فارس سباعنة يكتب لوطن .. في اليوم الخامس عشر للإضراب .. إلى الأسير رقم 16
هذه القصة قصيرة، وقد تطول قليلاً مع حياة بطلها الذي لا نعرف مصيره بعد، هو أحد الأسرى الثلاثين المضربين عن الطعام منذ 15 يوماً، لنقل إنه الأسير رقم ١٦، ولكي نتعرف عليه أكثر، هو الأضعف بنيةً ونيةً وإرادة. ولم يتخيّل أنه سيجد نفسه يوماً مضرباً عن الطعام في سجون إسرائيل، و لكن موقفاً غريباً وضعه في مهبّ مغامرة لا مفرّ من مواجهتها.
استيقظ الأسير رقم 16 في صباح ذلك اليوم القاسي ٢٥/٩/٢٠٢٢ وقد تأجل موعد محاكمته الذي كان مقراً يوم أمس، ما زال لا يعرف لماذا جاء هنا، وما علاقته أصلا بأفعال المناضلين والأبطال، هو كان يحلم بالهجرة إلى استراليا، وقد أعد كلّ الأوراق والمعاملات والحسابات البنكية وقبول الجامعة ليكون في هذه الأوقات يجلس أمام بحيرة بعيدة في بلاد بعيدة، وثمة عصافير تزقزق حرةً بالتأكيد فوق شجرة غير مهمة بين أشجار الحديقة، جاءت تلك المكالمة من السفارة تؤكد حصوله على الفيزا، باع كل شيء و ودع أصحابه، ونظر إلى قريته نظرة الوداع، وخرج لإحضار جواز سفره المبارك (بفيزا الشنجن) سارية المفعول، وكما يحدث مع الفلسطينيين في الطرقات بين المدن، أوقفه حاجز عسكري لمدة تجاوزت فترة دوام السفارة، وتعبت أعصابه في الانتظار حتى نسي أنه لم يسافر إلى الحرية بعد، كانت أحلامه قد تملّكته في تلك اللحظة، وكان إحساسه بالخلاص قد سيطر على خياله، كأنه خرج من لعنة فلسطين حسيا وذهنياً، وقد توقع لهذه الأسباب أن الجندي الإسرائيلي سوف يستوعب غضب رجل فلسطيني ضجر من الانتظار، لم يتصور أن صرخته تلك وكلماته الغاضبة مع الجنديّ، سترميه في السجن مدة لا يعرفها دون تهمة واضحة.
تسعة وعشرون أسيراً محجوزون على دكة الاحتياط، دونما تهمة أو موعد أو معلومة، محجوزون في (الأخماس والأسداس) قرروا إضراباً عن الطعام احتجاجاً على ما سبق، وكان صديقنا الأسير رقم ١٦ في ذلك اليوم يكره فلسطين كثيراً، ويكره الساعة التي خلق الله فيها فلسطين، وجد الأسير الذي سيحمل الرقم 16 نفسه أمام ٢٩ أسيراً في اللحظات الأخيرة قبل الدخول في إضرابهم، يودعون زملاءهم بسخرية الراحلين إلى المجهول، فهم لا يعرفون إذا كان إضرابهم سينجح أم لا، ومن ضمن النكات التي أطلقها أظرفهم وهو يشير بيده إلى الرجل النحيل، الذي لم يتوقف عن البكاء منذ شهرين، شو رأيك تكملنا عالثلاثين؟! أطلق تلك الكلمة، فضحك الجميع من الرجل الضعيف النادم على موجة غضبه أمام جنديّ الحاجز، ويتمنى لو أنه حقاً كظم غيظه ومرّ عن ذلك الحاجز المشؤوم بسلام.
كان موقفاً محرجاً تزامن مع تأجيل المحاكمة، ويقين المتعوس بخيبة الرجاء، مما هيأ الأجواء للحظة تهوّر: آه يا سيدي، أنا الأسير رقم ٣٠، قال الأسير الذي حمل الرقم ١٦ في تلك اللحظة.
الأيام الأولى من الإضراب، كان يعرف الأسرى التسعة وعشرون فداحة تلك المزحة، لم يستطع أحد أن يزجره عن موقفه، مع أنه كان يتمنى ذلك من كل أعماقه، وهم يفهمون، لكن أي كلمةٍ في هذا الاتجاه قد تزعزع المعنويات في اليوم الأول من الإضراب، يمكن القول إن الشغل الشاغل للأسرى التسعة وعشرين في الأيام الخمسة الأولى كان تثبيت زميلهم، وتصبيره بالكلمة الطيبة أحياناً، وتخويفه أحياناً، حتى لا يكسر القاعدة، ولا يحطم الفكرة.
لكنّ الذي حدث في ليلة اليوم الخامس، قلبَ كل الموازين، فقد قرر الأسير رقم 16 في صباح ذلك اليوم أن يعلن خروجه من الإضراب، وتداول عليه الأسرى نصحاً وتثبيتاً حتى وصل بأحدهم أن أمسكه من قميصه في محاولة تهديد أبقته طول ذلك اليوم، منكفئاً على نفسه وشبه ميتٍ من الجوع، حتى غفا مع الساعة السادسة مساء.
يقول العلم إن جسم الإنسان يتغذى بطريقتين، الطريقة الأولى يرسل فيها الجهاز الهضمي إشاراته إلى الدماغ، ليخبره بنقص معدل السكر أو البروتين، فيقنع الدماغ صاحبه أن يتوجه نحو الثلاجة، لكنّ (الإنسان الأول) الذي لم تكن لديه ثلاجة، ولم تكن لديه وفرة الطعام قبل أن يتعلم الزراعة، كان يقضي أياماً دون طعامٍ إذا لم يعثر على فريسة يصطادها، فيعمل جسمه بالطريقة الثانية وهي استهلاك المواد الغذائية المخزنة في الجسم، فتجد لديه طاقة مع أنه لم يأكل شيئاً.
حين غفا الأسير رقم 16، وبينما تجري في جسده عملية التحول الغذائي إلى النظام الثاني، ذهب حلمه تلك الليلة إلى جنة اللاوعي، هناك حيثُ وجد نفسه أمام (سدر منسف) في خيمةٍ عربيةٍ مقامةٍ في بستان يشقه نهرٌ من النصف، وفوق النهرِ جسرٌ حجريٌّ صغيرٌ مثل جسور أفلام الكرتون، وفجأة مرّ أمامه (بيومي فؤاد) ينادي على كابتن نامق من مسلسل الأطفال (عدنان ولينا)، ليشاهد حواراً سوريالياً تتدخل فيه عبلة كامل من وراء الخيمة، والأسير رقم 16 يحب عبلة كامل كثيراً فتوجه دون حياء إلى (شق الخيمة) ليسلم عليها حين وجدها تخض اللبن، فلم يكترث للأمر كثيراً لأنه رأى (ميريام فارس) و (وهيفاء وهبي) تلبسان ملابس بدوية وتتحدثان في شؤون أنثوية، وكان على وشك الانغماس في ذلك الموضوع، لولا انتباهه إلى رهان يجري في تلك اللحظات بين (جودي أبو خميس) و(أسعد خرشوف)، فنزل بعدها إلى شاطئ اللاذقية على كرسيّ الصخرة، يراقبُ القواربَ الصغيرةِ تسحب شباك الأسماك من البحر، وهكذا بقي الفيلم متواصلاً بالمتعة دون توقف، حتى استيقظ الأسير رقم 16 مع أذان الفجر، لم يكن متأكداً ساعتها من أين يأتيه الأذان، من مأذنة مسجد بعيدة! أم أنها مأذنة ارتفعت داخله مع سموّ روحه، لقد استيقظ باشّ الوجه، صافي الملامح ينظر من فتحة صغيرة في الجدار تطل على قطعةٍ قليلةٍ من السماء.
حتى أنا - وقد دخلتُ إلى أحلام الأسير رقم 16- لا أعرف ماذا قالت عيناه الذاهبتان إلى الغيب، كأنهما تقولان كل شيء في لا شيء، كأنهما تسبحان في ملكوت القدرة وتخفقان بجناحي حزنٍ عملاقين، وحولهما تطوف أسرابٌ من الملائكةِ والحمامات البيض. حتى يد زميله الأسير رقم 7، يده الحنونة العطوفة وقد استراحت على كتفه لم تشوّش صفاء العينين، وقد سرقَ له قطعة خبزٍ دون أن ينتبه الأصدقاء، يقدمها خفيةً كي تتخيل عزيزي القارئ موقف الأسير رقم 16، وما الذي فعله حينها.
لم ينتبه الجميع أن وجود الأسير رقم 16 خلال الأيام الخمسة الأولى، كان سبباً في تماسك المجموعة، فمحاولاتهم إقناعه بالصمود كانت تجعل من صمودهم تحصيل حاصل، لكن جميع الأسرى في الأيام التالية كانوا يعتمدون في لحظات يأسهم على رجلٍ واحدٍ نحيل وشاحبٍ، رجلٌ يعثر على الكلماتِ من طمأنينةٍ سريةٍ ويقولها بصوتٍ نزلَ عليه من السماء، أضلاع صدره التي تبرز يوماً بعد يومٍ، فيها متسعُ الكونِ لتستريح عليها الرؤوس المتعبة، وما زال دوره حتى هذا اليوم، اليوم الخامس عشر من الإضراب يفعل الأشياء نفسها، قبل أن يذهب إلى النوم ويجلس على شاطئ اللاذقية مرةً، وعلى نهر النيل مرةً، وعلى جسرٍ معلقٍ فوق الفرات، و يتزلجُ مرةً على الثلج، ويطيرُ بطائرةٍ شراعيةٍ فوق جبالٍ عاليةٍ، ويعود ليغفو داخل سرير أمه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء