معركة قضائية تخوضها جنوب أفريقيا نيابة عن الدول العربية

11.01.2024 09:15 PM

كتب حسن نافعة: "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" هي أول اتفاقية دولية تبرمها منظمة الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان، إذ تمت الموافقة عليها بالإجماع من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر عام 1948، أي قبل يوم واحد من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ولأسباب بديهية تتعلق بالمحنة التي تعرض لها اليهود عبر تاريخهم، والتي وصلت أحياناً إلى حدّ الإبادة الجماعية، خصوصاً من جانب النظام النازي الذي سيطر على الحكم في ألمانيا خلال الفترة من عام 1933 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، اهتمت الأوساط الفكرية والسياسية اليهودية في مختلف أنحاء العالم اهتماماً بالغة بهذه الاتفاقية بالذات، وساهمت بقسط وافر في صوغ بنودها وفي الترويج لها، ووقّعت عليها "إسرائيل" في 17 آب/أغسطس عام 1949، أي بعد أشهر قليلة من انضمامها إلى الأمم المتحدة، وصدّقت عليها في 9 آذار/ مارس 1950، أي قبل أن تدخل الاتفاقية حيّز التنفيذ.

ففي السنوات الأولى التي أعقبت إعلان قيامها، بدت "إسرائيل" شديدة الحرص على الظهور بمظهر "الدولة" الضحية، وبالتالي المدافع الأول عن حقوق الإنسان في العالم.

في المقابل، كانت جنوب أفريقيا دولة تحكمها أقلية بيضاء ويديرها نظام حكم يقوم على الفصل العنصري (الأبارتيد)، وبالتالي لا يمكن أن يفكر في الانضمام إلى اتفاقية تستهدف منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

ولأن الطبيعة الأيديولوجية والتوسعية للمشروع الصهيوني قادت "إسرائيل"، تلقائياً وتدريجياً، للكشف عن وجهها العنصري البغيض، فقد حرصت على نسج أوثق الصلات مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وصلت إلى حد التعاون الوثيق في تطوير البرنامج النووي لكلا البلدين.

لقد تعين على عجلة الزمن أن تدور دورة كاملة قبل أن تتمكن من وضع الأمور في نصابها الصحيح، وإسقاط الأقنعة والكشف عن جوهر الأشياء.

فبعد مرحلة طويلة من النضال الشاق، تمكّن شعب جنوب أفريقيا من القضاء على نظام الفصل العنصري، وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي يؤمن بحق الشعوب في تقرير مصيرها وفي الدفاع عن كرامتها وعن تراثها الحضاري، ما دفعه إلى المساعدة في الانضمام إلى "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" عام 1998.

أما "إسرائيل" فسارت ضد منطق التاريخ، وراحت تكرّس طابعها الاستعماري الاستيطاني، وتمارس أبشع أنواع الاضطهاد والتمييز في مواجهة الفلسطينيين، أصحاب الأرض الحقيقيين، ما ساعد على انكشاف السمات العنصرية لنظامها الحاكم، إلى أن وصلنا إلى لحظة الصدام الراهنة فوق حلبة القضاء، بين دولة عانت كثيراً من نظام الفصل العنصري قبل أن تتمكن من التحرر منه، و"دولة" أخرى تدّعي أنها تمثل جماعة عانت كثيراً من الإبادة الجماعية، لكنها تقف اليوم في القفص متهمة بارتكاب الجريمة نفسها ضد جماعة أخرى. وهنا، تكمن المفارقة.

فمنذ أيام قليلة، وتحديداً في 28 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، رفعت جنوب أفريقيا دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية، تختصم فيها "إسرائيل" بسبب ارتكاب الأخيرة أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، وهي جريمة تحرمها وتعاقب عليها "اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، وتشمل "كل فعل يرتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه، ويشمل الأفعال التالية: قتل أعضاء من الجماعة، إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى"، وكلها جرائم ارتكبتها "إسرائيل" في حق الفلسطينيين وما تزال ترتكبها حتى كتابة هذه السطور.

تجدر الإشارة هنا إلى أن اتفاقية الإبادة الجماعية لا تكتفي بتجريم مرتكب هذه الأفعال ومعاقبته فحسب، وإنما تنص في مادتها الثالثة على تجريم ومعاقبة أيضاً "كل من يتآمر أو يحرض أو يحاول أو يشارك فعلياً في ارتكابها".

يلفت النظر أيضاً أن عريضة الدعوى التي سلمتها حكومة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، وتقع في 84 صفحة، كتبت بعناية فائقة ودقة شديدة، وتضمنت شرحاً وتحليلاً شاملاً ومفصلاً لكل الأفعال والأقوال التي تثبت ارتكاب "إسرائيل" أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، كما تضمنت رصداً دقيقاً للتصريحات كافة التي وردت على لسان المسؤولين الإسرائيليين، والتي تثبت توافر النية لدى "إسرائيل" وانعقاد عزمها المبيت على ارتكاب هذه الجريمة النكراء، وبكل صورها المفصلة في الاتفاقية.

لذا، فسوف يكون من الصعب جداً على محكمة العدل الدولية تجنب إدانة "إسرائيل"، وإلا فقدت سمعتها ومصداقيتها تماماً.

لقد سارعت "إسرائيل" في الإعلان عن موافقتها على المثول أمام محكمة العدل الدولية للدفاع عن نفسها، نافية بالطبع أن تكون قد ارتكبت أعمال إبادة جماعية في حق الفلسطينيين، ما أصاب البعض بالدهشة بسبب ما عرف عن "إسرائيل" من احتقار للمؤسسات الدولية وعدم اكتراث بأنشطتها أو بقراراتها.

غير أنه لم يكن أمام "إسرائيل" في الواقع من سبيل آخر سوى المثول أمام هذه المحكمة. فالمادة التاسعة من "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" تنص على: "تعرض على محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة." ما يعني أن محكمة العدل الدولية ملزمة قانوناً بالفصل في الدعوى المرفوعة أمامها من جنوب أفريقيا، وكلتاهما طرفان في الاتفاقية، سواء مثلت "إسرائيل" أمام المحكمة أو لم تمثل، فضلاً عن أن تغيّبها سوف يفسر على أنه تهرب ناجم عن الخوف من الإدانة.

وهنا، تتجلى مفارقة أخرى تستدعي النظر والتأمل، ألا وهي عدم مبادرة أي من الدول العربية، وهي بمعظمها أطراف في الاتفاقية، إلى رفع الدعوى نفسها، أو على الأقل، الانضمام إلى الدعوى المرفوعة من جنوب أفريقيا، ما يثير تكهنات كثيرة حول أسباب هذا الغياب العربي، وما إذا كان ناجماً عن الخوف من العواقب التي قد تترتب على إغضاب "إسرائيل" والولايات المتحدة، أم عن الرغبة في منح "إسرائيل" ما يكفي من الوقت للقضاء على حماس، وربما على المقاومة المسلحة الفلسطينية ككل.

بقي أن نشير إلى ما قد تسفر عنه هذه المعركة القضائية الكبرى من نتائج محتملة. وهنا، يتعين التمييز بين أمرين:

الأول: الشق المتعلق بالتدابير الاحترازية، وهو ما يعرف بالشق المستعجل من القضية. ففي عريضة الدعوى التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية، طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة أن "تأمر إسرائيل بوقف فوري لجميع الهجمات العسكرية التي تشكل أو تؤدي إلى انتهاكات لاتفاقية الإبادة الجماعية في انتظار عقد جلسة الاستماع"، ثم أضافت: "ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي للمحكمة أن تأمر إسرائيل بالكف عن القتل والتسبب في أذى عقلي وجسدي خطير للشعب الفلسطيني في غزة، والكف عن فرض ظروف معيشية متعمدة تهدف إلى تدميرهم جسدياً كمجموعة، ومنع ومعاقبة التحريض العلني على الإبادة الجماعية، وإلغاء السياسات والممارسات ذات الصلة، بما في ذلك ما يتعلق بتقييد المساعدات وإصدار توجيهات الإخلاء".

ويتوقع أن يصدر الحكم في هذا الشق المستعجل خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً، تتراوح بين أسبوعين إلى شهرين أو ثلاثة على أكثر تقدير، وذلك قياساً إلى القضايا المشابهة المنظورة حالياً أمام المحكمة نفسها.

فقد رفعت أوكرانيا قضية إبادة جماعية ضد روسيا في 27/2/2022، وأصدرت المحكمة أمرها في الشق المستعجل في 16/3/2022، ما يعني أنه استغرق أقل من ثلاثة أسابيع، أما في القضية المماثلة التي كانت غامبيا قد رفعتها في 11/11/2019 ضد ميانمار، حول مسألة الروهينغا، فقد أصدرت المحكمة أمرها في الشق المستعجل في 23/1/2020، ما يعني أنه استغرق أكثر من شهرين.

الثاني: الشق المتعلق بالموضوع، أي بإدانة أو تبرئة المدعى عليه. فقد طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة "إثبات مسؤولية إسرائيل عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين؛ وتحميلها كافة النتائج المترتبة على ما ارتكبته من انتهاكات لالتزاماتها بموجب الاتفاقية"، ما يعني إلزام "إسرائيل" بتعويض الفلسطينيين عن الأضرار الناجمة عن أعمال الإبادة الجماعية وإعادة الحال إلى ما كانت عليه، كالانسحاب من الأراضي التي احتلتها وإعادة إعمارها والاعتذار عن الجرائم المرتكبة، وغير ذلك من الإجراءات التي أقرتها لجنة القانون الدولي عام 2001 حول مسؤولية الدولة عما قد ترتكبه من أعمال خاطئة.

وعادة ما يستغرق الفصل في الشق الموضوعي سنوات عدة، بدليل أن الدعويين السابق الإشارة إليهما، واللتين رفعتا عامي 2019 و2022 على التوالي، ما تزالان قيد النظر أمام المحكمة حتى الآن.

نخلص مما تقدم إلى أنه ليس من المستبعد أن تصدر محكمة العدل الدولية بعد أسابيع عدة حكماً لصالح جنوب أفريقيا في الشق المستعجل من القضية، قد يأخذ شكل توجيه أمر إلى "إسرائيل" بالوقف الفوري لإطلاق النار وإنهاء العمليات العسكرية، والامتناع عن تقييد دخول المعونات الإنسانية...الخ.

حينها، سنكون إزاء احتمالين، الأول: أن تكون أوضاع الميدان قد أجبرت "إسرائيل" على وقف عملياتها العسكرية بالفعل، بحثاً عن مخرج سياسي للأزمة، والثاني: أن تتجاهل "إسرائيل" أمر المحكمة، رغم إلزاميته التامة من الناحية القانونية، وتواصل الحرب على سكان القطاع، اعتماداً على أن الفيتو الأميركي سوف يحميها من أي عقوبات قد يقترحها البعض في مجلس الأمن لإلزامها بتنفيذ أمر المحكمة.

وفي جميع الأحوال، يتوقع أن تخرج "إسرائيل" من هذه المعركة، التي ستطول لسنوات، خاسرة وفاقدة لسمعتها تماماً، كما يتوقع أن تخرج جنوب أفريقيا منتصرة ومرفوعة الرأس. تحية لجنوب أفريقيا التي تجاسرت فيما جبنت الأنظمة العربية.

المصدر"الميادين"

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير