آخر شهداء الأندلس والأنكى أن "داعش" يتوعد باستعادتها

25.05.2015 05:48 PM

وطن - وكالات: نظر استيفان ليرى إنْ كان الوحيد الذي يستغرب ما يسمعه، فالشرح لم يركب في رأسه فوق مناظر التحف المعمارية التي يراها الآن في مدن الأندلس. لتفادي عسر الهضم الذهني هذا، عاجل الدليل السياحي خوسيه بالتعليق: "لنرى بحسابات رياضية بسيطة، الإسلام صنع تاريخ هذه المدينة لفترة أطول مما فعلت المسيحية، ثمانية قرون للإسلام. أما المسيحية فلها خمسة قرون".

مع ذلك، بقيت الشكوك تحوم فوق أحاديث مجموعة السياح التي تعبر مدينة ملقة، ضمن جولة ستقودهم إلى غرناطة وقرطبة واشبيليا. طبعاً يمكن فهم هذه الحيرة التي تأتي من تناقض فاقع: أوروبيون يسمعون أنّ ذلك الإسلام الغابر صنع محمية للجمال والسحر، باتت تشكّل أهم مواقع الجذب السياحي في إسبانيا. لكنهم يرون في شاشات التلفزيون "مآثر" وحشية لـ "داعش" وأخواته، مع مشاهد مقاتلين ظلاميين يرفعون رايات إسلامية حملها فاتحو الأندلس أنفسهم. الأنكى أنّ بعض مقاتلي "داعش" الإسبان يتوعدون... "باستعادة الأندلس"!.

على أية حال، حسابات خوسيه تزيد قابلية استيعاب انتشار أسماء الشوارع والساحات المشتقة من العربية. لكن هذا التكريم وإعادة الاعتبار النسبي، ليسا إلا "مصالحة" حديثة العهد بين إسبانيا وماضيها الأندلسي الإسلامي.

لم تتبدّد بسهولة قرون من الإنكار والتشوية لصنّاع هذا الماضي، برغم المنجز الحضاري الاستثنائي الذي لا يمكن التعتيم عليه. لكن مع الوقت، أدركت إسبانيا أنه يمكن الاستفادة من غنى الاختلاف والتنوع اللذين صارا ماركة جديدة للاستقطاب السياحي وشعاراً يسوق وحدة أوروبا الحديثة.

هذا الانفتاح العام بالكاد عمره ثلاثة عقود، هي عمر الديموقراطية الإسبانية الحديثة من بعد سقوط حكم ديكتاتورية فرانكو وذيولها. خصوصية الأندلس كانت بدورها ضحية دعاية فرانكو للهوية القومية الإسبانية، ليقضي على نزعات أصيلة تطالب بالفدرالية والحكم الذاتي على طول بلاده.

إقليم الأندلس مشغول الآن بتكريم أحد أبرز من حاربهم الديكتاتور بلا رحمة. إنه السياسي والمؤرخ وعالم الموسيقى بلاس انفانتي، الذي أعلنه برلمان الإقليم رسمياً سنة 1983 "أب الوطن الأندلسي". الرجل أعدمه جنود فرانكو سنة 1936 بعدما دافع بإصرار عن خصوصية الهوية الأندلسية، القائمة على تاريخ من التنوع والاختلاف، وحاجتها إلى حكم ذاتي يحتضن فرادتها.

دارت عجلة التاريخ وصار فرانكو من الماضي، في حين تحوّلت مملكة إسبانيا إلى نوع من الفدرالية. تم إقرار الحكم الذاتي لـ17 إقليماً، بات لكل منها حكومة وبرلمان. هذا الواقع كان أحد أبرز مطالب انفانتي، ولذلك يحتفل إقليم الأندلس باعتزاز هذه السنة بذكرى ميلاده الـ130.
ما يسجل لهذا المفكر أن الانحسار بالأندلس جعله يسبح ضدّ التيار المهيمن لمحاربي ماضيها الإسلامي، إذ لطالما تغنّى بـ "تنوير" مسلمين بنوا حضارة "جزيرة الإنسانية" كما سمَّاها. خلاصة هذه الأفكار ستصدر بطبعة حديثة، لأنّ حكومة الإقليم ستعيد للمناسبة نشر مذكراته ورسائله ومؤلفاته.

سيطالع الجمهور الإسباني مثلاً تساؤل إنفانتي: "كيف استطاع طارق بن زياد مع 1400 رجل التقدم بسهولة في بلد قاوم غزاة جبارين"، ليجيب بنفسه أنّ الفضل كان لفلسفة متسامحة عمادها "الحفاظ على الأرض والممتلكات والدين" لأهل تلك الأرض.

مع ذلك، لن يكون غريباً أن يُصدَم اليمينيون الإسبان بعبارات ملهمة أطلقها المؤرخ. يكتب متأملاً جوهر ما حدث بعد انتصار الممالك المسيحية على الحكام المسلمين: "لقد تم تدمير تاريخ الأندلس المجيد على يد البرابرة الأوروبيين والاستبداد الكنسي"، مذكراً بأنّ ثمن ذلك كان غالياً لأن "الأندلس كانت القنديل الوحيد المضاء في ليل القرون الوسطى".

لم يفعل هذا المؤرّخ سوى إيجاز كثافة ما حصل فعلاً، فسنة سقوط غرناطة 1492 كانت حالكة السواد لكثيرين من أبناء المملكة الأندلسية. الملوك المسيحيين المنتصرين أعلنوا مرسوماً يقضي بوجوب اعتناق المسيحية لكل من يبقى على أرض الأندلس، مطلقين حملات الاضطهاد والقتل التي طالت المسلمين واليهود والغجر.

كانت لدى "أب الأندلس" الشهيد رواية كاملة حول إسهام الأندلسيين المسلمين. برغم الاختلاف على أصل موسيقى وغناء "الفلامنكو"، إلّا أنّ إنفانتي وقف خلف فرضية واحدة: الإصرار على أنّ التسمية أصلها مصطلح "فلاح مينكو" (الفلاح المطرود)، وفق لغة عربية اختلطت بلغات المنطقة، قبل أن يتم ادغام الكلمتين لاحقا لتصيران "فلامنكو".

بعض تفاصيل رواية إنفانتي تضمنها كتابه "أصول الفلامنكو وغناء الجوندو". يبين فيه أن "فلاح منكو" يشير للمزارعين المسلمين الذين اندمجوا بقبائل الغجر هرباً من الاضطهاد الديني. يدلل عالم الموسيقى أيضاً على أن مسلمي الأندلس الفارين "دمجوا التلاوة القرآنية مع شعور من الحزن والألم من الخسارات". هكذا برأيه تشكّل "الفلامنكو" متعشّقاً بألحان الغجر الراقصة، ليصير رمزاً لما أسماها "الجودة التحررية والفردية الأندلسية".

في حين يستغرب سياح أوروبيون التناقض الصارخ لكل هذا مع ظلامية "داعش"، هناك آخرون تعينهم "الخصوصية الأندلسية" لفهم إشكالية متصلة. كان هنالك طبيب سوري ألماني عائد من غرناطة، ويتحدث عن ضمور "فوبيا الإسلام" والمهاجرين في مدن الأندلس، مقارنة بسواد المدن الأوروبية الأخرى. يقول مقدماً تفسيره الشخصي: إنّ أهل الأندلس الآن "يعرفون أكثر لأنهم يعيشون كل يوم أمام تراث حضاري جميل صنعه مسلمون". هؤلاء ربّما لا يحتاجون من يذكرهم بأنّ البرابرة يمرقون في التاريخ، من دون أن يجمعهم لا دين ولا قومية.

تصميم وتطوير