّ جنين عن فضاء مرج ابن عامر ببندقية، وابراج مراقبة، وسياج يربك انتظام دقات القلب. تلك رحلتهما التي استحقاها مكافأة لهما على حفظهما قصار السور، سوف يلمسان البحر للمرة الأولى خارج اللون الأزرق الذي يعبّران به عن البحر، ذلك البحر المرسوم على جدار روضة الأطفال التي يخربشان بها زرافة وسماء، ونهر ضحكات متدفقا.

مفتونان بفضاء السهول الخضراء، ألقيا عينيهما خارج النافذة، ودون ان ينظرا إليه تكوّمت الأسئلة الصغيرة على شفاههما، وتطايرت الدهشة من عينيهما عصافير تفرد اجنحتها في السهل الشاسع.
هذه زرعين قال لهما. هنا ولد جدّكما بين ألواح الصبر، وامتلأت رئتاه برائحة الشومر والفريكه المحمّصة، وفي فيئة شجرة التين فرّ من "عصا موسى السوداء " ظانّا إياها أفعى – لم يشاهد اثرا لشجرة التين، أية شجرة تين، في المكان – وقد عاش هنا من سُمّيتُ باسمه إِحياءً لموته الفذ في دفاعه عن سهول القرية وجديلتين ذهبيتين.
- الفريكة اللي انت بتحبها بابا ؟
- شو يعني زرعين ؟ يعني زرعَ ؟
زرعين التي نبتت مثل زهرة برية، وامتازت بفضاء بيوتها المشرعة على الجهات الخضراء، تبدو حجارة متبعثرة واثر سلاسل مهدّمة مثل هيكل عظمي لامرأة شاخَ موتها ! حملت القرية هذا الاسم السرياني دلالة على خصوبة تربتها وصلاحيتها للزراعة.
هنا كان بيتنا الأول، عاد للصغيرين، قبل أن يأكل الغول القرية، الا أن جدّكما كان برفقة والديه اللذين عبرا السهل الصغير وانتظرا في جنين عند اقربائهما لليلة، لم تنتهِ بعد، منذ ثمانية وستين عاماً !
كانت زرعين قد صارت خلفهما، ولهفة البحر تتقد في عينيهما، بينما راح يغني لهما: 
" كبر وزهّر شجر التين
   لما طلت ع زرعين
شمس ولاد غابوا من سنين ".
بعد نهار طويل أرخى فيه التعب البهيج ظلاله على أكتافهما، واستوطن النعس ضحكتيهما، عاد الصغيران محملين بالصدف والملح الأزرق، يغفوان تهدهدهما الحافلة في طريق عودتها إلى جنين. وعند حاجز نتأ في خاصرة قرية برطعه الواقعة في الشمال الغربي من مدينة جنين، استيقظ الصغيران.
- وصلنا جنين ؟
اه وصلنا تقريبا.
- ما شفنا زرعين بالرجعة !! انسرقت كمان مره واحنا نايمين !!.
لا بابا ما انسرقت، بس شوفير الباص أخدنا لطريق تانية!.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير