زينب الغنيمي تكتب لوطن من غزة: الأيام تمرّ وشهر رمضان يقترب ولا اتفاق بعد لوقف هذا العدوان الصهيوني

06.03.2024 06:23 AM

اليوم التاسع والأربعون بعد المائة لحرب الإبادة على غزة، 3 مارس 2024

ينقضي شهرٌ آخر ومازال الشعب في قطاع غزة يعيش على أمل أن يحدث اتفاقٌ لوقف هذا العدوان البغيض، أو على الأقل حدوث هدنة مؤقتة كي يتنفُس الناس الصعداء قليلاً، ولكن ليس في الأفق ما هو جديد.

في اتصالٍ هاتفي مع صديقتي وزميلتي في العمل التي اضطرت للنزوح نحو الجنوب، سألتني "هل تتوقعين أن نعود إلى غزة قبل شهر رمضان، وهل يمكن أن أجد بيتي في حالةٍ سليمة؟". لم تنتظر إجابتي، بل استمرت بإخباري "لقد سمعت أنّ جزءًا من بيتي تدمّر جرّاء قذيفة مدفعيّة، ولا أعرف إذا كان يصلح للعيش به عند عودتي. يقولون أنّ اتفاقًا للهدنة سيحدث قريبًا ويتضمن عودة النازحات والنازحين". قلت لها "نتأمل ذلك"، حيث لم أستطع إحباطها بإخبارها أنّ الواقع السياسي والعسكري في الميدان لا يُبشّر بأنّ عودتهم قريبة وأنّه حتى لو حدث هناك اتفاق فسيكون هدنةً مؤقتة، لكني وعدتها بزيارة بيتها لتفقده.

وبالفعل زرتُ بيتها، ورأيتُ حجم الدمار في الطابق العلوي وتحديدًا في غرفة نومها وكيف تطايرت الحجارة لتردم ممر الشقّة العلوي والممرّ أسفل المنزل وكيف أصبح يمكن المرور للبيت من الشارع، حيث لا داعٍ لدق الباب الحديدي الكبير والذي كان في السابق مدخلًا لسيارتها التي لم تعد موجودة، فقد قرّرت بحكمة بيعها منذ عدّة سنوات من كثرة العدوانات الصهيونية على قطاع غزة والتي بسببها تدمّرت آلاف السيارات.

ولكن أكثر ما أحزنني كان دمار مكتبها، وهو أول مكتب محاماة لامرأةٍ في قطاع غزة والذي افتتحته قبل نحو خمسين عامًا. كان هذا المكتب يحفظ تاريخها الطويل في هذه المهنة، والتي كانت صعبة جدًا على النساء في ذلك الوقت، ولكنّ جرأتها في افتتاحه والعمل بشكلٍ مستقل كان له أثرٌ كبيرٌ في تشجيع المزيد من النساء والشابات على خوض مهنة المحاماة. وقد كنا نتباهى بأننا نحن النساء في قطاع غزة كان لنا شرف اقتحام مهنة المحاماة في على مستوى فلسطين، كما كان منّا أول وكيلة نيابة وأوّل قاضية. لكن وللأسف، ها نحن نرى اليوم حجم الدمار الذي أحدثه العدوان الصهيوني الهمجي في بيوتنا ومكاتبنا ومؤسساتنا وجامعاتنا، ووثائقنا وأرشيفاتنا، ودمّر معها تاريخنا وذكرياتنا، ولا نملك سوى الحسرة والألم والشعور بالقهر نتيجة كل ذلك.

في طريق ذهابي إلى بيتها ومن ثمّ عودتي، مررت على كل الأماكن في شارع الجلاء ومنطقة السرايا والشوارع الفرعية الجانبية، وكنت صدقًا بحاجة لدليلٍ لأتعرّف مُجددًا على الأماكن، حيث شعرت بالتوهان في الشوارع التي كنت أحفظها وأسوق بها سيارتي وأنا مغمضة العين، ولكن هذه المرة كنت أسأل السائق كلّما شعرت بأنني ضائعة أن يخبرني أين نحن؟ وماذا كان هنا سابقًا؟ ولماذا نلتفّ على الطريق من الشارع الآخر؟

هذه هي غزة الجديدة التي لن تعرفها صديقتي وغيرها من النازحات والنازحين. بالطبع هم يرون صور المدينة المدمّرة على التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي، لكن الرؤية بالعين أصعب أضعافًا. مدينتنا باتت خلف التاريخ وآثارها العريقة مُسحت من الخارطة. تلك الشوارع التي لعبنا فيها صغارًا وتجوّلنا فيها أثناء ذهابنا وإيابنا إلى ومن المدارس، والتي فرحنا برصفها وبتطوير بنيتها التحتية بعد أن كانت رمالًا في صغرنا، كُلّ ذلك لم يعد موجودًا.

لا أعرف بماذا ستشعر صديقتي في حال عودتها هي ومن اضطرّوا للنزوح جنوبًا، ولكن يقينًا سيشعروا بالبؤس الشديد مثل حالي تمامًا. حاولت أن أشرح الأمر لابنتي عن ما آلت إليه مدينتنا الصغيرة، وأيضًا لصديقتي التي رويت لها الحقيقة، ولكنني متأكدة أنني لم ولن أستطيع وصف ما أشعر به من ألمٍ وقهر، خصوصًا لأنني أعرف أنه حتى الآن لا توجد أيّ خطط لإعادة إعمار مدينة غزّة وبقية القطاع، وحتى وإن وجدت فقد تعود الحجارة ولكن لن تعود غزّة التي نعرفها كما كانت عليه.

زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف والحصار

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير