عن الانتقال للديمقراطية...بقلم: ميشيل كيلو

06.07.2011 08:27 AM

كتب أدونيس رسالة إلى الرئيس بشار الأسد قال فيها رأيه في الحدث السوري بالطريقة التي تليق بمفكرٍ صاحٍ مثله . وقد أثارت الرسالة ردود فعل متباينة ما زالت تتواصل إلى اليوم، وانقسم الكتّاب إلى مؤيد ومعارض لها، فرأى بعض من ناقشوها نقاط ضعف سياسية تشوبها، منها قوله إن المجتمعات العربية ليست مهيأة بعد للديمقراطية، على عكس ما يرون هم، ورأى آخرون صحة ما قاله حول هذه النقطة بالذات، بينما أخذ آخرون عليه عدم إعطاء الديمقراطية أولوية في الأحداث القائمة، وعدم المطالبة بتحقيقها كهدف مباشر . 

ومثلما هو حال كل نص غني، فإن إثارة النقاش كان بلا شك أحد مقاصد النص الأدونيسي المكثف والمليء بالأفكار والملاحظات الصائبة، الذي أعتقد أن أدونيس لم يكتبه ليقول لنا: إن الديمقراطية ليست ممكنة التحقيق سياسياً، بل وضعه ليقول لنا إن أساسها المعرفي يكاد يكون معدوماً في وعينا التاريخي، لذلك يعد حاملها المجتمعي ضعيفاً عندنا، بينما يعني تحقيقها السياسي إمكانية أن تبقى فوقية، وبالتالي “برانية” بالنسبة لنا، وألا تتوطن بعمق في بيئتنا، التي لن تنبت فيها من تحت، من القاع المجتمعي، بل من فوق، من سقف السلطة، ما سيضعها في حاضنة غير طبيعية يرجح أن تسهم في كبحها أو تقويضها أو منع تخلقها ونضجها . . بالنظر إلى أن نظامنا السياسي ذاته، الذي نعول عليه في إنتاج الديمقراطية وتنميتها، يمكن أن يصير مكان تخريبها بسبب تنافر وظائفه وتناقض مكوناته، ووقوع الأخيرة خارج أي نسق موحد أو توحيدي، بما أن الفرد عندنا ليس مواطناً بعد، والسلطة ليست سلطة دولة بعد، والمجتمع ليس مجتمع مواطنين أحرار ومنتجين بعد، والدولة ليست لجميع مواطناتها ومواطنيها بعد . 

هذه الدولة، التي لا مفر من تكليفها بتحقيق العملية الديمقراطية وقيادتها، هي نقطة ضعفنا الرئيسة، بينما لم يكن الأمر كذلك عند غيرنا، حيث كوّن الفرد/المواطن مع المجتمع والدولة نسقاً واحداً حامله هو كمواطن حر، وخدمت السلطة التي اختارها المجتمع بحرية دولة عبرت عن المواطنة في صعيدها الخاص، وعززت وجودها في المجتمع أيضاً، وقوتها لدى الفرد . 

هناك، في الغرب، تم إنتاج الديمقراطية من تحت، من الأساس التكويني للمجتمع والدولة، الذي هو المواطن كفرد مجتمعي كما قلت . وهنا، عندنا، سيقع إنتاجها من الدولة، التي أنيط بها إنتاج الاشتراكية والوحدة والتقدم، فأفسدتها جميعها وأنتجت عكسها، وخربت ما كان قائماً منها في الواقع بحكم التاريخ والتطور الطبيعيين، فما الذي يمنع تكرار التجربة ؟ ومن يضمن أن تختلف الأمور في ما يتصل بالتجربة الديمقراطية العتيدة عنها في حالات وتجارب دولنا الحديثة؟ ماذا نفعل في حال تكرر الشيء نفسه، هل نقف مكتوفي اليدين ونندب حظنا كما فعلنا مع الاشتراكية والوحدة وغيرهما، أم نبتكر جديداً، وما تراه يكون عندئذ؟ 

أعتقد أنه ليس لدى أدونيس حل مباشر لهذه المعضلة، لذلك ظننته يقدم اقتراحين: 

- أن يجعل بشار الأسد من نظامه حاضنة تستنبت الوعي والعقل الديمقراطيين في الحاضنة المجتمعية نفسها، ضمن سياق عمل مدروس وطويل، فيكون هذا هو الإصلاح المنشود والصحيح، الذي يدخلنا إلى العصر بضمانات كتلك التي عرفها العالم الحديث من قبل، وهي فلسفية ومنهجية ورؤيوية وفي النهاية ضميرية، وهي بصفتها هذه فعل الانتقال الحقيقي، العظيم والمطلوب إلى مجتمع ونظام جديدين ومختلفين عن كل ما عرفناه: مجتمع الديمقراطية الذي يبني نظامها وينميه ويصونه . هنا، لا يكون الإصلاح الديمقراطي فعلاً سياسياً مباشراً فقط، بل يكون فعل تنوير عميق وتاريخي ومتواصل يكمن واجب الدولة الرئيس في تنميته باعتباره عقلاً تنويرياً كونياً . 

- أن يضع الرئيس المصلح المواطن والمجتمع والدولة على خط واحد، كمكونات تفاعلية وتكاملية تنتمي إلى نسق واحد وليست أضداداً لا تأتلف أو تجتمع، مثلما هو حالها في النظام السوري اليوم . هذه النقطة يجب أن تكون موضوع ورافعة الإصلاح السياسي، الآني والمباشر، الذي لا يجوز أن ينفصل عن النقطة الأولى، بل يعدّ ترجمة يومية لها، ضمن تكامل يجعل منها دولة تنويرية بالنسبة إلى المهمة الأولى، وتغييرية بالنسبة إلى الثانية . 

أعتقد أن هذه هي القراءة التي أرادها أدونيس لما بين سطور نصه، رغم ما يمكن قوله من ملاحظة هنا وأخرى هناك: معه أو ضده . إنها قراءة تستحق أن نتوقف عندها ونمعن النظر فيها، بعد الفشل الذي أصاب تجربة الحداثة العربية، وإخفاق مساعي النهضة الإسلامية والعلمانية، وانقلاب كل شيء إلى نقيضه على وجه التقريب بسبب الدولة/السلطة وعلى يدها، ونتيجة لفوات المجتمع بنية ووعياً، فلا شيء يضمن ألا يكون مصير الديمقراطية مماثلاً لمصير ما سبقها من طموحات ومشاريع، إن بقيت في الإطار السياسي وأنتجتها من فوق سلطة تستطيع إفسادها وتشويه طابعها، إذا لم يتوافر لها حامل مجتمعي يحول دون انحرافها وقلبها إلى حكم فوضى وتسلط أغلبية انتخابية في عالم عربي ما زالت مجتمعاته أهلية ومغلقة، ترى في الفرد معطى تابعاً وثانوياً بالمقارنة مع الجماعة . 

هل يجب أن ينصب هذا العمل التنويري على تفكيك هذه البنية، كي يخرج الفرد من أسرها، فيكوّن لنفسه الوعي الحر والطليق، الذي يرى نفسه والعالم من خلاله؟ 

هذه تفاصيل لم يتطرق أدونيس إليها، لكنها مضمرة في رؤيته كما أعتقد، فإن صح ما أعتقده، كانت الديمقراطية عنده عملية ابتعاد واع عن بنية السلطة/ الدولة، وبنية المجتمع الأهلي، وبنية العلاقات والوعي التقليديين/ السائدين، وغدت مهمتها الرئيسة: تحرير المواطن من هذه الأبنية المتنوعة، التي تجثم جميعها على صدره وتكتم وجوده . 

هل هذا الانتقال ممكن؟ يرد أدونيس بنعم، ويبرز ضرورته . هل له صفة الاستعجال والحتمية؟ نعم، في ما يخص مستواه الأول، مستوى استعادة ومعادلة موازية وشبيهه أوروبياً وكونياً . ولا، في ما يتعلق بالمستوى الثاني، الذي يجب ألا يرتبط التطور الديمقراطي به، وعلى العكس: يجب أن يرتبط هو بالتطور الديمقراطي، أي المجتمعي . ماذا يعني هذا، فضلاً عن تحميل الدولة/السلطة مهمة إنجاز التنوير؟ إنه يعني أمراً مهماً، هو أن الانتقال إلى الديمقراطية على صعيد العقل والروح لا يجوز أن يرتبط بنظام أو يتوقف عليه، كونه مهمة يستطيع أي منا التصدي لها وتحقيقها كلياً أو جزئياً، حتى فكره وممارسته اليومية . إذاً: لا مفر من أن نكون ديمقراطيين حيال الآخر وأنفسنا، أي أصحاب وعي تنويري يقبل التداول داخل مجتمعنا، ما دامت ثورة الديمقراطية لا تتوقف ولا تنقطع، وما دمنا نستطيع العيش فيها كاختيار شخصي . 

لم نفكر كثيراً في سبل انتقالنا إلى الديمقراطية، التي نكثر الحديث عنها، فطرح أدونيس أفكاره الأولية وملاحظاته في رسالة إلى حاكم يواجه مشكلة ديمقراطية، لعله يفيد منها، تيمناً بتقليد قديم لدى العرب، رأى أن صلاح الرعية في صلاح الحكم، وفسادهم في فساده .

 جريدة الخليج

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير