في العدوان الإسرائيلي على غزة قصصٌ تنتزع القلب من مكانه

وطن- حنين الصبيحي
انشغل أحمد المصري في آخر أيامه بحصاد القمح لبيعه استعداداً لإقامة حفل زفافه، لكن الاحتلال الذي يُمعن في قتل كل ما يفرح الفلسطيني قضى على حلم عمر هذا المزارع الشاب القاطن في شمال قطاع غزة، ليستهدفه بقذيفة مدفعية أردته شهيدًا على الفور، بالنسبة لهم لم يكن لأحمد من ذنب سوى أنه ابن غزة الذي يحب السعادة ما استطاع إليها سبيلاً.
لم يُكتب له أن يكون عريسًا في الدنيا فأراد الله له أن يكون كذلك في الجنة بعد أن مزقت غارة جوية إسرائيلية جسده وقلب حبيبته رجاء، ليلحقَ بأمه التي استشهدت في غارة إسرائيلية في الحرب الأولى على غزة عام 2008، قضى أحمد شهيدًا مع أخته رهف (10 أعوام) وابن أخيه يزن (عام ونصف) و7 آخرون جُلهم من أقاربه، في أول غارة شنتها "إسرائيل" قبل موعد الإفطار بقليل، بدأت بها حربها الآثمة على غزة في شهر مايو/ أيار الماضي.
بصوت خافت يقتل الحروف كمدًا وحزنًا يقول والده: "لقد مزق الصاروخ قلبي بقتله لأحمد واغتال فرحتنا".
رحل أحمد من دون أن يرتدي بدلة الزفاف، وذهبت رهف دون ارتداء ملابس العيد، ورافقهما يزن شهيدًا رضيعًا.
أحمد الذي كان يعدّ الأيام عداً، فقرر أن يكون ثاني أيام عيد الفطر يوم زفافٍ لا مثيل له، كان يجهز نفسه لإتمام مراسم الزفاف ليكن عرسه ختام قصة حب جميلة، فكلما زار خطيبته يدندن لأمها عقب كل صلاة تراويح،" بدنا نتزوج على العيد"، بكل أسى لقد أُغتيلت فرحة رجاء خطيبة أحمد المصري التي كانت تنتظر انتهاء شهر رمضان لتزف إلى عريسها بالفستان الأبيض.
تقول رجاء لمراسلة مجلة "آفاق البيئة والتنمية" بعباراتٍ تكاد تخنقها أن خطيبها الشهيد كان يسرق اللحظات ليقضيها معها، وينتظرها على باب الجامعة بعد انتهاء محاضراتها مستقبلاً إياها بابتسامته تُنسيها أي تعب صادفها في يومها.
مشاهد من مجزرة شارع الوحدة
في شارع الوحدة حيث مجزرة عائلة الكولك وأبو العوف، سابقَ شابٌ الموت محاولًا إنقاذ أمه من تحت الركام.. هناك حدّثها باكياً، وتوسّل إليها أن تصمد.
كان يعرف ولدها أنها ما زالت على قيد الحياة من صوت أنفاسها التي كان من الواضح أنها تبذل جهدا كبيراً لالتقاطها، في تلك الليلة انهارت بناية فوق رؤوس ساكنيها إثر قصف البيوت دون سابق إنذار.
جثا على ركام منزله راجيًا أمه ألا تموت، فيما كانت فرق الدفاع المدني عاجزة عن إنقاذها لضعف الإمكانيات، جلس بجوار الركام يسمع أنفاسها كيف تنقطع شيئًا فشيئًا.. بقي جامدًا في مكانه، منتظرًا فرق الإنقاذ إخراج جثة أمه بعد أن فارقت الحياة.
وبالقرب من بيت عائلة أبو العوف، كان محمد إيكي الذي تعرض بيته لقصف جزئي، قد نجح في إرسال رسالة من هاتفه النقال لعائلته بأنه على قيد الحياة طالبًا منهم الإسراع في نجدته من تحت الأنقاض، إلا أن كثافة القصف وقلة الإمكانيات أفشلتا كل جهود الإنقاذ من أجل إخراجه سالماً.
كان يسمع صوت أقاربه ورجال الدفاع المدني فوق التراب يتزاحمون ويحاولون إخراجه، انتظرَ بارقة الأمل وانتظرته عائلته لكن الأمل لوّح بيده وغاب!
لقد استشهد محمد بعد أن استنفذَ كل المحاولات في تلّقف أي صوت من بعيد، ظل متشبثًا بالحياة حتى آخر رمق ومن ثم ارتقت روحه إلى السماء.
الناجي الوحيد رضيع
قفز أطفال عائلة الحديدي فرحاً بعدما قررت والدتهم الذهاب لزيارة شقيقها من عائلة أبو حطب، القاطن في مخيم الشاطئ للاجئين غربي مدينة غزة، لتهنئته وأطفاله بالعيد.
تجهّزوا وارتدوا ملابس العيد، واستعدوا جيدًا للقاء أقاربهم، علّهم يسترقون بعض الوقت للهو بعيدًا عن مشاعر الخوف من انفجارات الصواريخ الإسرائيلية، التي استهدفت مناطق مختلفة في القطاع.
اللقاء الأول كان مليئاً بالسعادة، فقد وصلوا إلى منزل "شقيق والدتهم"، بأمان رغم القصف الجنوني الإسرائيلي.
لكنّهم لم يعرفوا أن هذه اللحظات ستكون الأخيرة في حياتهم، وأن صواريخًا تزن أطناناً ستتساقط على رؤوسهم.
وبدون سابق إنذار، ستحيل المنزل إلى رماد.
استهداف وحشي بشع لم يُخرج أحد ممن كانوا بالبناية حياً، حيث استشهد 10 أفراد منهم، بينهم 8 أطفال وسيدتيْن.
عائلة أبو حطب، فقدت 4 أطفال وهم "مريم (8 سنوات)، ويامن (6 سنوات)، وبلال (9 سنوات)، ويوسف (11 سنة)"، فضلا عن استشهاد والدتهم.
أما عائلة الحديدي فقد فقدت أيضاً 4 أطفال: "صهيب (14 عاما)، وعبد الرحمن (8 سنوات)، وأسامة (6 سنوات)، ويحيى (11 سنة)" وبقي فقط أخوهم الرضيع على قيد الحياة، فضلا عن استشهاد والدتهم.
التقينا بمحمد، والد أطفال عائلة الحديدي، الذي لم يستفق بَعد من هول الصدمة، فقال: "ما ذنبهم كي يُقتلوا، وهم أطفال أبرياء لا علاقة لهم بهذا الصراع؟".
واستكمل بصوت حزين "استشهدت زوجتي، وأطفالي الأربعة، وتبّقى لي فقط -فلذة كبدي- هذا الرضيع الذي حرم من أمه وهو لم يتجاوز الــ (5 شهور)، والحمد لله رب العالمين".
كان مشهدًا تقشعر له الروح حينما علم محمد الحديدي بنجاة صغيره "عمر"، عندئذٍ همّ مؤديًا ركعتي شكرٍ لله على ذلك.
استنكر الرجل المفجوع بفقدٍ لا يصفه الكلام، وتابع حديثه بصوت حزين: "أطفال آمنون داخل المنزل، لم يحملوا سلاح، ولم يوجهوا أذية لأحد، ما مبرر قتلهم؟
رافضًا مناشدة مؤسسات حقوق الإنسان الدولية، إذ اتهمهم صراحة، بتجاهل جرائم الاحتلال في أداء دورهم بحماية الطفل الفلسطيني الذي يتعرّض منذ سنوات للانتهاكات الإسرائيلية.
في غزة يُغتال الحب
أنس اليازجي شاب كان لديه الكثير من الأحلام الوردية التي أراد أن يحققها مع عروسه شيماء، لكن "إسرائيل" أنهت كل شيء.
يقول: أنس "كنا نتراسل كما كل ليلة، عندما بدأت الغارات في تلك الليلة، كتبت لشيماء أسألها "كيف حالك؟ " فردت: "بخير الحمد لله، بس خايفة"، قلت لها: "ِاجلسي في مكان آمن" ويبدو أن الموت عَاجلها قبل أن تقرأ آخر رسالة، شعرتُ حينها بوخزة ألمٍ في فؤادي ولم أكن أعلم أن الفؤاد قد اُنتزع من مكانه في الدقيقة التي دمرَّ الاحتلال المنزل فوق رأسها."
"أنس" ظل ما يقارب 10 ساعات يبحث عن خطيبته "شيماء" تحت ركام منزلها المدمر، دون كلل أو يأس، كان يواسي نفسه بأمل ضعيف "لا بد وأنها ما زالت على قيد الحياة".
عشر ساعات خفق فيها قلبه بكل لهفة العالم عند كل حجر يُرفع، وكل صوت خرج من تحت الأنقاض وكل جسد يخرج من تحت الركام، على أمل أن تكون خطيبته من بين هذه الأجساد التي ما زالت متمسكة بالحياة.
تمكن رجال الدفاع المدني من الوصول لشيماء وانتشالها، هبَّ كما الظمآن وجد الماء، لكنها للأسف كانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة تحت الأنقاض، وأبى هذا المحتل إلا أن يغتال هذا الحب.
رحلت "شيماء" طالبة طب الأسنان، الحافظة للقرآن بعد عامين من الحب وترقب طويل لعيد الفطر بكل شوق، لحتى تُزَفَّ إلى "أَنسها".
وكأن روحها تهمس لخطيبها في الأيام الثقال التي يعيشها الآن: حبيبي لا تبكِ على فراقي، لم أود أن يحدث لكنه الاحتلال الحاقد، أما زلت تذكر تلك التفاصيل التي تشاركناها كل يوم!
غابت شيماء الطالبة المجتهدة في عامها الدراسي الثالث، لكنها قبل أن تغيب أرسلت للعالم رسالة، أن هذا المحتل يقتل الحب والبراءة والطفولة.
كانت أبلغ عبارة قرأتها في وصف هذا المشهد القاسي: "إنهم حقاً يقتلون الحب يا الله، يقتلوا كل شيء يعيد الحياة للناس، يقتلوا الحياة نفسها".
لتكن دقائق من الحداد، نتوقف بها عند الجزء الأكثر حزنًا من قصيدة الشاعر حامد عاشور التي رثى خلالها الشهيدة «شيماء أبو العوف» على لسان خطيبها «أنس»:
حسناً شيماء
أحبك جداً و بعد..
أقول: يا شيماء
مرَت طائرة
سقطَ الجرس والمئذنة
وتقولين : لا بأس
الصلاةُ صاعدة
أقول: يا شيماء دمروا الأبراج
و تقولين : لا بأس / بَقي الحَمام
أقول: حطَّموا النافذة
وتقولين: أحسنْ، بهذا أصبح الضوء حراً
أحبك جداً
وحيث أنني الآن تحت القصف كما دائماً
وتحت الدمار
سيأتِ التُجَار والفُجَار، وتبدأ المؤتمرات، ويُفتح المزاد على البلاد وعلى ما تبقى من عباد
سيشكلون لجنة لإعادة الإعمار واعادة الأبراج
والبيوت المهدمة
وبيتنا يا حبيبتي
بيتنا الصغير الذي سوّيناه حجراً على حجر، ثم غَرِقنا في الديون والأقساط
وغَرِقنا في الشجار على لون الكنب
ولون الحيطان، وفي أي مكانٍ من حديقة بيتنا سنزرع شتلة العنب
ستُعاد لنا الشوارع
والمآذن والحدائق
والكهرباء
وخطوط الماء
أقول: وقد توقف القصف
من يعيد لشيماء الدماء.
أطفالٌ آمنون داخل منازلهم، لم يحملوا سلاح، ولم يوجهوا أذية لأحد، أي مبررٍ هذا لقتلهم؟! يقتل المحتل الحب والبراءة والطفولة، "بل كل شيء يعيد الحياة للناس، يقتل الحياة نفسها"..
كثير من أهالي غزة باتوا لا يقتنعون بمناشدة مؤسسات حقوق الإنسان الدولية بل ويتهمونها بتجاهل جرائم الاحتلال، وبالتقاعس عن أداء دورها في حماية الطفل الفلسطيني الذي يتعرّض منذ سنوات للانتهاكات الإسرائيلية البشعة.
في هذه الصورة القلمية نستعرض أبرز القصص الإنسانية لأصحاب الصور الأكثر تداولاً في العدوان الإسرائيلي على غزة.
خاص بآفاق البيئة والتنمية