طفولة قديمة

01.02.2016 12:19 PM

كتب: المتوكل طه

يتقشّر الليل بهدوء، أو يتبخّر تدريجياً، ويصعد ما تبقّى من حِبْر شفيف إلى البعيد، وينبلج الصُبحُ بارداً، ونبدو كأننا التماثيل الصّلبة

التي استيقظت بكامل عافيتها.

ونتجاوز البيوتَ الهادئة المطمئنة، ونعبر الطرقاتِ الترابية الملبّدة،

والمفضيةَ إلى الحقول الباذخة، في آخر ساعات هذا الليل النهاري.

ويكون الزُّرّاعُ والفلاحون، مصحوبين بأولادهم ونسائهم، قد ولجوا الزَّرْع، ولم يتبق منهم سوى الهسيس وصدى النداءات الخافتة، وخلفهم غيم الطوابين وبخور القمح المخبوز.

ومع انتهاء الضحى، وصعود الغزالة رمحين في السماء، يكون الفلاحون قد أنهوا أعمالهم، وعادوا إلى بيوتهم يفيضون بالعرق البارد

والخضرة البهيجة والخيرات العارمة الشهيّة، تواكبهم رائحةُ الأرض والثمر الفّواحة، وخلفهم الحقول المقلّمة بأتلام الغرين المترقّب، كأرحام

العرائس، للبذور المنعوفة بفرحٍ واطمئنان.

وعلى ثيابهم البُقع الخضراء وبقايا الطين العالق، وأجراسُ الدواب التي تخبّ إلى مراقدها.

* * *

في الحقول المتراصّة المرصوفة، تنفرد الأرضُ الحليقة لتوّها، ولم يتبق على وجهها غير العقير النابز، أو صليبة قمح أو شَعير أو حابون حِلْبة أو ذُرة، كأنها أَهرام انفرطت وتعلو بحبوبها اللعوبة .. العابقة!

والبيادر المتفتّحة تشرب رذاذ نجومها الماسيّة.

هنا، ثمة محراث يفترع الأرض فيفتحها .. لتصعد من جراحها الريّانة فحولةٌ تعبّيءُ المدى .

وفي الأعالي الواطئة رفّ الشنّار الدارج والسابح في فضاءات حرير الصّبا.

وهناك؛ القامات المنحنية، كأنها تركع، لتلتقط القرون الخضراء والأزرار الحمراء، أو تجزّ قامات العروق المائسة .

وترى عن كثب؛ رجلاً بفأسه يُجلَّف ويحوّط ويُمسِّد، كأنه يرسم لوحة

من التراب المنُقّى، ليَبْذُر أو يزرع، في أحواض ومساكب تشكّلت

كلوحة الشطرنج المالسة..

وحولك مَنْ يملأ حاويات القش أو السلال بأكوام الخضرة والإضمامات، ويرتّبها كالجدائل، ويسوّيها ليظهر أحلاها..

وفي كل الجهات؛ تتناثر المواقد، والأيادي تتحلّق حولها، تأكل وتشرب بحركات هانئة رتيبة.. وهبوب الزاد في كل مكان.

ويتنادى الجيران، يتعازمون ويدعون بالعافية لبعضهم البعض.

وتظلّ الحواكير وأعراس الحصاد والزّرع وسحابات الجذور الفوّاحة،

وما سيسكن الجرار والخوابي .. مشهدي الأثير.

وسأذكر، كيف كانت حِزم أشعة الشمس الطازجة تقع صلبة

على الأرض.

فينبسط دثارُ الذهب الغامر، وتتجلّى الزهور البرّية، بلونها الجلّناري

الذي يكاد دمُه ينقط على التراب، وبركان التيجان تتزاحم لتشكل

بساطاً سحرياً يخفق .. كأنه سيطير، دون جدوى !

وتطالعك تجاعيد الجبال الملتحية

الخلاّبة، والحصان المكحّل يصهل في قلبها الزيتوني، فتعلو نافورة

النثار المضيء.

وكأن الناي يتماوج فيجرح صفحة النابض المتوثَّب الظمآن، والمثخن بزهر النبيذ المُشرق كدوائر النور الملّون.

وعلى ضفاف السناسل المرتّبة، بعناية أصابع الآلهة القديمة، تشهق حبّات العسل الفتيّ .. والشجر يتنفّس بعطر الصخور.

هنا؛ الجمَال هو صاحبُ هذه الأرض،

أما نحن البشر، فقد كُنّا سكّانها

ليس إلاّ .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير