في الظروف الاستثنائية نحتاج مبادرات للصمود

23.04.2024 03:48 PM

وطن- سعد داغر 


دعتني "أنتانيدا مخايلڤنا" ذات السبعين عاماً، للمشاركة في حفل عيد ميلاد ابنها، الذي كان عمره من عمري تقريباً. أخذتُ باقة الورد وركبتُ سيارة الأجرة حتى وصلتُ بيتها. كانت تناديني "بُني"، فهي معلمتي التي علمتني اللغة الروسية في تلك الأشهر الأولى لوصولي للاتحاد السوفياتي، وكانت علاقتنا مميزة، لعل سبب ذلك هو التعاطف معنا كفلسطينيين، وهي التي شاهدت آثار العدوان الأميركي الإجرامي على فيتنام، خلال فترة عملها هناك، لمدة عشرين عاما كمبعوثة من طرف حكومتها، لتقديم الدعم للشعب الفيتنامي، وهي المؤيدة لحق الفلسطينيين في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي. 

في السنين اللاحقة، ومع بدء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، كانت تواظب على دعوتي لمكتبها لتسألني عن أحوال فلسطين وعن المظاهرات وعن حال الأهل. في ذلك اليوم، عندما دعتني للحفل، لم أكن بعد أتقن اللغة الروسية، حيث لم يمض يومها على وصولي سوى أشهر معدودة. كانت على الطاولة مأكولات متنوعة، ومنها الكثير مأكولات تم تخزينها من عام أو عامين مضيا. احتفلنا في البيت متوسط المساحة، أكلنا وشربنا العصائر، تحدثنا وكان ما أثار فضولي، اللحمة المحفوظة منذ زمن في عبوات زجاجية، فسألت: أين وكيف ولماذا تحفظونها؟ وكان الجواب: "صينوك" (أي يا بُني باللغة الروسية)، نحن مررنا بالحرب العالمية الأولى، وبالثورة عام 1917، وبالحرب الأهلية لاحقا في العشرينيات (القرن الماضي) وآخرها الحرب الكبرى (الحرب العالمية الثانية). في هذه الحرب وما سبقها من حروب، تعلمنا تخزين طعامنا لنبقى قادرين على الحياة في ظروف الحصار ونقص الإمدادات الغذائية. 

ومنذ تلك الحرب ونحن نخزن الطعام ونحسب ما يكفينا لأشهر طويلة وربما لسنين. قلت: لكن الحرب انتهت منذ أربعين عاماً! فلماذا تستمرون بذلك وأنتم دولة قوية وآمنة؟ فأجابت: تعلمنا أنه من غير المستبعد عودة تلك الظروف، والحروب لم تتوقف عبر التاريخ، فربما الحرب تعود إلينا، لكن الأهم: نحن بما نفعل نشعر بالأمان، توفرُ الغذاء المحفوظ يبعد عنا شعور الخوف من الجوع.

اصطحبتني في تلك الليلة إلى القبو الذي أرى مثله لأول مرة في حياتي، لأشاهد هناك ما أذهلني من كميات وأنواع طعام مخزنة: البطاطا والبطاطا الحلوة، والملفوف الأخضر والأحمر، ومخلل الملفوف، واللحوم المحفوظة بالدهون، والحبوب، والمخللات، والبصل، والثوم، الفطر والكثير الكثير. بعض ذلك الطعام كان من إنتاجهم كالبطاطا والملفوف بأنواعه والبصل والثوم وبعض الحبوب. إذاً، في زمن السلم، عادة تخزين الطعام هناك متواصلة كنهج حياة مستمر.

عادت هذه الصورة لذاكرتي (وربما لم تغب عني) منذ بدء حرب المجازر البشرية الجماعية الإسرائيلية على أهلنا في غزة، والتي قد تنتقل بشكل مغاير قليلاً إلى الضفة الغربية، والسؤال هنا: كيف هو استعدادنا نحن الفلسطينيين للبقاء والصمود وتوفير الغذاء، ونحن في زمن الحرب الممتدة؟ 

لعلنا في زمن حرب التجويع على أهلنا في قطاع غزة، والحرب على الضفة الغربية، بحاجة إلى رسم استراتيجية صمود أسرية، تجعلنا قادرين على مواجهة الحرب متعددة الأوجه، التي لم تتوقف يوماً منذ سيطرت الحركة الصهيونية على فلسطين التاريخية. فالأرض في الريف ومحيط المدن متوفرة، وفي التراب الآن ما يكفي من الرطوبة اللازمة لإنتاج الكثير من المحاصيل التي نحتاجها ويمكننا تخزينها بأشكال مختلفة: بالتجفيف والتخليل، والطبخ والتصنيع الغذائي المنزلي.

إنها الفترة الذهبية من السنة، وفصل مميز للزراعة، وعام جادت فيه السماء علينا بالغيث الكافي الذي روى تراب الأرض العَطِش، لبدء موسم زراعي يسند صمودنا في زمن الحرب المتواصلة، زمن ترتوي فيه الأرض بالماء وأكثر بالدماء. فماذا نفعل، وماذا نزرع؟ 
هذه أيام نزرع فيها بعلاً، الكوسا البلدي، والفقوس والبامية، واللوبيا والعصفر، والحمص، والبطيخ والسمسم وغيرها من المحاصيل الممكن زراعتها. هذا وقت نجمع فيه الكثير من الأعشاب والنباتات البرية، نجففها لنستخدمها في تغطية التربة حول الأشتال والنباتات المزروعة، لتوفير أكبر قدر من الرطوبة لأطول فترة ممكنة، هو وقت نستخدم فيه معارف وتجارب من سبقونا وتجارب غيرنا، لنزرع وننتج ونحصد ونخزن من المونة ما نحتاج لمواجهة ما نعيشه من واقع قاسٍ قد يمتد ويمتد وستزداد قساوته. 

الأراضي التي تعتمد على مياه الغيث كثيرة وواسعة، في الريف وحول المدن، حيث يمكننا نسج أحزمة غذاء، تساعدنا على الصمود، أمام حرب التجويع، فما يعانيه الأهل في قطاع غزة، قد ينسحب يوماً ما على الضفة الغربية، وليس احتفال اليهود المتطرفين بتسلم قطعة السلاح رقم مئة ألف على المستوطنين في الضفة الغربية، إلا تحضيراً لحرب المستوطنين الكبرى علينا في الضفة الغربية، حرب سيكون الحصار والتجويع أحد أدواتها، إلى جانب القتل والحرق والترويع والتدمير؛ أدوات الاستعمار التقليدية.

في بساتين الزيتون إلى جانب أراضٍ أخرى غير مزروعة، مساحات كبيرة يمكن أن نعيد فيها تقاليد الآباء والأجداد، حين كانوا يستفيدون من كل مترٍ مربع من الأرض. اليوم قادرون على العودة، وربما نحن مرغمون، لزراعة وإنتاج الغذاء، من أرضٍ أطعمت من سبقونا، وقادرة على إطعامنا، إذا أحسنا العلاقة بها. فالفراغات بين أشجار الزيتون يمكننا زراعتها بالباميا واللوبيا، والكوسا والفقوس، والبندورة البلدية والعصفر، كل ذلك يمكن زراعته بالقليل من الماء. وليس هناك من معيق للزراعة هذه سوى مشكلة الخنازير البرية، التي تتطلب تدخلاً من المؤسسات التنموية، ومساعدة الفلاحين لحماية الحقول الجاهزة للزراعة، وهي عملية سريعة التنفيذ وغير مكلفة لتأهيل الأراضي وتهيئتها للزراعة بالتسييج فقط، إذا ما قورنت بمشاريع الاستصلاح المكلفة، التي لها ضرورة في بعض المناطق، لكنها تتميز بتكاليفها العالية وتحتاج لوقت أطول. 

وحيث هناك المياه، في الأراضي المحيطة بالينابيع، أو إذا توفرت برك وآبار جمع مياه الأمطار، الفرصة أكبر لتنويع المحاصيل للموسم القادم، فإلى جانب ما يمكن زراعته بعلاً، لدينا القدرة على زراعة الفلفل والباذنجان، والخيار والكوسا، والفاصوليا والذرة ودوار الشمس، وكل ما تم ذكره يمكن تخزينه بأشكال مختلفة، لنحقق اكتفاء ذاتياً على مستوى الأسرة في بعض المحاصيل والمنتجات. 
من أين نبدأ ليكون الموسم الزراعي ناجحاً؟

لعل المسألة الأهم الآن تتمثل في الإبقاء على الرطوبة داخل التربة لأطول فترة ممكنة، كي يمتد موسم الإنتاج أيضاً لأشهر طويلة ولنحصل على الإنتاج الوفير. ولتتحقق هذه الغاية هناك طريقتان: الأولى هي الطريقة المألوفة بتكرار الحراثة مرات عديدة، للتقليل من تبخر الماء من التربة، والطريقة الثانية، تتمثل في تغطية سطح التربة بطبقة سميكة من القش والمخلفات النباتية المختلفة. في الحالة الأولى تتراجع كثيراً خصوبة التربة، بسبب الفقدان الكبير للمادة العضوية من التربة بسبب الحراثة، حيث أن الحراثة تؤدي إلى إدخال كمية كبيرة من الأكسجين للتربة، وهذا ما يجعل الكربون، الذي يشكل أساس المادة العضوية، يتحول إلى غاز ثاني أكسيد الكربون بسبب تفاعله مع الأكسجين، لينطلق إلى الجو، وبالتالي نخسر الكربون ونفقد المادة العضوية التي تمثل المؤشر الأساس لخصوبة التربة، إضافة إلى التأثيرات السلبية الأخرى للحراثة على التربة كتشكيل الطبقة الصماء في داخلها، هذه الطبقة التي تحد من قدرة الجذور على التمدد للأعماق داخل التربة، وتمنع تسرب الماء للأعماق وتزيد من تملح التربة. 

غير أن الحراثة، ما زالت الطريقة الأكثر شيوعاً عند المزارعين، حيث ورثوها عن السابقين واعتادوا عليها، ومن الصعب على الكثيرين تغيير منهجهم، خاصة في الزراعة التي تعتبر أكثر القطاعات الاقتصادية محافظة على التقليد، والتغيير فيها ليس سهلاً، خاصة عند الحديث عن تقليد زراعي ممتد منذ عقود، رغم ثبوت أنه تسبب في تدهور الأراضي وموت التربة على المستوى العالمي. 

البديل الذي يحفظ الرطوبة لفترة طويلة داخل التربة دون التسبب بالأذى لها، يتمثل في تغطية سطح التربة بالمخلفات النباتية والأعشاب الجافة، وزيادة المادة العضوية في التربة، التي تعمل كالإسفنج بامتصاصها للماء والاحتفاظ به، وبالتالي إمداد النباتات بحاجتها من المياه.
تُظهر الوقائع أن الكثير من أبناء الفلاحين أصبحوا فاقدين للمعرفة الزراعية اللازمة التي تمكنهم من العودة للفلاحة وزراعة ما تبقى من أراضيهم، لإنتاج بعض الغذاء، لا سيما الزراعة البعلية، حيث تبرز هنا الحاجة إلى تقديم الإرشاد والتدريب، والأهم من كل ذلك تنفيذ مشاهدات زراعية، وتحديداً في مجال الزراعة البعلية، التي تتطلب معارف ومهارات خاصة.

هذا الجانب الذي بات شبه غائب عن برامج الإرشاد والتدريب، على الرغم من أن الزراعة البعلية، تشكل ما يزيد عن 90% من الزراعة الفلسطينية، لكنها لا تحظى بشيء من التدريب والإرشاد، إلا القليل جداً، خاصة بعد أن أخذت المشاريع البراقة جهد الكثيرين من العاملين بهذا الحقل، وحرفت الفكر نحو مبادرات، أنفق عليها مئات آلاف الدولارات، ولم يدم بريقها سوى القليل من الوقت، لتتحول إلى مشاريع إحباط لأصحابها، بينما الزراعة البعلية تتميز بالتكاليف القليلة وبالاعتماد على الموارد المحلية بالكامل، رغم الإنتاج الأقل.
في هذا الوقت وبعد أن توقف أكثر من مئتي ألف عامل فلسطيني عن العمل، معظمهم من أهل الريف، نجد الكثير منهم عادوا للعمل في الأرض، لكن دون توجيه أو إرشاد، وإذا لم تعطِ الأرض لهؤلاء المندفعين للعمل الفلاحي -بسبب الحالة الطارئة- ما يكافئ عملهم، سوف يعودون لهجرها مع أول عودة للعمل المأجور في الورش وداخل السوق الإسرائيلي.

نحن بحاجة لاقتناص الفرصة وتثبيت فكر العمل الفلاحي ليعود الاهتمام بالأرض والإنتاج الذاتي للغذاء، وهذا دور المؤسسات الرسمية والأهلية العاملة في مجال التنمية الزراعية، لإعداد المرشدين المدربين على هذا النوع من العمل، بل إننا بحاجة إلى تفعيل لجان زراعية في الأرياف على درجة من المعرفة والكفاءة، للنهوض بالقطاع الزراعي بالاعتماد على الموارد المحلية.
مسألة أخرى غاية في الأهمية، وهي وجوب توقف المؤسسات عن التعامل مع مناطق الضفة الغربية على أساس تقسيمات أوسلو السياسية السيئة، بتقسيم المناطق إلى "أ"، و"ب"، و"ج"، بعد أن تخلت عنها دولة الاحتلال، وعاد دوار المنارة وسط البيرة ورام الله بالنسبة لدولة الاحتلال كما مسافر يطا في الخليل. هذا التقسيم الذي قاد لكوارث سياسية، لا تزال بعض المؤسسات تتمسك به وترسخه، وهي بذلك تكرس واقعاً فرضه الاحتلال، فإلى متى تبقى تلك المؤسسات تسهل هذا الواقع وترسخه بتوجيهات خبيثة من بعض الجهات الممولة؟

وبالمجمل، يحتاج هذا التوجه إلى:
• مساعدة الفلاحين على حماية الأرض الجاهزة للزراعة البعلية من الخنازير البرية
• إعداد مرشدين متخصصين في هذا النوع من الزراعة
• تدريب الفلاحين وإرشادهم في مجال الزراعة البعلية، بطرق مبتكرة تقلل تكاليف الإنتاج للحد الأدنى وترفع إنتاجية الأرض للحد الأقصى
• عمل مشاهدات وتجارب زراعية حقلية عند الفلاحين
• توفير البذور والأشتال في المراحل الأولى، ثم تدريب الفلاحين على إنتاج البذور والأشتال بأنفسهم
• التدريب على عمليات تخزين وتصنيع الغذاء المنزلي.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير