البناء الطيني في فلسطين كيف نقاوم به الزلازل؟

06.05.2023 11:48 AM

وطن- ريم بركات

البناء الطيني هو نمط العمارة التقليدية القديمة في العديد من الأماكن حول العالم، وأقرب مثال إلينا بلادنا فلسطين التي اشتهرت بهذا النوع من البناء على مر العديد من العصور.

الطين أو اللَّبِن هو أحد أنواع التربة والتي تحتوي على نسبة عالية من الطين ذي الحبيبات الناعمة جداً، وتتميز بتلاصق حبيباتها في الأوضاع الرطبة، وقسوتها في الأوضاع الجافة.
هذا النوع هو من أنسب أنواع التربة للبناء بحيث أن جزيئاتها تشكل المادة الأساسية الرابطة لخلطة البناء، أما اللَّبِن فهو الطوب الطيني المجفف.

في هذه المقالة سنتناول البناء الطيني في فلسطين وإيجابياته، مع عرضٍ بسيط لتاريخ فلسطين في البناء الطيني، وأسباب تراجعه في العصر الحديث.

إضافة إلى ذلك سنتطرق إلى مدى جاهزية هذه الأبنية (بالتصميم التقليدي) لمقاومة الزلازل، ونتحدث عن الحلول المقترحة أو التعديلات في التصميم التي بالإمكان اتباعها من أجل تحقيق خاصية "مقاومة الزلازل".
لمحة تاريخية عن البناء الطيني في فلسطين

البناء الطيني في فلسطين له تاريخ طويل وبالتحديد في مدينة أريحا، حيث خصائص المدينة المناخية المتمثلة في تدني نسبة الأمطار وتوفر التربة الحمراء والتربة الحورية، فضلًا عن ارتفاع نسبة الإشعاع الشمسي، ما جعل منها بيئةً مناسبة لاحتضان المباني والمنشآت الطينية.

لذلك، فإن النشاط العمراني في أريحا على مر العصور كان يعتمد اعتماداً أساسياً على الطين، بحيث كان طوب اللَّبِن أكثر مواد البناء شيوعاً في فلسطين واُستخدم في أرجائها كافة.

تسرد لنا الباحثة جبارة (2015) العديد من المحطات التاريخية الغنية بما يتصل بالبناء الطيني، بحيث يعود تاريخياً أقدم استخدامٍ لطوب اللَّبِن في فلسطين إلى العصر الحجري الحديث قبل الفخاري، بناء على آثار بيتين من الطين اُكتشفا في منطقة تل السلطان.
كان هناك أكثر من نمط لاستخدام طوب اللَّبِن مثل النمط البيضاوي ذو القاعدة المستوية، والطوب الذي يشبه شكل السيجار، وتنوعت الأنماط الخاصة بطوب اللَّبِن مع تغير العصور.

ففي العصر الحجري النحاسي كان شكل الطوب يشبه الكعكة وأصبح شكله وحجمه أكثر تنظيماً، وهذا انعكس على شكل المباني والجدران المختلفة في ذلك العصر.

نجد أن منطقة تليلات الغسول تمثل أنموذجاً لنمط البناء الخاص في هذا العصر، اُستخدم الحجر أيضاً في بناء أساسات جدران المباني والتي دُعمّت باللَّبِن وسُقفت بالخشب، مع إضافة القصارة على الجدران، ونُفذّت الزخارف والرسومات عليها بعدة ألوان، وكانت أغلب البيوت في العصر الحجري النحاسي تحتوي على مقاعد مبنية من الحجارة أو اللَّبِن، وصومعة للتخزين.
في العصر البرونزي الوسيط تعددت التصاميم لتلبي متطلبات البيئة والاحتياجات الاجتماعية المختلفة في المنطقة، فعلى سبيل المثال كان البيت عبارة عن ساحة مستطيلة أو مربعة محاطة بغرف منفردة أو متلاصقة وتُهوّى بواسطة الباب، بحيث أن الشبابيك كانت صغيرة ولا تفي بغرض التهوية.

إضافة إلى ما سبق، فإن هذا العصر تميز بظهور دولة المدينة، مما استدعى استخدام تحصينات دفاعية للمعسكرات والمدن، وساهم في ظهور تصاميم وأنماط جديدة للأبنية الطينية.

تغير التصاميم الخاصة بالأبنية الطينية استمر مع تغير العصور المختلفة، فالعصر البرونزي المتأخر كانت له ميزاته الخاصة، وهذا ينطبق على العصر الحديدي، والفترة اليونانية، والفترة الرومانية، والفترة البيزنطية، والفترة الإسلامية المبكرة وحتى الفترة العثمانية.
الفترة الرومانية التي تميزت ببناء الحمّامات العامة في مناطق متعددة من فلسطين مثل البحر الميت وبيت لحم، فضلًا عن بناء برج ضخم في قمران التي تقع جنوب مدينة أريحا، والذي كان أحد طوابقه مبنياً من طوب اللَّبِن.

ما سبق مجرد لمحة بسيطة عن تعدد أنواع وأنماط العمارة الطينية في فلسطين سواء في العمارة الطينية أم المدنية أم العسكرية، ولكن ما تشترك به هذه الأنماط هو استخدام طوب اللَّبِن مادة أساسية في البناء على مر العصور المختلفة وحتى عصرنا هذا، وإن كان بوتيرة أقل من العصور السابقة، وتشكل مدينة أريحا مثالاً حياً على آثار هذه العمارة الطينية التقليدية.

تراجع البناء الطيني في أريحا ومشاكل البناء التقليدي
شهدت نهاية العصر الماضي تراجعاً كبيراً في نسب البناء باستخدام الطين في مدينة أريحا، وذلك يعود لعدد من الأسباب أو المشاكل التي كان لها دور في تدهور المباني التقليدية وبالتالي قلة شعبيتها وابتعاد الناس تدريجياً عن اتباع نفس الطريقة في البناء.
تلخص لنا الباحثة جبارة (2015) هذه الأسباب في أربعة مشاكل رئيسة.

المشكلة الأولى: هي تأثير العوامل الجوية وبالتحديد الأمطار، بحيث أن مقاومة المباني الطينية التقليدية للماء ضعيفة، عدا عن تأثير الرياح الجنوبية والشرقية على قصارة الواجهات الخارجية وتآكلها.
بطبيعة الحال فإن آثار العوامل الجوية على المباني الطينية تختلف من مبنى لآخر، تبعاً للاختلاف في دقة الإنشاء واتباع قواعد البناء السليمة والصيانة المتجددة للمبنى.

عانى سكان البيوت الطينية أيضاً تسرب مياه الأمطار من الأسقف، وهذا يؤثر على الخشب المستخدم في بناء الأسقف بتشبعه بالمياه، وبالتالي تعفنه وضعفه مع الوقت.

المشكلة الثانية: هي تأثير الكائنات الحية، إذ يعد التبن مادة جاذبة للعديد من الحشرات والقوارض والطيور وهو متواجد بكميات كبيرة في طوب اللَّبِن الليّن.

ومع الوقت ومن دون صيانة دورية، فإن المشكلة تتفاقم بسبب الثقوب والحفر التي تحدثها الحيوانات في هذه البيوت، ما قد يشكّل خطر الانهيار ويهدد حياة السكان.

المشكلة الثالثة: هي تأثير النشاط الإنساني وبالتحديد في أوقات التدخل الخاطئ، ويزيد من تفاقم المشكلة عدم تواجد خبرات فنية كافية مؤهلة للعمل في هذا المجال، وكذلك غياب كود بناء خاص بالمباني الطينية في فلسطين.
الوضع الإنشائي في معظم البيوت الطينية المأهولة بالسكان يعد سيئًا، بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة الخاصة بسكانها، وتصميمها في الأساس بسيط ومساحتها صغيرة، فضلًا عن إغفالها العديد من المتطلبات البيئية المحيطة، فلا يوجد أنظمة عزل مناسبة على سبيل المثال للأسقف الخشبية أو الجدران الطينية.

ويساهم التدخل السلبي للإنسان عندما يلجأ لإحداث بعض التغييرات على المباني الطينية بطرق غير ملائمة أو عند إضافة مبنى جديد ملاصق للقديم وبالأخص إن كان مبنى غير طيني.

يجدر الذكر أن العديد من المباني الطينية المهجورة في أريحا هي في حال أفضل من تلك المباني المنتشرة في القرى، وهذا يعود أساسًا إلى إنشائها استناداً على أسس بناء سليمة، كما يرتبط أيضاً بالوضع الاقتصادي الجيد لمالكيها.
ومع ذلك، فإن سبب هجرة هذه البيوت الطينية هو عدم ملاءمتها لاحتياجات السكان المعاصرة.
أما المشكلة الرابعة فهي تتمثل في تأثير الزلازل على المباني الطينية، وبالأخص في مدينة أريحا التي تعد منطقة ذات نشاط زلزالي.
وبما أن مادة الطين تعد ضعيفة في حال وقوع الزلازل وقوى الشد الناتجة عنها، فإن هذا يؤدي لانهيار المنشآت الطينية، بالأخص تلك التي لا يُراعى وقت إنشائها الإجراءات الوقائية.

إيجابيات البناء الطيني
من ناحية أخرى، فإن إيجابيات البناء الطيني تتجاوز سلبياته، وبالأخص عند الالتزام بالمقاييس الصحيحة للبناء، وعندما يتم البناء على أيدي ذوي الخبرة والمتخصصين في هذا النوع تحديدًا.
من أهم إيجابيات البناء الطيني والأسباب التي جعلت أجدادنا يتبعون هذه الطريقة في البناء ما يلي:
1. البناء الطيني هو بناء قوي ومقاوم للكوارث، في حال الالتزام بالمعايير والمقاييس المناسبة لهذا النوع من البناء.
2. العزل الحراري: بحيث أن غالبية الأبنية الطينية تتميز بدرجة حرارتها المعتدلة والتي تتناسب مع تغير المواسم.
3. في حين أن إعادة التدوير أصبحت كلمة رنانة للحفاظ على البيئة اليوم، إلا أن المنازل الطينية كانت تفعل ذلك بصمت على مر العصور، فعند تفكيكها، يمكن إعادة تدوير المنازل الطينية أو إعادة استخدامها.
4. قابلة للتحلل: على العكس من المواد الأخرى مثل البلاستيك والمعادن والزجاج التي تستغرق سنوات حتى تتحلل، وبعضها غير قابل للتحلل أساسًا، وهذا ألقى بثقل كبير على كوكبنا وساهم في تلويث البيئة إلى حد كبير.
5. فعّالة من حيث التكلفة، بسبب وفرتها وتوفرها محلياً، ما يقلل من تكاليف النقل.
6. وجود العديد من التقنيات التي تمكن من التوافق مع الظروف المناخية المختلفة وموقع البناء وحجمه أو مساحته.
7. البصمة الكربونية للبناء الطيني تكاد لا تذكر، بينما صناعة الإسمنت توّلد حوالي 8% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية.

أسباب فشل البيوت في مقاومة الزلازل

هناك العديد من الأسباب التي تؤدي لفشل البيوت، وبالأخص البيوت الطينية، في مقاومة الزلازل، أهمها ما يلي:
1. الاهتزازات التي تحدث داخل القشرة الأرضية على شكل موجات تصل إلى سطح الأرض وتسبّب اهتزازات في الهياكل، وفي الكثير من الأحيان تفشل الهياكل وتنهار.
2. قوة القصور الذاتي، فالأجزاء السفلية من الهياكل والتي تكون على اتصال مباشر مع الأرض تميل إلى الاهتزاز أكثر، بينما تميل أجزاء أخرى من الهيكل لأن تبقى ثابتة، لكن مع الزيادة في تردد الاهتزازات هذا قد يؤدي لفشل الهياكل كليًا.
3. الجودة الرديئة لمواد البناء المستخدمة.
4. الحمولة الزائدة، بمعنى أنه كلما كان وزن المنزل أثقل كانت قوة التدمير أثقل.
حلول لتحسين مقاومة البيوت للزلازل وخصوصًا الأبنية الطينية:
في المناطق الاستوائية تحتوي العديد من المنازل التقليدية على جدران من الخشب والجبس مع أسقف من القش، وبالتالي فهي تستهلك القليل من المواد وتكون خفيفة في الوزن.

طريقة تصميم هذه المنازل لا تسمح بوجود طوابق، وبسبب خفتها فهي حتى لو انهارت فإنها عادة لا تؤدي إلى قتل سكانها.
وثمة طريقة أخرى لتحسين مقاومة المنازل للزلازل تتمثل في جعلها صلبة والتأكد أنها في حالة الاهتزاز، فيهتز المنزل وحدة واحدة، وهذا من شأنه أن يمنع الامتصاص غير الضروري للطاقة في الأجزاء الهيكلية للمبنى، ويحسّن مقاومة المنزل للزلازل عمومًا.
من الناحية التخطيطية في هذه المنازل، فإن الأجزاء العليا من البيت تكون متصلة بالأجزاء السفلى بقوة، بحيث أن أي حركة اهتزاز في الجزء السفلي تنتقل للمبنى بأكمله، وبالتالي يهتز المنزل بأكمله كونه جسمًا واحدًا صلبًا، مما يمنع حدوث ضغوط غير متساوية على أجزاء مختلفة من هيكل المنزل.

إطارات الخرسانة المسلحة على سبيل المثال هي صلبة أساساً من حيث التصميم، لكن يمكن تحسين صلابتها أكثر بواسطة الزيادة في كمية المواد الصلبة المضافة.
مثال آخر هو الأبنية المصنوعة من الخيزران في شمال شرق الهند، بحيث تُحقق الصلابة بإضافة دعامات متقاطعة ومثلثة الهيكل، والتي تساعد في تقوية جميع الأطراف بسبب تقاطع الأطراف مع بعضها البعض، وبالتالي فإن أي وزن للاهتزاز ينتقل بطريقة متساوية بين جميع الأطراف.

ننتقل الآن للحديث عن كيفية تحسين مادة الطين لتصبح مادة مناسبة لبناء منازل مقاومة للزلازل. عادة وفي حالات إعادة الإعمار بعد الزلزال، يكون خيار المنازل الطينية مغريًا ومناسبًا للأسباب التي ذُكرت مسبقاً، فهو يعد الأكثر فعالية لأنه صديق للبيئة، ومناسب لظروف الجو الموسمية سواء في الشتاء أم الصيف، وبالتأكيد بسبب وفرته في كل مكان ومن دون تكلفة، وهو المادة الأساسية التي كانت تُستخدم في البناء على مر العديد من العصور.

لكن كيف يمكن التغلب على عيوب الطين من أجل الارتقاء به بحيث يكون أساسًا مقاومًا للزلازل؟
الجواب: يحدث ذلك بتحسين تقنيات التصميم والبناء المستخدمة.
تُحسّن قوة الطين بإضافة الإسمنت أو الجير أو البيتومين أو الألياف، وبالتالي يصبح الطين مقاوماً للماء حتى وهو عدوه الرئيس. كتل الطين الإسمنتية المستقرة، باستخدام نسبة تتفاوت من 3 إلى 10% من الإسمنت بالوزن، مصبوب في الآلات الميكانيكية، تكون أفضل من حيث الصلابة من طوب اللَّبِن.

طريقة أخرى فعالة لحماية الجدران الطينية هي وضع "جِبس طيني" غير قابل للتآكل، بحيث يُحضّر عن طريق خلط قطع البيتومين بطبقة طينية محددة، بشرط أن تتكون التربة من نسبة تتراوح بين 20 و25% من الطين، و40 و45% من الرمل، فيما الجزء المتبقي يجب أن يخلو من المواد العضوية، وتكون الجدران عادة مقاومة للتآكل المائي.
كما رأينا، فإن طريقة تصميم وبناء الأبنية الطينية كانت في تغير مستمر على مر العصور، وذلك من أجل ملاءمة احتياجات العصر والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت سائدة في كل فترة.

وهذا يعني أن للطين طرق استخدامات متعددة ولا تقتصر على طريقة واحدة، ما يجعل من السهل إيجاد طرق تجعل الطين ملائمًا لا سيما لمقاومة الكوارث البيئية مثل الزلازل، بحيث يمكن تشكيله وتقويته وتدعيمه بمواد ومكونات إضافية.
هذه المرونة في الاستخدام، إضافة إلى جميع الخصائص الأخرى للطين تجعله خياراً مثالياً عند التفكير في تصميم وتشييد أبنية مقاومة للزلازل، بالأخص بعد الكوارث الأخيرة التي شهدناها أخيرًا وكان لها تأثير كبير على كيفية تفكيرنا في جميع ما يتصل بأمور البناء في المستقبل.
وأخيراً، يتوفر عدد من الدراسات المنشورة مجاناً على الإنترنت التي تشرح بالتفصيل كيف يمكن تصميم البناء الطيني بطرق مقاومة للكوارث الطبيعية والزلازل، والمعني حقاً لن يصعب عليه إيجاد هذه الأساسيات في التصميم، والمهندس المحترف ذو الخبرة الواسعة لن يشقّ عليه الأمر بالتأكيد.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير