مطار قلنديا.. رحلة الجسر والشخصيات المهمة

10.08.2015 09:01 AM

كتب: غسان زقطان

في الطريق بين رام الله والقدس، قبل المرور عبر "حاجز قلنديا"، الذي اكتسب اسمه من قرية قلنديا والمخيم المجاور لها ثم أضيف إليه "حاجز قلنديا" الذي يفصل القدس عن شمال الضفة، يمكن ملاحظة سياج يحيط بالمدرج والمبنى القديم لمطار القدس/ قلنديا الذي أنشأه البريطانيون في فترة انتدابهم لفلسطين، قبل أن تنتقل الضفة الغربية لتصبح جزءاً من المملكة الأردنية في مطلع الخمسينات، حيث واصل المطار الصغير عمله في خدمة المسافرين من مناطق الضفة الغربية.

بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية تمت مصادرة المطار بنفس الطريقة التي يمكن بها مصادرة حقيبة مهربات، بحيث تحول إلى منطقة عسكرية منع استخدامه من قبل الفلسطينيين، واستخدم بدل ذلك للرحلات السياحية والداخلية في إسرائيل، إضافة لأغراض عسكرية.

لا أظن أن هناك مطاراً يتمتع بطاقة الحب التي تحيط بهذا المطار الصغير وتتنقل حوله، كما لو أنه الابن الغائب الذي يواصل بعث رسائله للعائلة بدأب ابن حسن التربية.

وبينما كان المسافرون من الفلسطينيين ينتظرون بيأس أمام مكاتب الارتباط للحصول على تصاريح مرور نحو مطار اللد، أو أولئك الذين يتوجهون إلى مطار عمان في الأردن قاطعين جسر الأردن في واحدة من أغرب نقاط الحدود في العالم وأكثرها عبثية، كان بإمكانهم رؤية المدرج والمبنى القديم للمطار أثناء مرورهم، وقبل أن يباشروا الهبوط المضني نحو الأغوار في طريقهم إلى الجسر، وهو يختفي خلف الجدار.

يبدو مطار قلنديا/ القدس نقطة غامضة في ملفات المفاوضات، وليس ثمة إشارات واضحة على المطالبة به، فيما يشبه قصة موت معلن يتداخل فيها التجاهل الرسمي واللا أبالية والرغبة الساعية للقتل.

لو استثنينا المطالبات الشعبية التي تحولت إلى حلم جماعي تتجاوز مجرد الحديث عن مدرج وبرج ومبنى ومحطة سفر واستقبال، وتذهب أبعد في الحنين إلى زمن مختلف ما زال يتفتح هناك في صور بالأبيض والأسود لمضيفات جميلات وطيارين شباب ومسافرين وصلوا للتو من بيروت.

تلمع ذكريات السفر البسيط في مخيلة الناس هنا وكأنها تستحضر القاهرة وبيروت على وجه الخصوص في ستينيات القرن الماضي. كما لو أنه استعادة ذلك التكوين البسيط للمطار والطائرات بمراوحها التي تفتح أبوابها على سلالم متنقلة لتهبط منها فاتن حمامة وعمر الشريف في طريقهما لحضور مهرجانات الصيف في رام الله.

وكل هذا، عودة الزمن وعودة الناس إلى شبابهم، مرتبط بعودة المطار ولافتته القديمة التي تتجول في مخيلة الناس وذكرياتهم.

لعل ما يستدعي هذا الزمن ويمنحه قوة مضاعفة هو "تراجيديا السفر" التي يعانيها الفلسطينيون في محاولتهم للوصول للعالم الخارجي، حيث تتحول تلك الرغبة الإنسانية في التماس مع العالم إلى منطقة صيد غنية تنفتح فيها المخيلة العنصرية للاحتلال، وتتغذى عبرها منظومة القهر التي نسجتها إسرائيل حول الفلسطينيين، المنظومة التي تهدف من خلال أدوات متصلة وإجراءات لا نهائية تحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم.

لو استثنينا حركة احتجاج مدنية وحيدة أطلقت على نفسها اسم "الكرامة" سيكون من الصعب فهم الهدوء الذي تتعامل فيه الجهات الرسمية الفلسطينية مع سلسلة العقوبات الجماعية التي تفرضها سلطات الاحتلال على المتنقلين بين ضفتي نهر الأردن، والتي تصل إلى درجات قصوى من الإذلال والمزاجية وفي غياب مطلق لأي نوع من أنواع الرقابة أو الحد الأدنى من الحقوق التي ينبغي أن يحصل عليها المسافر، أي مسافر.

والتي تبدأ من فكرة الحرمان من استخدام المطار وتتواصل في الحرمان من استخدام وسائل النقل الخاصة والاكتفاء بالحافلات، حيث تتسع الهوة بين الحياة العادية بتفاصيلها الصغيرة ذات الشأن وبين الحياة التي يقترحها الاحتلال بحمولاتها العديدة التي تطغى على العادي وتتأسس عليه، من شبكة الحواجز إلى جدار الفصل مروراً بالمعابر والمستوطنات وعمليات الدهم والاغتيال والطرق الالتفافية.. إلى ما لا نهاية، في عمليات انتاج متصلة، المستوطنة تنتج الطريق الالتفافي والطريق تنتج الحاجز والحاجز ينمو ليصبح جداراً، وكل هذه الفلسفة السوداء تتجمع في المعبر.

هناك نظام كامل يواصل بناء نفسه خلف هذه الاجراءات، نظام يشكل نواة ثقافة الاحتلال ويكونها ويتغذى منها في الوقت نفسه.

مجموعات من المراهقات المكتئبات والمراهقين المسلحين وموظفي شركات الأمن الخاصة يبدأون بالظهور بمجرد انفتاح البوابة الحديدية الملاصقة لـ "مشروع العلمي" والتحكم بحاجات الفلسطينيين الذين عليهم أن يعبروا إلى الأردن أو منه، حرس الأجهزة والآلات وأجهزة الكشف على الحافلات والأشخاص والأمتعة الموزعة تبدأ بالظهور مثل كمائن مدروسة، يواصلون دون رأفة مطالبة "العابرين" بخلع معاطفهم وستراتهم والمعادن المضافة إلى أجسادهم يساعدهم في ذلك سائقو الحافلات وحمالو الامتعة، تحت انظار المراهقات الملولات والأولاد الذين يشهرون أسلحتهم دون مناسبة، بينما يتعثر المسافرون وهم يجرون أنفسهم وأطفالهم، في تنقلات لا نهاية لها واجراءات وأوراق تنبع أمام كل نافذة، بين حافلة وحافلة وبين جهاز وآخر، دون أن يتوقفوا عن خلع ملابسهم أمام الماكينات التي لا تتوقف بدورها عن الرنين.

حين يصل الناجون من المعبر إلى كومة الحقائب الملقاة خارج كل شيء، في المحطة التي تسبق التوجه للجانب الأردني، ويبدأ التدافع المؤلم للحصول على مساحة للحقيبة ومقعد لحاملها في نفس الحافلة، حيث ينتظره نمط آخر واجراءات أخرى ووقت ضائع آخر، من غير الحكمة محاولة تقديره أو فهمه، ستكون الذاكرة قد دونت كل هذا كجزء من "عادية" الحياة في هذه البلاد.

بين البوابة الحديدية في أريحا والخروج من قاعة المسافرين في الجانب الأردني زمن ضائع تماماً، وقت خارج الزمن ومكان خارج الأمكنة.

لا أدري إذا ما حاول كبير المفاوضين الفلسطينيين، الذي أصبح أميناً لسر اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير، أو وزير الخارجية الذي أصبح شبه مقيم في محكمة الجنايات الدولية، أو آخرين كثر فكروا بمناقشة مثل هذا الموضوع الأول على طاولة المفاوضات والثاني في الملفات التي يحملها للمحكمة، هذا السؤال يجد نفسه بعد أكثر من عقدين من السنوات على توقيع اتفاقيات أوسلو.

مثل هذا التجاهل والقفز عن القضايا الحياتية للناس، تلك المتعلقة بيومهم وحاجاتهم الطبيعية كحق التنقل على سبيل المثال، مثل هذا التجاهل هو الذي يفقد الناس ثقتهم بممثليهم، فشل هؤلاء الممثلين في التعبير عن هذه الحاجات يدفع الناس الى تجاهل خطاباتهم وعدم الالتفات إلى أيديهم التي تلوح بلا انقطاع وتؤشر وتتحدث وتسهب في وصف "حقوق شعبنا"، والحديث عن "عروبة القدس" وعاصمة الدولة المستقلة إلى آخر هذه البلاغة التي تحاول تغطية الفشل في التفاصيل عبر مواصلة الحديث عن القضايا الكبرى.

فكرة الاحتجاج الرسمي تبدو غائبة تماماً هنا، وهو ما يعزز انفصال هؤلاء الناس عن المكان والزمن، ويحولهم إلى سعاة بريد بين قوانين الاحتلال والشارع الفلسطيني.

أتحدث عن الاحتجاج بمستواه البسيط كأن يرفض حملة بطاقات الشخصيات المهمة التسهيلات الممنوحة لهم من قبل الاحتلال، إذ يصعب، أيضاً، فهم قبولهم ومطالباتهم المتكررة لهذه البطاقات وتصنيفها ودرجاتها، بينما يتعثر الآلاف من أبناء "شعبهم" على طرقات الغور ويتعذبون لساعات طويلة داخل الحافلات، ويتعرضون لإهانات المراهقات والمراهقين من أجهزة وشركات الأمن الاسرائيلي في محطات المعبر، ويتدافعون للبحث عن حقائبهم التي ألقيت في ساحة لا معنى لها، أو وهم يدفعون ضرائب خيالية لمجرد خروجهم من بلادهم.

المصدر: موقع 24

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير