بين الصحو والهذيان تصرخ وئام "بدي رِجلي تِرجَعلي..!"- كتب عاطف سعد

04.09.2014 09:22 AM

كيف بإمكان وئام، الطفلة من خانيونس، أن تعتاد على فقدان أجزاء من قدميها الصغيرتين لتواصل رحلة عمرها مثل باقي أطفال العالم؟ كيف بإمكانها أن ترقص أو تقفز أو تمشي أو تلعب إستغماية أو تصعد (من جديد) على الدرجات المؤدية لسطح جدتها لنشر غسيل الدار؟ ما هو الذنب الذي ارتكبته هذه الطفلة الحساسة الحالمة، التي لم تتجاوز التاسعة بعد، كي يضربها صاروخ إسرائيلي ويفتك بعظم قدميها الطري ويتسبب ببتر أربعة أصابع أخرى من قدمها الغضة؟ قبل إصابتها أنجزت وئام الدرجة الأولى في  صفها الرابع وأثارت إعجاب معلمة الرسم برسوماتها وبعد الإصابة بات على وئام إعادة جدولة أحلامها ولتكتب على أول السطر،" بدي رِجلي ترجعلي..!"
الكابوس
وكانت وئام ووالدها السيد محمد الأسطل (44 عاما) قد أصيبا بشظايا صاروخ أطلقته طائرة استطلاع حربية إسرائيلية على حي "السطر الغربي" في مدينة خانيونس  فتفجر في منزل العائلة في الحادي والعشرين من تموز الماضي.

تتذكر والدتها السيدة أم أسامة إصابة الأب والابنة وقع انفجار الصاروخ  مثل كابوس وتقول،" كنت قد أنهيت غسل الثياب. طلبت من وئام أن تساعدني بنشر الغسيل على سطح بيت جدتها ويبعد عن شقتنا مسافة 30 مترا فقط. تمنعت قليلا، في البداية،  ثم قبلت نشر الغسيل مصطحبة معها إبنة عمها وصديقتها مرح (تدرس في الصف الثاني في مدرسة عيد الأغا) قلت لها كلهم شوية أواعي مغسولة   خذيهم وخذي معك مرح وهاي أبوك ع السطح بيصلح  أنتين التلفزيون. شجعتها مرح ووافقت  على نشر الغسيل.

طلعو ع السطح مع بعض. أبوها كان بيصلح أنتين التلفزيون ومعه الجهاز والريسيفر . كان ييوازن بين الدِش والصورة. ووصلت الصورة واضحة. وفجأة سمعت  صوت الزنانة ( طائرة استطلاع حربية اسرائلية) صرخت عليهم إنزلوا بسرعة. 

حمل أبو اسامة (الأب) جهاز التلفزيون بيديه وطلب من وئام حمل جهاز الرسيفر وساق مرح أمامه حتى ينزلو عن السطح. نزلت مرح. ونزل أبو أسامة. تأخرت وئام لحظة. الرسيفر أبطأ من حركتها. إطلعت وراها لفوق  وصرخت يامه الساروخ إنضرب. شفته! وقع انفجار كبير هز الدار. شظايا  الصاروخ ضربت أبو أسامه ووئام. ونجت مرح. " 
" طار جهاز التلفزيون من يدي. وقع وانكسر. أنا إتشقلبت ع درجات السطح."  كما وصف السيد محمد الأسطل تلك اللحظة المرعبة لاحقا لزوجته.

أصيب الأب بكسور في رِجله اليسرى وبتهتكات  ورضوض في مختلف أنحاء جسمه. أما وئام فقد مزقت شظية قدمها اليسرى من تحت الركبة وفقدتها كما كُسِرَت رجلها اليمنى  وانتشرت شظايا صغيرة في بطة الرِجل وأصيبت بجروح في فخذها وبكسر آخر في كاحلها. 

تقول الأم ، وصلت سيارة الاسعاف ونقلت زوجي وطفلتي للمشفى. رافقتهما. إنفطر قلبي وأنا أسمعها تحكي أو تهذي ،" ماما أنا عايشة ولا ميتة ؟ بس ، ماما، كنها رِجلي راحت مني؟ أنا شفتها راحِت ما تئوليلي لأ! بدي رِجل بدالها!"
الرحلة الصعبة.. 

لم يخطر ببال أم أسامة الزوجة والأم لأربعة أولاد ورضيع  أن إصابة زوجها وابنتها سيفرض عليها خوض تجربة لم يسبق أن خاضت مثلها من قبل: أن ترافق إبنتها وزوجها في رحلة علاج محفوفة بالمخاطر وأن تتوقف خلالها في محطات  يتصارع، فيها، الأمل  مع اليأس والرجاء مع الخيبة. وجدت هذه السيدة من خانيونس، وهي التي لم تغادر مدينتها، نفسها تتنقل في عالم كَبُرَ فجأة أمامها.

فقد تم نقل الزوج لمشفى ناصر بخانيونس فيما نُقِلَت الإبنة للمشفى الأوروبي في مدينة غزة. وبذات الوقت اضطرتها ظروف ما بعد إنفجار الصاروخ ترك شطر العائلة السليم  أولادها أسامة (الأكبر وعمره 12 سنة)  وسعاد وياسين  ورضيعها بلال (وعمره شهران ) تحت رعاية الجدة. لم توفر الظروف لها فسحة وقت للمناورة في القرار الذي ينبغي عليها اتخاذه  فاختارت مرافقة طفلتها وئام في مشفى غزة كما رافقتها لمدينة نابلس في الضفة الغربية عندما تم تحويلها لعناية قسم العظام في مستشفى جامعة النجاح وإبداء التمنيات الطيبة  للزوج الذي جرى نقله لاحقا للمستشفى الفرنساوي في القدس الشرقية المحتلة منذ 1967.

  وهكذا بات على العقل أن يوجه مشاعر الأم ويسيطر على هواجسها بشكل عادل في رحلتها المضنية متنقلة بين المشافي والحواجز وبين ردهات المشافي ومتابعة عمليات جراحية معقدة.
ويبقى الحلم
تتحدث السيدة  الأسطل من خانيونس بكلمات بسيطة عن مشاعر ابنتها بعد بتر قدمها اليسرى من تحت الركبة وتضيف، " بعد إجراء عملية البتر بأسبوعين عَرِفَت ما حصل لها، لكنها لم تتقبله! أحضروا لها كرسيا متحركا بعجلات لتستعمله لكنها رفضته وقالت، " هادا كرسي للعواجيز. كيف استخدمه؟ بدك يامه صاحباتي يضحكو عليا ؟"  هي لا تعرف بعد أن هناك أربعة أصابع سيتم بترها  في قدمها اليمنى بعد أن تلفت أوعيتها الدموية كليا. وهذه صدمة نستعد لمواجهتها لاحقا.  وتقول الأم، التي بقيت متماسكة عاطفيا وهي تروي حكاية عائلتها وكيف انقلبت حياتها رأسا على عقب بعد العدوان الإسرائيلي على خان يونس وقطاع غزة. وتعود العائلة لوضعها الطبيعي تدريجيا بعد شفاء الأب وعودته  وهو ما أراح الأم قليلا.

وتقول  "وئام طفلة ذكية أنا واثقة أنها ستتغلب على محنتها. فقد صرت أسمع منها أنها تتقبل رِجلا صناعية بدلا من تلك التي تم بترها. هذا هو  طلبها الوحيد . هذا هو حلمها الآن !"

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير