زينب الغنيمي تكتب لوطن:اليوم الـ145 رحلة كيس الطحين إلى منزلنا، والمساعدات اللاإنسانية، وثيقة هامة ضد حكومة الحرب الصهيونية

04.03.2024 07:20 PM

وطن: جاءنا زائرًا نهار الأمس أحد الزملاء حاملاً بيده كيسًا به كيلوان و نصف من الطحين الأبيض، وقال "أمّي بتسلّم عليكي، هذا يا أستاذة من كيسٍ حصلت عليه عندما ذهبت للحصول عليه من دوّار النابلسي الذي يلقون المساعدات فيه".

كان هذا كان سببًا مشجعًا، بالإضافة إلى كلّ ما نسمعه عن إلقاء وإدخال المساعدات، لأن يذهب الشبان والشابات لمحاولة الحصول على الطحين طالما هناك فرصة، حيث لم يتبق لدينا سوى ما يكفي لأقل من خمسة أيام من طحين القمح مع كلّ ما ورد إلينا.

وهكذا، فمنذ مساء أمس ذهب أبناء وبنات صديقتي وقريبتي ومعهم آخرون من أجل انتظار تلك المساعدات التي تصل إلى غزة وشمالها، على أمل الحصول على كيسٍ من الطحين أو بعض المعلّبات التي قيل أنّها تُلقى في شارع الرشيد على شاطئ البحر في غزة.

وصباح اليوم كان حدثًا استثنائيًا، فقد عادوا أخيرًا من رحلتهم الشاقة مع كيس طحين أبيض وعشرة كيلوات إضافية حيث تقاسموا كيسًا ثانيًا مع آخرين. ونحن بدورنا تقاسمنا جزءًا من الطحين مع المقيمين معنا في المنزل من النازحين، ووالدة قريبتي قالت جملتها المعهودة "قلت لكم لن يضيّعنا الله، والخيّر مرزوق".

ولكن المهم كيف وصل كيس الطحين إلينا؟ وما هي معاناة الشبان والفتيات للحصول عليه؟

استمرّ الانتظار في المرحلة الأولى سبع ساعاتٍ ونصف، منذ السادسة مساء حتى الثانية والنصف بعد منتصف الليل (صباحًا). وصلت الشاحنات بالفعل وألقت بأكياس الطحين عند دوار النابلسي حيث يتجمّع آلاف الناس بانتظارها، وكان المشهد مخيفًا ومرعبًا حسب وصفهم، حيث تراكض الجميع نحو الشاحنات، منهم من اعتلاها، ومنهم من كان بعيدًا ينتظر دوره، بينما الجنود الصهاينة يطلقون الرصاص بشكلٍ عشوائي لمنع الناس من الحصول على الطحين. كان ابن قريبتي يخشى التقدّم أكثر حتى لا يُؤذيه المتدافعون، ومنهم من يحمل أمواسًا حادة ليُفسح الطريق بالقوّة لنفسه، وفجأةً وجد من يُلقي عليه بكيس طحين كبير بوزن خمسين كيلو، ففرح به وبدأ بجرّه متراجعًا. ونظرًا لأنّ المسافة التي عليه أن يمشيها كانت نحو كيلو ونصف ليتمكّن من الابتعاد عن خطر القصف والنيران أو تدافع الناس وحتى يصل إلى الطريق العام، اضطرّ إلى استبدال الكيس مع شخصٍ آخر لديه سيارة، فأخذ كيسًا به 25 كيلو كي يتمكن من سحبه، وفعل مثله شابٌّ آخر ممن ذهبوا معه فسحب كيسًا ثانيًا لعائلته، كما سحب كيسًا ثالثًا وتقاسمه مع ابن قريبتي لأنه سيرسل لأقاربه حصصًا من الكيس.

بالطبع دبّ السرور في نفوسنا فور رؤيتنا لكيس الطحين، خصوصًا مع اقتراب شهر رمضان والنفاذ المتسارع لكميّة الأرز المتبقّية لدنيا. كما أنّ الشبّان عازمون على العودة مجددًا على أمل الحصول على أنواعٍ أخرى من المواد الغذائية المفقودة مثل الأرز والمعكرونة والمعلبات.

للأسف، لم يصلنا شيءٌ من المساعدات التي ادعت المملكة الاردنية إرسالها عبر إلقائها من الجو، وقيل إن الطائرة ألقت بحمولتها في البحر قرب الشاطئ، حيث يبدو أنهم لم يجرؤوا على الاقتراب من برّ غزة، وانطبق عليهم المثل التاريخي بادّعاء أنّهم قدموا مساعدات وهو "اعمل خير وارميه في البحر". كما ينطبق هذا المثل للأسف على كلّ الدول العربية التي ادعت وتدّعي أنها قدّمت المساعدات لنا، في حين أنها تخضع للتفتيش الدقيق من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني قبل السماح بإدخالها، بالإضافة إلى أنّ ما يُسرقُ منها هو أكثر مما يدخل إلى قطاع غزة، هذا مع العلم أن المحروقات لم تدخل إلى مدينة غزة وشمالها حتى الآن.

إن ما يحدث في الآونة الأخيرة، ما هو إلّا مسرحية كبيرة حيث كانت حكومة الاحتلال الصهيوني تسمح بدخول المساعدات ومن ثمّ تقصف المواطنين عند دوار الكويت، أي نقطة دخولها إلى الشمال، وقد سقط عشرات الشهداء هناك. ولكن منذ اجتياحهم لحي الزيتون وتقاطعه مع حي تل الهوى لم تدخل أيّة مساعدات تُذكر.

بعدها، ومنذ أربعة أيام فقط، أي مع اقتراب جلسة تقديم دولة الاحتلال لتقريرها لمحكمة العدل الدولية حول الإجراءات التي عليها اتباعها من أجل وقف جرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزة، سمحت أخيرًا بإدخال بعض شاحنات الدقيق، وسمحت للأردن أن يُلقي في بحر غزة ما قيل أنّه مساعدات، لتظهير موقفها أمام المحكمة بمظهر المستجيب لتلك الإجراءات، رغم أنّ القاصي والداني يعرف ويرى كذب الرواية الصهيونية.

في كلّ الأحوال، فإنّ ما جرى كان بمثابة المُفرح والمُحزن في آن. نعم، مُفرحٌ أن نحصل على الطحين كي لا نبقى جياعًا، ومُحزنٌ هو الإذلال والمهانة التي يجب أن نمرّ بها كي تكون لقمة عيشنا في النهاية مُغمّسةٌ بالدم والقهر، وهذا ما نتمنى أن ينتهي بانتهاء هذا العدوان البغيض.

28 فبراير 2024

زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف والحصار

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير