حازم بدر: الصحافة العلمية تبسيطٌ ثم تبسيط والحصادُ يأتي

08.04.2021 10:20 PM

وطن- هديل عوني عطاالله

في أرشيفه الصحفي، قصة عن أستاذ للفيزياء في جامعة الأزهر، تمكن من حبس "الشبح" في الزجاج؛ بعد أن تمكن من استخدام الأتربة الناتجة عن صناعة الإسمنت في صناعة الزجاج، فتلك الأتربة تُعد من أخطر ملوثات البيئة في المناطق المحيطة بمصانع الإسمنت.

وفي الأرشيف أيضًا، مهندس زراعي ظهر للنور ابتكاره “جورن 19” الذي تمكن بواسطته من رفع إنتاجية فدان القمح بمعدل 25%، في محاولة جادة لوقف استيراد القمح أو التقليل من فاتورته.

وبالإضافة إلى ما سبق، هناك الكثير من القصص والقضايا المعاصرة، التي طرقها الصحفي المصري حازم بدر باحترافية "الصحفي العلمي" وقدرته على تحقيق المنفعة للباحث والمجتمع معًا، إذ بدأ نجَمه في السطوع مؤخرًا، من خلال الحديث مع باحثين على المستوى المحلي والدولي.

وخلف الكواليس، جهدٌ لا يُستهان به، من أجل الوصول إلى ألمع العلماء الذين يستضيفهم في تقاريره ما بين بلجيكا وهولندا وجنوب إفريقيا وبريطانيا وغيرها.

فلا ينسى حازم عندما أرسل لفريق إنتاج اللقاح الروسي (سبوتنك 5) اثنى عشر سؤالاً، وتلقى الأجوبة بعد شهر ونصف على ثمانية منها فقط، وقد لفت انتباهه أنهم لا يتعاملون إلا مع الأسئلة التي تتعلق بلقاحهم، ولا يخوضون كثيرًا في المقارنة مع الآخرين، ولا يهتمون بالإجابة عن القضايا العامة المتعلقة باللقاحات، مثل وجود فئة ليست بالقليلة لا تثق في أي لقاح.
ولعل من الطريف في قصته، أنه عانى كثيراً في سنوات الدراسة من مادة الرياضيات، وفي المرحلة الثانوية تخلّص من عقدته باختيار الدراسة الأدبية، وهَا هو اليوم يعيد اكتشاف نفسه، من خلال عمله في جريدة "الأخبار " المصرية، التابعة لمؤسسة أخبار اليوم، ومواقع عربية ودولية بارزة.

وقبل أن ندخل في حوار مراسلة مجلة "آفاق البيئة والتنمية" مع الصحفي حازم بدر، دعونا نتوقف عند تعريف "الصحافة العلمية"، فقد ورد في تقرير نشرته شبكة SciDev.Net، أنها بموجبها "يتم الحصول على المعرفة العلمية وتغطيتها في وسائل الإعلام بلغة مفهومة لغير المتخصصين. ويمكن للصحفيين العلميين الكتابة عن نتائج الأبحاث والابتكارات الجديدة، أو استخدام المعرفة العلمية الراسخة لشرح قضية اجتماعية أو موضوع شائع".

وتبعاً للشبكة ذاتها: "إن تقريرًا إخباريًّا عن أشخاص يصنعون أقنعةً قماشيةً للوقاية من كوفيد-١٩ ويبيعونها ليس بالضرورة قصةً علمية. القصة التي توضح لماذا وكيف يوقف القناع القماشي انتقال الفيروس أو لا يوقفه هو خبر علمي، سواء كان قائمًا على دراسة جديدة أم معرفة علمية راسخة".

التفاصيل التالية ستشد انتباه التّواقين إلى صحافة متخصصة، يَنأى الكثير من الصحفيين عنها، نتناول في ثناياها أسرارَ عملٍ مضنٍ من أجل جذب الناس إلى محتوى علمي رصين.

عَقبةٌ ولكنها مِيزة
لماذا شَغفتك حبًا الصحافة العلمية؟

لم تكن البداية شغفًا. دعيني أعترف أني اتجهتُ لها مجبرًا، فقد تخرجت في كلية الإعلام من قسم الصحافة في جامعة القاهرة، ثم عملتُ في جريدة الأخبار، والتحقت حينها بقسم أخبار الناس، وفيه يتفرغ العاملون لإنتاج "المنوعات"، تلك التي تشبه أخبار الصفحة الأخيرة في تناولها للمواد الخفيفة اللطيفة، وتهتم عادة بشؤون الثقافة والفن.
لم يكن من أحد في ذلك الوقت يغطي الموضوعات العلمية، بسبب طبيعتها الجافة وفق الانطباع المتعارف عليه بين زملاء المهنة،

ناهيك عن عدم انجذاب القراء لها.
وحينها اقترحت علي مسؤولة القسم أن أولي اهتماماً للأخبار العلمية، وعندئذ راقت لي فكرة أن أصنع لنفسي طريقًا خاصًا، على أن أخفف من دسامة وجدية هذه المواد، تشجعتُ لخوض التجربة، وبدأت في التنسيق مع المصادر التي تخدم هذا التوجه، ومن بينها المركز القومي للبحوث، ومركز البحوث الزراعية، والمراكز البحثية التابعة للوزارات المختلفة.

وكيف تطور مسار التجربة بعد ذلك؟
حدثت النَقلة عندما انضممت إلى القسم العلمي في موقع "إسلام أون لاين"، وفي تلك الفترة تحديدًا صقلتُ خبرتي، وبدأت أنتقل من مرحلة كتابة الأخبار السريعة الخفيفة إلى فنون أكثر عمقاً، وتشرفت بالعمل مع صحفيين مخضرمين يتمتعون بأعلى المهارات، وقد أصبحوا لاحقاً نجوماً لامعة في الصحافة العلمية وعلى رأسهم سيدة هذا المجال الأستاذة بثينة أسامة، ود.نهال لاشين، والصحفية القديرة رحاب عبد المحسن.

حقًا، أنا مَدينٌ بالكثير إلى مدرسة "إسلام اون لاين"، ففيها تشربّت أصول الصحافة العلمية، وتعلمت كيف تصبح النصوص مشدودة لا ترهلّ فيها، لتسلّم الفَقرات بعضها لبعضٍ بسلاسة، وتسنى لي مراكمة مصادر متجددة وغنية.
ومن ثم واصلت خوض التجربة في أكثر من صحيفة وموقع عربي، ومن بينها وكالة الأناضول، والعين الإخبارية، وصحيفة الشرق الأوسط اللندنية، وفي الأخيرة توسعتُ في مصادري، إذ قفزت إلى النطاق الدولي بعد أن كانت تقتصر عندي على المحلية والعربية، وأيضًا لفترةٍ لا بأس بها، كتبت في مجلة العلوم الأميركية.

ولا شك في أن فائدة جمة تلقيتها من رئيسة القسم في جريدة "أخبار الناس" فقد تتلمذت على يديها في كتابة العناوين الجذابة والمختصرة، والصياغة الجذابة السهلة، كما أن التحاقي بالدورات التدريبية أسهم في تطويري، وأذكر أني ذات مرة شاركتُ في واحدة، وكانت فائدتها حقاً تفوق سنوات الكلية، مع أن مدتها لم تتجاوز الشهر، إلا أني خضعت لتدريبات مكثفة على الكتابة بشكل مختلف في الفنون الصحفية كافة.

وعمومًا، إن العمل في الصحف والمواقع العلمية ينضج التجربة إلى حد كبير، فمن بعد كتابة خبر سريع لا يزيد عن فقرتين، أخذت شيئاً فشيئاً أتوسع في معالجة المعلومات وأستعين بمصادر على مستوى رفيع من الأهمية.

هل من حجارةٍ تعثّرت بها في بداية الطريق؟
شخصيًا، واجهت صعوبة واتضح أن ثمة ميزة في داخلها، كنت في مرحلة الثانوية قد اخترت القسم الأدبي، ولم يسبق لي الدراسة في كلية العلوم.

وفي البدايات عندما كنت أقابل الباحث ويسترسل في الحديث عن مبادئ أو مفاهيم يُفترض أن أكون ملمّا بها، عندئذ كنت بكل بساطة أفصح للضيف عن عدم فهمي للمعلومات التي أَدلى بها، وهنا تكمن الميزة حسب رأيّ: أنا والقارىء نتلاقى في مساحة مشتركة، كلانا ليس لديه سابق معرفة بالموضوع، في حين لو كنت صحفياً جاء من خلفية علمية عندئذ تلقائيًا كنت سأصيغ المعلومة دون تبسيط، اعتقادَا مني أن الجميع سيفهمها مثلي، وبحكم تراكم الخبرة أصبحت توجد أرضية ممهدة مع الباحث، ولم يعد من داعٍ لأن أستوقفه كثيرًا كما كان يحدث في السابق.

ما مدى اهتمام وسائل الإعلام العربية بالمحتوى العلمي؟
تلك صعوبة إضافية، بمعنى أنه ليس من السهل إقناع إدارات المؤسسات الصحفية بمدى أهمية هذا الجانب، الأمر يستحق أن نجاهد ليدرك أصحاب القرار أهمية إفراد مساحة للشأن العلمي، من شأنها أن تشكل حضورًا لافتًا وجاذبًا للمتلقي.
ويؤسفني أن الكثير من المواقع العربية لا تعترف بالصحافة العلمية أو تصنفها أولوية، وفي أحسن الأحوال يمكن أن تتناولها بشكل جاف كما هو الحال في جريدة الأهرام.

وبحسب تقييمي بدأ هذا الجانب بالتحسن، وهناك نماذج تستحق الإشادة، مثل صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، لديها ملحق علمي يصدر مرة أسبوعياً، ناهيك عن نشر أخبار علمية في الصفحة الأخيرة، والتغطيات العلمية المستمرة في ملحق "يوميات الشرق"، كما تنشر صفحتين يومياً تختص بجائجة كورونا.
وأرى أن "الشرق الأوسط" كونها وسيلة إعلام – غير متخصصة - تُعد التجربة الأكثر اكتمالًا في مواكبتها للمستجدات العلمية.
وما يسترعي الانتباه في الآونة الأخيرة، أن العديد من مواقع التواصل الاجتماعي، تتجه نحو نشر الأخبار العلمية الماتعة والمُبسّطة، وتستقطب عددًا لا بأس به من المتابعين.   

"كعب أخيل".. وربط العلم بالحياة
هلا أخبرتنا يا حازم عن شرطٍ - إن غاب - تنحرف الصحافة العلمية عن مسارها؟
التوثيق هو ما يجعلنا نأخذ المادة الصحفية على محمل الجد.
حجرُ الأساس، المعلومات الموثقة التي تجيب عن الأسئلة الستة بوضوح (ماذا- من- أين- متى- لماذا- كيف)، تماماً كما هو الحال في تقاليد العمل الصحفي إجمالًا.

وطالما أننا نتحدث عن أصول العمل الصحفي في الحقل العلمي، فإن تجربة موقع SciDev.Net، الذي يقرن العلم بالتنمية، تستحق كل تقدير، وهو موقع بريطاني لديه بوابة بالنسخة العربية، وما يثير إعجابي فيه مستوى الدقة والمهنية التي يتعامل بها، فمن ضمن طاقمه محرران يعملان على مراجعة وتنقيح كل شاردة وواردة، ومن غير الممكن أن تمر معلومة عليهما من دون أن يتحققا من دقة المحتوى العلمي ويتأكدا من صحة المقصود حتى لو اقتضى أن يُطلب مني إرسال النسخة الأولية من الأجوبة، ما ينعكس على نتاج صحفي احترافي نقي من الأخطاء.

ما المأزق الذي يمكن أن يتسبب به عدم التوثيق؟
يُعرِض عامة الناس عن الصحافة العلمية لسبب جوهري كهذا، عندما نقرأ خبرًا يَرد فيه "قالت دراسة أمريكية إن اللحوم مضرة"، وبعدها بيومين تصدر دراسة بريطانية تقول العكس، والسؤال: تُرى من الجهة البحثية التي أجرت هذه الدراسة أو تلك، وأين، وما طبيعة العينة التي اختبرتها؟ وكذلك الحال بالنسبة لفوائد القهوة وأضرارها، تلك الأخبار المتضاربة تصيب المتلقي بالحيرة من جراء عدم توضيح المصادر. ومرة أخرى، طالما أن الخبر لا يتضمن كامل التفاصيل، عندئذ هو والعدم سواء.

"الصحفي العلمي" ماذا عليه أن يتذكر في كل مرة؟
في هذا الملعب، المهارة الأساسية تكمن في القدرة على تبسيط المعلومة المعقدة، وهنا أطلب من كل صحفي يتطلع إلى الكتابة في هذا الحقل، بأن يعيد قراءة ما كتبه قبل النشر "بعين قارىء"، ويسأل نفسه "تُرى هل سيواجه صعوبة في الفهم؟، ومن المحبذ أن يعرض المقال على شخص عابر، ليرى إن كان قد نجح في التبسيط.
ولا بأس في أن أكرر: التبسيط ثم التبسيط وإلا سيعزف القارىء عن متابعة هذا النوع من المحتوى، ولا بد من ربطه بحياة الناس على نحو دارج حتى ننجح في جذبه.

ومن المُلاَحظ أن ثمة قاسم مشترك مع الصحافة الاقتصادية، أن البعض يحلو له الكتابة من برج عاجي بأسلوب لا يخلو من الاستعلاء، وهذا غير مقبول البتة، لا سيما إن كان يعمل في صحيفة عامة، على سبيل المثال تغطية جائحة كورونا، تستلزم منا بذل جهد من أجل وضع الجمهور في صورة التطورات بسلاسة.

  كيف يمكن الاستفادة من تجربة وسائل الإعلام الغربية في تغطية القضايا العلمية؟
أتابع الإعلام الغربي عن كثب، وأجده مهتماً بربط بعض المصطلحات بحياة العَامة من باب التبسيط، وقد استوقفني مؤخراً تعبير متداول تكرر كثيراً، "توصل الباحثون إلى كعب أَخيل" فيروس كورونا، وتساءلتُ عما يقصد به، حتى أن إعلامهم لا يرفق توضيحًا في سياق الخبر، مما يوحي أن التعبير دارج ومفهوم.

وتبين أن خَلفه، أسطورة يونانية لسيدة أرادت أن تحمي ولدها فوضعته في ماء مقدس عندئذ طالت كل جسمه عدا الكعب، وهكذا أصبح الكعب نقطة ضعف في طفل أخيل، وبالتالي عند استخدام هذا المصطلح اللطيف فإن المقصود: نقطة ضعف الفيروس.
ويا للأسف، أن الدقة والبساطة والربط بين البحوث والحياة، جوانب نغفلها في صحافتنا، التي تتكدس بمصطلحات صعبة لا يفهمها الجمهور العام.

وما أثمنه عند الغرب، أن الصحفيين يكتبون بطريقة بسيطة للغاية، وعادة عندما أعود إلى الدراسة الأصلية التي أُجري عنها التقرير أجدها معقدة، ويصعب على شخص غير متخصص فهمها، وفي المقابل عند قراءة المادة بعد النشر ألمس الجهد الذي بذله كاتبها من أجل تبسيطها، عبر ربطها بالحياة والأمثال الشعبية.
وعند الغرب أيضًا، لا يمكن تهميش المصدر بأي حال، ولو تناول الموضوع معلومات متشعبة عندئذ يشار إلى مصادرها تباعاً، في حين أننا نفتقد إلى ذلك في الصحافة العربية.

الباحثون الأجانب.. تعاون مثمر
في مجال ليس من السهل أن يتميز المرء به.. كيف وضعت بصمتك؟
فضلتُ أن أسير في اتجاه غير مألوف يميزني، والحمد لله أن وفقني لصياغة الأخبار العلمية التي تبدو في ظاهرها ثقيلةً زخمة، بشكلٍ لطيف بحيث يفهمها الشخص غير المتخصص بِيسر، ومن الجدير بالذكر أن برنامجًا إذاعيًا اسمه "أخبار خفيفة" كان كل صباح يقرأ الأخبار التي أنشرها، وذلك مدعاة للسرور أن الثقافة العلمية وجدت طريقًا للانتشار، وكلي فخر أن أكون أحد جنودها.
هذا النوع من العمل لا يتوقف فيه تطوير المهارات، يحتاج مثلًا إلى اللغة الإنجليزية المتمكنة، وها أنا أسعى بلا ملل إلى تطوير أدواتي، حتى لو اقتضى الأمر أن أستعين بأصدقائي الباحثين، فلا ضير في طلب المساعدة منهم بالشرح والتوضيح، حال تعذّر فهم معلومة.

وقد تعلمت خلال هذه الرحلة ألا أضع نفسي في موقف حرج، فيما لو سألني أحدهم عن معلومة كتبتها فمن غير المنطقي أن "أضرب أخماسًا في أسداس" وأكون جاهلًا أو عاجزًا عن تفسيرها. إذ من المهم أن يفهم الصحفي بشكل جيد فحوى الموضوع حتى يتمكن من التعبير عنه بأبسط صورة.

نجحتَ في تأسيس شبكة علاقات واسعة مع الباحثين على مختلف مشاربهم.. هل تواجه في التعامل مع المصادر غير العربية مشقة إضافية؟
(ضحكةٌ تسبق جوابه)..
على العكس تماماً، أؤكد لكِ أن تعاطي المصادر الأجنبية معنا كصحفيين من أروع ما يكون، لا سيما أن في جعبتهم ما يثري الموضوع ويعطيه حقه وزيادة.

ووفقاً لتجربتي وجدت منهم تقديرًا للصحفي الشغوف الباحث عن المعرفة، وعادة ما يتجاوبون بشكل أسرع من غيرهم، عند إلقاء الضوء على الدراسات القيمة التي يجرونها.
حتى أن إجابة السؤال الواحد قد تصل إلى 500 كلمة، وإذا رغب الباحث في التأخر عن الموعد المتفق عليه، يرسل اعتذارًا قبلها، ويطلب مهلة إضافية لإرسال التفاصيل. بالمختصر، هذه "المصادر" تقدّر بشدة قيمة العلم.
وقد صادفتني دراسات في غاية التخصص والدقة، ولا يخلو الأمر من حدوث لَبس وتوجيه سؤال يتضمن معلومة خاطئة، وحينها يدهشني أن يسارع الباحث إلى تصحيحها من دون أن يشعرني بالحرج.
وفي بعض المواد الصحفية، أرى أنه لو كان بمقدورنا التنويع بين المصادر المحلية والعربية والدولية فإن ذلك يعطيها ثقلًا.

وماذا عن مصادرك في الوطن العربي؟
سأكون صريحًا! لم تنل العلوم في الوطن العربي حظها كما يجب، ويندر أن نجد فيه مصادر علمية تفي بالغرض.
على سبيل المثال لو تناولنا التغير المناخي أو التطورات الراهنة في السلالات الجديدة لفيروس كورونا، وما يجري عليها من أبحاث، سنجد أن جلّ الباحثين في الوطن العربي يفتقرون إلى الإلمام المطلوب في هذا الجانب، ولا يتعدى الأمر غالبًا تصريحا روتينيا لكلام مكرر لا جديد فيه.

وعادة، عند استعانتي بالمصادر المحلية أكون واثقًا بحكم الخبرة من تمكنها في مجالها، وأميل إلى التنويع بينها وبين الدولية، وهناك مجالات لا يوجد أي احتمال للعثور على مصادر عربية فيها، مثل مجال الفضاء والفلك، وإن توفروا؛ هم ليسوا على مستوى من التبحر، وهنا لا مفر من اللجوء إلى مصدر دولي.

قضايا بيئية خطرة
متى شعرتَ بحلاوة الإنجاز؟
حدث ذلك لمراتٍ عدة. كان إحداها بعد أن وقعت عيني ذات صباح على خبر يتناول فوز باحث في كلية العلوم في جامعة الأزهر بجوائز الدولة التقديرية، ومن ضمن الأبحاث التي أهلته للجائزة "تحويل تراب الإسمنت إلى زجاج"، وفوراً تواصلت مع الباحث وأخذت منه التفاصيل اللازمة وكتبت خبراً جديدًا لطيفًا يجمع بين التسلية والفائدة.
لم تنتهِ القصة. سارعت بعدها إلى نشر تقرير موسع، وبعدها تواصلَت معي وزارة البيئة، وما لبَثت أن أنشأت مصنعًا للزجاج من تراب الإسمنت، وإذ بصدى مدهش من ردود الفعل، ومن هنا أيقنتُ أن الصحافة العلمية ذات قيمة وأثر عظيم ومن الممكن أن تعود بالفائدة على البلاد والباحثين.

وفي مرة أخرى، قرأت خبرًا لم يتجاوز السطرين، في صحيفة ما، عن "موظف في وزارة الزراعة ابتكر مركبًأ من الطحالب يزود إنتاجية فدان القمح من 25% - 30%".
أمسكت بطرف الخيط وعثرت على الباحث، ونشرت أكثر من مادة صحفية بخصوصه، وكانت فرحتي غامرة عندما اهتم المستثمرون خارج مصر بتطبيق المركب وتوفير بديل محلي عن المستورد، وهكذا أصبتُ الهدفين: تقديم مادة شائقة للقراء، وخدمة المجتمع.
وكذلك، في تقاريري أحب أن أشجع على التجارب الشبابية ذات البعد العلمي، مثل تقرير عن استخدام قشور الجمبري في منتجات مهمة.

هل من قضايا بيئية ترى أنها يجب أن تُثار على أوسع نطاق وفي أسرع وقت؟
في الواقع هناك الكثير. تستفزني مثلًا ظاهرة استخدام المواطنين في ليبيا، للأنابيب العادمة أو ما يعرف بــ "شكمنّات" السيارات- والتي تحتوي على معدن سعره غالي، حتى أن صفحات على "السوشيال ميديا" تشجع الناس على نزع "الشكمنات" ومن ثم بيع المعدن، ومجدداً يعاد تصنيعه في الخارج لإنتاج الشكمنات.

لقد صُدمت بمستوى الاستهتار الذي يتعامل به الناس، غير مبالين بانبعاث الدخان غير المُعالج في الهواء، ما يشكل خطورة بالغة، ويا للأسف أن استخفافًا يفوق الحد فيما يتصل بالقضايا البيئية التي تتطلب حلولًا جذرية وعاجلة.
ومن جهة أخرى، في مصر تُجرى الكثير من الأبحاث التي تشجع على الاستفادة من "قش الأرز" في منتجات كثيرة، في محاولة للحد من ظاهرة حرق المخلفات الزراعية الناتجة من محصول الأرز، وما ينتج عنه من تلوث للبيئة، إلى درجة أن الصحفيين ملّوا من تناول ما توصل إليه الباحثون من حلول لاستثمار قش الأرز، لسبب بسيط، أنه لا يوجد أي تطبيق عملي يُذكر، بسبب غياب الوعي البيئي واستبعاده من قائمة الأولويات، وكلنا أمل أن يتغير الحال.

"كورونا" خبرة جديدة 
بات لديك رصيد وافر من تغطيات شاملة ومتلاحقة لأبحاث فيروس كورونا.. هذا الحدث الذي أثرّ على العالم أجمع.. ماذا صقل في تجربتك؟

عشنا وتعايشنا جميعًا مع الآثار السلبية لهذا الفيروس، وقد أثر ّبطبيعة الحال على الاقتصاد، وبسببه فقد الكثيرون مصدر دخلهم، إلا أن "كورونا" أنعشت قطاع الصحافة العلمية، ومنحت النشاط في حقل العلوم زخمًا واضحًا، كما نبهت وسائل الإعلام التي نعمل بها إلى مدى قيمة العلم وأهمية الاستثمار فيه عبر تأهيل كادر متخصص قادر على مواكبة مجرياته.

على المستوى الشخصي، كانت هذه المرة الأولى التي أكتب فيها بشكل متخصص ومتعمق في موضوع الفيروسات، وبدأت أفهم ماهية عملها وكيفية اقتحامها للخلايا البشرية، ناهيك عن أن بعض المصطلحات التي أنتجتها الجائحة صارت متداولة في وسائل الإعلام، حتى أن القراء لم يعودوا بحاجة إلى توضيحها، مثل بروتين الأشواك أو ما يطلق عليه "سبايك" الذي يُعطي الفيروس الشكل التاجي الشهير، وهو البروتين المسؤول عن التصاق الفيروس بالخلايا البشرية، إذ أن إعداد اللقاحات كلها يعتمد على هذا البروتين.
وللمرة الأولى أدرك تفاصيل ما يُعرف بــ "تقنية اللقاحات" التي تعتمد على الحمض النووي الريبوزي مثل لقاحات فايزر وموديرنا، وما كنت لأعرف تقنية كهذه لولا الجائحة، وكذلك الأمر بالنسبة لتقنية الناقلات الفيروسية واستخدامها في إنتاج اللقاحات، مع أنها موجودة منذ سنوات في روسيا وجامعة أكسفورد.

يؤسفني القول أن هذا الحدث الجلل كان فرصة رائعة بالنسبة لي للتعرف على تقنيات جديدة.

أي نوع من الأبحاث تَهمِّ بحماس للكتابة عنه؟
كل بحث يثير اهتمامي ويدعو قلبي ولساني لأن يلهجا بالتسبيح، لا أتردد في تناوله، بخلاف لو كان البحث عادياً ويرصد نتيجة متوقعة.
وكان آخر بحث جعلني أتوقف لأقول من أعماقي "سبحان الله"، دارَ حول ما قام به فريق بحثي أميركي من إعداد نموذج مصغر للدماغ البشري باستخدام الخلايا الجذعية متعددة القدرات، بحيث يمكن استخدامه معملياً في دراسة الأمراض التنّكسية العصبية، ويُمّكنّهم هذا النموذج من دراسة الأمراض العصبية على نحو أفضل، واختبار الأدوية والعلاجات ذات الإمكانات السريرية.

ما نصيحتك لصحفي حديث عهدٍ؛ يود اللحاق بهذا الركب؟
أقول أنك يا بني ستتعب كثيرًا في البدايات. لا عليك! حتى لو لم تدرس سابقًا في فرع علمي، سيستغرق الأمر بعض الوقت إلى أن تتمكن من الوقوف على أرض صلبة وتصبح مطلعاً على مجريات العمل في الأبحاث العلمية.
ابذل جهدًا مضاعفاً لتؤسس نقاشًا بنّاءً مع أهل الاختصاص.

طورّ مهاراتك في اللغة الإنجليزية لأنها ستساعدك في نسج علاقات مع الباحثين خارج المنطقة العربية.
وأقول أيضًا: تابع ما ينشر من مقالات وتقارير في المواقع العلمية المهمة من أجل مستوى مهني لائق.
اِفعل ما سبق وفي نهاية المطاف ستحصد ثمار جهدك بمتعة، بعد أن تصنع التغيير في الميدان.

أخيراً، ماذا تتوقع أن يخرج من قُبعة الساحر خاصتك، للارتقاء بهذا الحقل؟
أتمنى أن أصوغ تجربتي الخاصة عبر تأسيس موقع، أنشر فيه محتوى علمي يشد عامة الناس، ومن جهة ثانية آمل أن تفرد جريدة الاخبار المصرية التي أعمل بها، صفحة للعلوم، فقد أثبتت جائحة كورونا أنه لا يجوز لنا تجاهل المحتوى العلمي وتطوير العلوم، وإذا ما استمر العالم العربي في مراوحة مكانه؛ فإنه لن يتجاوز خَانة المتلقي.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير