كيف حبَّب "راعيا النحل" أحمد وسامر الناس بالعسل؟

28.06.2023 10:42 PM

وطن- هديل عوني عطاالله


تغيّر مسار طريق أحمد الصايغ تمامًا، بعد قضائه سنوات طويلة في حقل مهني بعيد كل البعد عن طريق النحل، ليذهب إلى حيث حلاوة الدنيا كلها تجتمع في أعسال من كل لون ونكهة.

لا بأس في أن يغير المرء خياراته طالما أنه اكتشف ما يحبه حقًا ويبنى وفقًا له خبرة جديدة تعود عليه وعلى غيره بالنفع، هذا ما حدث تماماً مع أحمد الصايغ الذي درس في مطلع شبابه في كلية الصحافة والإعلام في جامعة النجاح، إلا أنه لم يُقدّر له العمل أبدًا في مجال الإعلام، لينغمس لاحقًا في حقل المبيعات وفي مجالات متنوعة أخرى، وكانت من أهم محطاته المهنية عمله في شركة جوال لمدة 12 عامًا في قسم الشركات، ثم سيطر عليه شعور أنه لم يعد يملك حياته، إلى أن حانت اللحظة التي قال فيها "حان وقت التغيير"، وكان ذلك منذ ست سنوات.

يستهل أحمد البالغ من العمر 43 عامًا وابن مدينة نابلس حديثه قائلًا: "أردت أن أعيش نظام حياة يسمح لي بالتطور وأملك فيه وقتي، وأنا في الأساس عندي شغف بالعسل، وأحب هذا المخلوق الجميل "النحل" كثيرًا، علمًا أني سابقًا مارست هذه الهواية من باب "الاستثمار" على صعيد شخصي، فقد كنت شريكًا في منحل صغير، ثم عزمت أمري ووفقني الله لقرار الاستقالة من عملي، وبعدها بدأت مشروعي "بيت العسل".

في روتينه اليومي يحافظ على هذه العادة الصباحية "كوب ماء دافئ على الريق؛ أذيبت فيه ملعقة من العسل الصافي مع عَصرة ليمونة، يعيد لي التركيز وتعطيني نشاطًا وحيوية وفعالية، حتى طريقة تفكيري تصبح أفضل" يقول أحمد.
هلا أخبرتني عن الصعوبات التي واجهتكم في هذا المشروع، يقول أحمد أنها لم تكن تحديات جمة، وتتمثل في الإغلاقات في الضفة التي يفرضها الاحتلال فتعيق التنقل والتسويق، وعدم اقتناع الناس في العموم بأن العسل الطبيعي يتوفر حقًا في فلسطين، حتى أن هذا من أكثر الأسئلة شيوعًا التي نجدها في مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي تغيير الصورة النمطية عند الناس كان صعبًا واستلزم منا بذل جهد في هذا الجانب".

وبكل ثقة يقول: "الحمد لله، لدينا عسل نتحدى به في أي مختبر في العالم، لقد نجحنا في كسب ثقة الناس بحرصنا على جودة عالية في منتجاتنا، وغَرَسنا فيهم ضرورة التحري عن مصدر العسل".

ويتطرق في حديثه إلى نقطة بالغة الأهمية وهي أن ثقافة تناول العسل مفقودة عند الفلسطينيين منذ القدم، مفسرًا السبب في ذلك "ثمنه الغالي إلى حد ما، ذلك أن ربّ البيت يعمل على تلبية الاحتياجات الأساسية الأهم من العسل، ويعتبره بطبيعة الحال سلعة كمالية، فمن الصعب أن يشتري شهريًا كيلو عسل طبيعي بـ 200 شيكل على سبيل المثال، لكن لو نظر الناس إليه على أنه شفاء ودواء وغذاء، وأنه مهم لكل أفراد الأسرة ويبعدهم عن الذهاب إلى الطبيب، سيحاولون قدر المستطاع أن يضعوه في قائمة الأولويات".

ووفق دراسة رسمية للإحصاء، يتفاوت متوسط استهلاك الفرد الفلسطيني من العسل سنوياً من ( 130 جرام إلى 150 جرام) سنويًا، ويعد هذا الاستهلاك أقل من المعدل المحدد من قبل منظمة الصحة العالمية بـ 500 جرام عسل سنويًا.
بالمختصر، هذا المشروع من أهدافه أن يرفع من درجة الوعي بأهمية وجود "وعاء العسل" في كل بيت، ليصبح معادلًا لصيدلية كاملة، وليس غريباً أن يلقّب بـ "صيدلية الدنيا الأولى" لقدرته على علاج كثير من المشاكل الصحية وخاصة الطارئة منها كالحروق والجروح والسعال والزكام وغيره.

خبراء في الداخل والخارج

لدى "بيت العسل" قرابة 14 نوعاً من العسل الفاخر من شمال البلاد إلى جنوبها، وعلى رأسها عسل الأزهار البرية، والطيون، والأفوكادو، وعسل الشنديب، والقصال الأسود، إضافة إلى أعسال شهية أخرى مثل العسل الأبيض القرغيزي.
في كل أسبوع يغير أحمد الصايغ نوع العسل الذي يتناوله، حتى يحصل على أقصى فائدة للجسم، على سبيل المثال أسبوع يختار فيه عسل السدر، كونه مفيد للمعدة والأحبال الصوتية، والذي يليه يتناول العسل الجبلي، لفائدته للجهاز الهضمي والقولون والبشرة والمعدة والصداع.

ويزيد بالقول: "أحب على وجه الخصوص عسل الأزهار البرية نظرًا لأنه خفيف وطعمه لذيذ، ويعطي شعورًا بالراحة عند المداومة عليه".

يخبرنا عن الطريقة التي اكتسب بواسطتها خبرة واسعة في مجال العسل: "سافرت إلى تركيا أكثر من مرة، وإلى مصر، والتحقت بدورات حول طرق تحضير خلطات العسل، ومن أهمها خلطات الخصوبة لمن لديهم عقم سواء للرجل أم للمرأة، مع إيماننا المطلق أن كل أمر يتم بمشيئة الله تعالى، هذه الخلطة تساعد على تقوية الحيوانات المنوية والإباضة عند النساء، بخلط العسل مع أعشاب طبيعية طبية، وفق مكونات محدودة بنسب معينة، وها أنا أطور وأُراكم الخبرة".
ومن أبجديات هذا العمل عند أحمد الصايغ، تعامله مع كثير من النحالين في فلسطين وخارجها، موضحًا طبيعة الاحتكاك بهم: "أستفيد من الخبرات المخضرمة، وخاصة من نحالين كبار في السن، من حيث نوعية العسل وموعد شرائه الأنسب هل في أول الموسم أو في آخره أو منتصفه، لا سيما أن إنتاج النحالين في فلسطين ليس كبيرًا، إذ يراوح بين 500 و600 طن سنوياً في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة".

ويبدو ممتناً لنصيحة قدّمها له نحال مصري مخضرم، قال له فيها: "يا ريّس أحمد لو ما شفتش الإنتاج بنفسك ما تشتريش"، وقد عملتُ بنصيحته إذ لا أشتري إلا من أشخاص ثقة يعملون بيدهم في حقل النحل من أجل نتاج بلديّ".
ومن الأحداث التي يعدّها مهمة في مسيرته، ذهابه إلى مهرجان العسل المصري العام الماضي، مردفًا بالقول: "كانت نقلة نوعية حقًا تعرّفت فيها على نحالين جدد وشركات مصرية متخصصة في العسل وأدوات النحل"، مفصحًا عن رغبته في تنظيم زيارة إلى نيوزلندا ورومانيا لاكتساب خبرة أكبر في هذا المجال.

ثنائي ناجح

شريكه سامر عواد الذي يُعرف بطريقته المختلفة في التسويق، أو كما يُطلِق عليه بعض المتابعين في مواقع التواصل الاجتماعي؛ من باب الدعابة "دكتور سامر"، يقودنا إلى تساؤل حول التكامل بينهما في نجاح المشروع.

يبتسم أحمد بملء قلبه معطيًا الجواب: "أنا محظوظ جدًا بسامر، أعمل معه منذ سنوات طويلة، ويمكنني القول إن طيبته وكلامه الذي يأتي على السجية ويفتقد أحيانًا إلى الترتيب، جذبَ المتابعين، لديه قدرة مدهشة على ربط أي موضوع بالعسل وبكل سلاسة، يتمتع بكاريزما لافتة في التسويق والتواصل مع الناس، وليس أي أحد كان بوسعه إتقان هذا الفن".
يحاول سامر الترويج لبعض الأنواع بأسلوب عكسي فيه حس الفكاهة، كأن يُغري بشراء أحد أنواع العسل بعبارة كهذه: "وعرض نحلاتي زاتشي جدًا، وكأنه من عالم آخر بس مشكلته غالي ما تشتروه"، وفي موضعٍ آخر: "بتستغرب إنه نبتة الطيّون بطلع منها هيك عسل خرافي سبحان الخالق.. ما أزتشاااه".

سامر الذي يرتوي بشربه من وعاء العسل نفسه؛ متحررًا من قيود الإتيكيت، ينشر بين وقت وآخر الصور التي تصله من الشرق والغرب، قد تكون إحداها لمائدة إفطار "مزاجها رايق" إذ يباركها العسل، فيما يثبت لمتابعيه أن هذا العسل طبيعي بنسبة 100%، بدليل خيطه الذي لا ينقطع عند صبّه، ومن الجيد أنه أفلح في التأثير على بعضهم لإدخال العسل في كل تفاصيل طعامهم، كاستخدامه في تحلية القطايف والعوامة والمعمول بدلاً من القَطر، وفي ذلك كله يربط تسويقه بالمعلومات العلمية والفوائد الصحية والعلاجية.

ويواصل أحمد إطراءه هنا: "كلانا لا يستغني عن الآخر، صديقي سامر طَموح وأمين، وهذا يجعلنا نتقدم في عملنا ونقفز من مرحلة لأخرى بثبات، وسنبقى مستمرين في الشراكة حتى الممات، وهذه مناسبة جيدة لأقول له "شكرًا".
ويضيف في السياق نفسه: "كلٌ منا يعرف واجباته، فلا أتدخل في المبيعات أو التسويق، ولو كانت عند أحدنا ملاحظة يهمس بها في أذن الآخر، مهمتي إدارة الشركة وشراء العسل بالدرجة الأولى، وأركز على التغذية الراجعة من الزبائن ومدى رضاهم، وأطوّر على أساسها".

ولا يمل ولا يكل الاثنان من الحديث عن مخرجات النحل العظيمة مثل غذاء الملكات، وعكبر النحل الذي استحق وصفه بــــ "أفضل مضاد حيوي على وجه الأرض"، وحبوب لقاح النحل التي تسمى بالغذاء الخارق، وتعالج الأورام الخبيثة والحميدة وما استعصى من الأمراض، فضلًا عن تقوية المناعة، ومشاكل العقم والجهاز الهضمي، ومساهمته الفعالة في أغراض التجميل ومنح البشرة ألقًا ونضارة.

لا مكان للذكور

حتى الآن، يقتصر عملهما على المتاجر الإلكترونية، إلا أنه من المقرر في الأشهر القليلة القادمة أن يفتتحا محلاً في الضفة الغربية.
"حسنًا، ما هي مآخذك على بعض تجار العسل؟"، يرى أحمد الصايغ أن يعدّل من صيغة السؤال "لِنقول أنها ملاحظات" (.....) بعضٌ منهم يبيعون أعسالاً بأسعار مرتفعة بدعوى أنها ذات جودة عالية وهذا قد لا يكون دقيقًا، كما أن بعض المتاجر عسلها ليس من فلسطين، وإنما يكون مستوردًا ثم يُحفظ في علب بلاستيكية، في حين أنه يتوجب وضعه في أوانٍ زجاجية".
ويضيف: "حين نتناول العسل فإننا نتوّسم فيه الشفاء والغذاء، لذا يجب أن نضع تقوى الله بين عيوننا ببيع منتج غير مغشوش وجودته عالية"، رافعًا شعار: "ما أرضى أن آكله في بيتي أبيعه للناس".

وبكل دأب يستمر الصايغ في نسج شبكة علاقات واسعة مع النحالين في كل أنحاء فلسطين من جنين إلى الخليل. نحالون لديهم ثقة ومصداقية ومهنية عالية في كلٍ من قلقيلية، وطولكرم، وطوباس، والأغوار، ورام الله وقراها، وبيت لحم، وسلفيت، ويستعين أحيانًا بنحالين من الداخل المحتل، ويذهب إلى مناحلهم حتى لو لم يشترٍ منهم، تبعًا لكلامه.

ويوضح هذه النقطة بالقول: "حتى نرتاح ويرتاح الزبون، نتحرى كثيرًا من أجل الحصول على عسل بجودة عالية، ومن المواقع المميزة التي نجلب منها العسل الأغوار الشمالية "بردلة" و"كردلة" وعين البيضا وتياسير، حيث الأرض فيها خصبة ومليئة بالمزروعات، وهناك مناطق لا يصلها السيّاح، ما يتيح للمناحل إنتاج عسل نقي وخاصة عسل السدر".

وبكثير من الحماس راح يحكي لنا عن قصتين يَدعوانه للفخر بما وفقه الله إليه من نجاح: "بدايةً وختاماً الشافي هو الله، وما العسل إلا أحد أسباب الشفاء، قبل فترة حضرّت خلطة للخصوبة بمقدار 2 كيلو لرجل لم ينجب منذ 8 سنوات، أكرمه الله بحمل زوجته حديثًا، بعد أن داوما على الخلطة، وفي الحالة الثانية أعددت خلطة للمناعة تتكون من العسل والعكبر والأعشاب الطبية وحبوب اللقاح لرفع المناعة عند مريضة سرطان، والحمد لله رب العالمين ساعدتها على التعافي، ومنَّ الله عليها بالشفاء".
سألناه عن اللطائف التي رقَّ لها فؤاده عند البحث في هذا المجال، فقال: "معلومة جميلة، أن ذكور النحل ممنوعٌ تمامًا دخولهم إلى خلية النحل، أي أن الخلية أنثوية بامتياز، إمبراطورية أنثوية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وكل العاملين داخل الخلية الذين يخدموا المِلكة أو ينتجوا العسل ويحافظوا على صندوق النحل هم من الإناث فقط".

أن يضاهي العسل زيت الزيتون

استطاع القائمون على "بيت العسل" تصدير منتجاتهم إلى كل أنحاء العالم، وبخاصة إلى الوطن العربي لا سيما الأردن، والإمارات، والسعودية، والكويت، وعُمان، كما وصل عسلهم إلى أوروبا وتحديدًا سويسرا، وهولندا، وألمانيا، وأميركا، والنرويج.
يبتسم صوت أحمد الصايغ، معقبًا: "ذلك كله بفضل ربي، ثم بفضل رضا أمي وأم سامر، وصدِقنا في المنشورات دون أن نبالغ، لقد أصبح الزبائن بعد التجربة يدّلون معارفهم وأقاربهم، وما ساعد في ذلك صفحاتنا في مواقع التواصل وبخاصة "تويتر"، وهكذا تجاوزت شبكة علاقاتنا النطاق المحلي".

ومن تطلعاته أن يصبح لـ "بيت العسل" وكلاء في دول العالم كافة، بداية بالدول العربية، مشيرًا إلى سعيهم الحثيث إلى تطوير منتجاتهم على مستوى التغليف والتعبئة والأدوات المستخدمة، وإدخال ماكينات أحدث، حتى يحبّبوا الناس أكثر بالعسل.
هذا العمل الذي يلزمه الكثير الكثير من الصبر، تخرج منه بعض الأفكار الرشيقة التي دونّها مع صاحبه في أجندة التنفيذ، ومنها بيع العسل على غرار "أكياس الكاتشب".

كما تمتد منتجاتهم إلى الأغراض التجميلية، إذ لديهم وكلاء لشركة في الداخل المحتل تنتج كِريمًا من العسل والرمان وصابون من عكبر النحل، وهي منتجات "طبيعية تمامًا" تُحسّن البشرة، حسب قوله، وأيضًا هناك إقبال كبير من النساء على خلطة من صنيع أحمد، وتُستخدم مساء للبشرة، تُعرف بــ "قشطة العسل".

وقريباً جدًا، يتوقع إدخال أصناف من العسل اليمني "الأصلي"، وبهذا الخصوص يخبرنا: "لدي أصدقاء نحالون يمنيون، وأتمنى حقًا أن أزور اليمن وأكتسب خبرة جديدة في البلد الذي يعد الأول عالمياً في إنتاج "عسل السدر الدوعني"، والمعروف بأسعاره الباهظة، لأن قطفه من الجبال والكهوف والمُغر ينطوي على مخاطر".

ويبشّر المهتمين بالأمر: "تربطني علاقة بنحاليْن يمنييْن يزوران الأردن ثلاث مرات في السنة، يبيعان لأناس محددين، لأن إنتاجهم قليل يُقدّر بطن في الموسم الواحد، هذا العام وعدَاني ببيع جزء قليل جدًا لي".
"إلامَ تطمح؟" في نهاية حديث ممتع مع راعي النحل نخطّ جواب آخر سؤال: "أتمنى أن يمثلّنا تجمع أو نقابة أو اتحاد نحالين فلسطينيين، في الداخل والخارج، على أن أكون فيه جنديًا مجهولًا يساعد النحالين على مضاعفة إنتاجهم وتحسينه للأفضل، علّنا نصل لمرحلة يصبح فيها عسل فلسطين مشهوداً له في كل أرجاء العالم تمامًا كزيت الزيتون".

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير