إذن.. "الأخ الأكبر" غائب

20.09.2014 02:58 PM

وطن - كتب احمد جميل عزم:  بدءا من اختفاء الطائرة الماليزية، يوم 8 آذار (مارس) الماضي، وصولا إلى انفصال شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا، في 16 من الشهر ذاته (تبلغ مساحة القرم نفس مساحة فلسطين تقريبا؛ 27 ألف كم مربع)، ومؤخراً شبكات الأنفاق التي بنتها المقاومة في قطاع غزة وفاجأت الاحتلال، رغم كل الأقمار الصناعية وأجهزة التنصت وشبكات العملاء، تبدو دلائل على أنّ العالم لا يخضع لقوى تراقب ما فيه وتتحكم به.

تشكل الهواتف الذكية والإنترنت وتكنولوجيا الاتصال واحدة من ثورات الاتصال والعولمة، التي أسهمت في تغيير وجه العالم، حتى إنّ العالم الإسباني الأصل مانويل كاستيلس، كتب كتباً نالت شهرة عالمية واسعة في الموضوع، عنوان أحدها "اتصالات الموبايل والمجتمع"، والذي يدرس أثر الإنترنت و"الموبايل" على التنظيم الاجتماعي والسياسي العالمي. والأصل أنّ الإنترنت و"الموبايل" يسهمان كثيرا في إشاعة حرية الفرد، إلى درجة الفوضى؛ فبموجب "عصر الشبكات"، أصبح الفرد يصل إلى المعلومة التي يريد، ويتصل بالأشخاص الذين يريد، ويقوم حتى بصفقات مالية وتجارية ويتعاقد على العمل، من دون الحاجة إلى المرور برقابة وإجراءات الدولة والمجتمع.

لكن في الوقت ذاته، بات مُعتَقداً أننا كتاب مفتوح، يمكن لشركات الاتصال والإنترنت والحكومات أن تتتبع أنفاسنا، وأحاديثنا، وصمتنا؛ بل وبدأ الأفراد بالتجسس والمتابعة للأفراد، بسبب سهولة استخدام الإنترنت ووسائل الاتصال والتصوير، وبات "العالم يعيش قيود الحرية"؛ حرية مطلقة لا يمكن أن يحمي الإنسان فيها نفسه من انتهاك الآخر لها. أي إنّه بقدر ما زادت حرية الفرد، زادت هشاشة حياته الخاصة، والعكس صحيح.

لكن سهولة الاختراق التكنولوجي تعني الحاجة إلى إمكانيات بشرية أكبر في متابعتها. ولا يمكن تخيل أن يمتنع 43 من ضباط وجنود الجيش الإسرائيلي مؤخرا عن المساهمة في "الوحدة 8200"، المتخصصة بمراقبة الاتصالات؛ بدءا من الهواتف والبريد الإلكتروني إلى شبكات التواصل الاجتماعي، لأناس عاديين لا يتصلون بالمقاومة وليس لديهم نشاط سياسي أو عسكري بالضرورة، بهدف ابتزازهم، أو التعرف إلى نقاط ضعفهم وحاجاتهم، وتحويلهم إلى عملاء، أو حتى لنشر الشقاق والخلافات في المجتمع الفلسطيني، إلا إذا كان يتم تجنيد مئات لهذه المهمات من دون أي يمروا بمراحل تعبئة وإعداد كافيين، ليتشربوا عقائديّاً مهمتهم.

كل اختراع في العالم يؤدي إلى نتائج ثورية؛ أي إلى تغيير جذري في العالم، نجد أنّ عوامل تصعد دائماً لتقلل ثوريته وتقلصها وتناقشها، وكأن هناك عملية توازن طبيعي تتم تلقائيا في الحياة الإنسانية، أو كأن بذور فناء كل اختراع، من الناحية الاجتماعية، تكمن داخله. ففي عالم العولمة مثلا والانترنت، تّحدّث عشرات المفكرين عن أثر هذه العولمة على إذابة الهوية، و"مسخها" ضمن هوية عالمية واحدة ذات طابع أميركي. ثم رأينا أنّ الهويات الفرعية الطائفية، والمذهبية، والقومية، تستفيد من الإنترنت بشكل هائل، وتُصبح أيضاً مناهضة الأمركة ممكنة، بعيدا عن رقابة أجهزة الإعلام الجماهيري الرسمية التقليدية.
يحلو للبعض الترويج إلى أنّ كل شيء مضبوط، وذلك كجزء من محاولة المبالغة. كما يحبون الحديث عن "أخ أكبر" (تعبير غربي عن وجود من يراقب كل شيء)، ويتحكم في كل شيء، ويصيغ مؤامراته كما يريد. وفي هذا يقول عبدالحميد الرجوب، العميل الإسرائيلي المعروف، الذي تحدث معه برنامج الصندوق الأسود على قناة "الجزيرة"، مؤخرا: إنّ هناك 13 ألف عميل فلسطيني هاربون من الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى الأراضي المحتلة العام 1948، ما يعني وجود أضعافهم ما يزالون عاملين. ولكن حتى ضباط سابقون في الجيش الإسرائيلي و"الموساد" في البرنامج نفسه أنكروا إمكانية أن يكون هناك آلاف أو حتى مئات العملاء، وسخروا من هذا الزعم، لأنّ ذلك يحتاج أصلا إلى شبكة ضباط إسرائيليين كبيرة جِدّاً لمتابعة هؤلاء العملاء وتشغيلهم.

فكرة دور التكنولوجيا في حياتنا من الناحية السياسية والتنظيمية والشخصية، قضية بالغة الأهمية، ولكنها ما تزال تحتاج الكثير من التدقيق والفهم. وبقدر ما هي انتهاك للخصوصية، فهي زيادة للفردية؛ وبقدر ما هي زيادة في الحرية، فإنها مراقبة إضافية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير