حياة الحرب وتغيير العادات

زينب الغنيمي تكتب لوطن من غزة: انا والليل وهذه الحرب .. إما أن نقضي مع من مضوا قبلنا، وإما فجر يوم جديد لنتأكد أننا أحياء

21.10.2023 12:57 PM

انتهت الليلة  الحادية عشرة من هذه الحرب المدمرة، لكن  لازالت الشمس لم تصحو جيدا  مما يدفع  بالشعور بأن الليل الثقيل لا ينتهي. لم أعد أحب الليل رغم اني كنت في السابق انتظر قدومه بحب حيث الهدوء للنفس و السمر مع من نحب، اما الآن  ظلام الليل دامس لا يوجد به خيط من الضوء سوى قنابل الإنارة التي تلقبها الطائرات الإسرائيلية لتحدد الهدف الذي ستصب عليه حمم القنابل والصواريخ الارتجاجية.

لم أعد احب الليل لأنه يملؤني بالخوف ويذكرني بحكايا امي عن الغول المرعب الذي يمشي بين الأزقة ليلتهم كل ماهو حي و يتحرك ولا يشبع، فقد ابتلع غول هذه الحرب حتى الآن (2810) شهيدا 60% منهم من الأطفال والنساء  و الباقي من الشيوخ والرجال،حتى أن الخوف لا يسمح للجميع بالحركة في مكان الاختباء الضيق سواءالمنزل او مقر الإيواء الجديد الذي ارتحلوا اليه رغما عنهم، حتى ان الشخص منا يحبس رغبته في التبول كي لا يتحرك والأطفال والمسنبن منهم من يتبول بشكل لا إرادي في ملابسهم، في هذه الليالي القاسية عاد التنين المنقرض الذي ترونه  في أفلام الرعب وبتنا نسمع هدير صوته المفزع ونرى النار التي ينفثها من رؤوسه المتعددة يمينا ويسارا وهو يجر العمارات والمباني (10000) عشرة آلاف ويزيد نحو القاع ليسويها بالأرض.
ننتظر إشراقة الشمس بلهفة ونشعر بالفرح المؤقت لأننا لازانا على قيد الحياة  لبوم جديد، نسرع في كتابة رسائل الاطمئنان لأحبتنا واقاربنا وأصدقائنا، وربما ننسى احدا منهم ولكن نكون سعداء عندما يذكرنا أحدهم برسالة او باتصال لبطمئن على أننا لازلنا أحياء، ولكننا لسنا بخير، نعم لسنا بخير لاننا حتى بعد شروق الشمس لم نتجاوز ظلام  الليل السابق ورعبه الذي حيث تستمر الطائرات والبوارج من البحر والمدفعية من الشرق بإلقاء حممها، فتنال ممن خدعهم بزوغ النهار وذهبوا للاستجابة لإلحاح الأطفال الذين لا يفهمون لماذا لايستجيب لهم آباءهم وأمهاتنم لتلبية احتباجاتهم الصغيرة رغم انهم توقفوا مع الوقت من المطالبة ببعض من قطع الشكولاتة او الشيبس، ولكن على الأقل ذهبوا  للمخبز يريدون شراء بعض من الخبز  او ذهبوا لبقالة الحي  لربما يحصلون على بواقي من المعلبات أو الأرز أو الحبوب الجافة ليطعموا أولادهم الجوعى، ولكنهم أصبحوا أشلاء ممزقة لأن قائد الطائرة تخلص من حمولته وهي أطنان من المتفجرات فوق رؤوسهم بادعاء انه رأى رغيف الخبز عن بعد صاروخا متجه نحو طائرته او لموقع داخل فلسطين المحتلة، ويا لهول ما نسمع من كذب و تبريرات جنونية لقادة الحرب الرؤساء ووزراء الدفاع وغيرهم من الإسرائيليون والامريكيون والأوربيون  الملطخة أياديهم  بدماء الشعب الأعزل، بأن القتل الجماعي للشعب الفلسطيني في غزة هو دفاعا عن دولة اسرائيل،
وان حرمان الشعب من ماء الشرب وتجويعه بعدم السماح بدخول المواد الغذائية هو دفاع عن دولة "اسرائيل" من صواريخ حماس. إن سواد هذه الليالي يعكس السواد في عقول وقلوب قادة الحرب المجرمين الذين بجب ان تتم محاكمتهم كمجرمو حرب لأنهم اغتالوا شعبنا و اغتالوا أحلام ليالينا وصباحاتنا .

اليوم الثاني عشر للحرب الهمجية 18 اكتوبر :

مرّ ليل ثقيل على صور الجريمة المروعة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي حيث استهدف المستشفى المعمداني الأهلي، لا يمكن تخيّل المشهد في الوعي الإنساني، عدد من المجازر في نفس التوقيت في كافة المناطق، مخبز في النصيرات النادي الأهلي في غزة ، مباني في رفح وخانيونس، هذه الحرب المسعورة أزهقت أرواح (6000) من الناس 75% منهم اطفال ونساء ومسنين، وعطلت اجساد المصابين نحو (13000) شخص.
لا نعتقد ان هذه  حرب اسرائيل وحدها  بل هي حرب أمربكا الدولة العظمى  التي قررت أن تجرب أسلحتها ومدى فتكها في حفنة  من البشر باتفاق واضح مع  وزير الحرب الاسرائيلي باعتبار انهم حيوانات لا يسنحقون الحياة  اي ( الناس في قطاع غزة) .
ايضا هي حرب دول أوروبا كلها بلا استثناء ضد قطاع غزة، وهي حرب يخوضها  أيضا شركائهم من القادة العرب ملوكا ورؤساء وأمراء بصمتهم ومباركتهم لذبح الشعب في  قطاع غزة.
لم اتمكن من النوم صور الشهداء وأشلائهم الممزقة تتراقص أمامي، أصوات القصف واهتزاز المبنى خلال الليل لا يمكن لأحد تخيله لدرجة أننا بعد كل غارة لا نصدق أننا لازلنا أحياء.
غصة في الحلق ودموع متحجرة في المقل وفراغ عميق في الصدر، و أحاول ان اكون قوية لعلّي أشد من أزر نفسي وأزر من أحب عبر رسائلي الصباحية والمسائية للأصدقاء و الأهل. لعلي أتجاوز إحساس الشعور بالعجز وأنا التي اعتدت على الحركة وأسعد بتقديم الخدمات للنساء و للآخرين، لكن هذه الطائرات الملعونة لا تسمح لي ولا لغيري بالحركة، بل لا تسمح لنا بالنظر للسماء حيث هناك قاتل  مهووس بتربص بنا ويراقب النملة على الأرض برادار مكبر فإذا تحركت يعتقد انها ستهاجمه فيقوم بقصفها بصاروخ، والحصيلة أشلاء اطفال ونساء.
لا نملك نكن المفهورون سوى ان الانتظار إما نقضي مع من مضوا قبلنا، وإما فجر يوم جديد لنتأكد أننا أحياء ونتمنى ان نكون بخبر.

اليوم الثالث عشر من الحرب على غزة، 19 أكتوبر 2023
عدّة مرات كاد الموت يقترب ثمّ تراجع قليلا آخرها اليوم صباحًا، وما زالت رائحة الاحتراق والبارود والدخان الأسود تعشّش في الأنف، والقلق والتوتر من القادم يغزو النفس ويستولي الخوف على أطفال الجيران وعيون أمهاتهم تتوسّل الرجاء ببعض الأمان كي تتمكن من تهدئتهم.
عشت الكثير من العدوانات العسكرية الإسرائيلية المتتالية على قطاع غزة، خلال 16 سنةً الأخيرة، ولكن هذا هو العدوان الأشد والأقسى، والأكثر ضراوة، وكي نتذكّر: في كلّ عدوان تدّعي دولة الاحتلال أنها تدافع عن نفسها، وتضرب بكل الجبروت وأسلحة الجيش الفتاكة وقنابل الفسفور برًا وبحرًا وجوًّا، مقابل أعداد ضئيلة من المقاومين بأسلحتهم المحدودة. وفي كلّ عدوان يقوم جيش الاحتلال بتدمير البُنية التحتيّة وآلاف المنازل والمنشآت والمدارس والجامعات، ويسقط في كل عدوان الكثير من الشهداء كما يلي:
• عدوان 2008 استمر 21 يومًا، عدد الشهداء 1430
• عدوان 2012 استمر 8 أيام عدد الشهداء 180
•  عدوان 2014 استمر 51 يومًا عدد الشهداء 2322 ‏
• عدوان 2021 استمر11 يومًا عدد الشهداء 250 ‏
• عدوان 2022 استمر 3 أيام عدد الشهداء 49 ‏
• عدوان مايو 2023 استمر 5 أيام عدد الشهداء 34
• عدوان أكتوبر 2023 مستمر لليوم الثالث عشر الآن، وتتضارب الأرقام والإحصائيات التي تصلنا عن أعداد الشهداء لأن الكثير منهم ما يزال يقبع تحت الأنقاض. بالأمس كانت الأرقام المتوقعة مرتفعة جدًا، لكن اليوم وفق بيان وزارة الصحة الرسمي الأخير فإن العدد يقارب (3800) منهم 1500 طفل و 1000 إمرأة، ولكن المفقودات والمفقودين تحت الأنقاض حتى الآن قد يصل إلى 1000 شخص أو أكثر.
وها هو أول مخيم لجوء من صنع وكالة الأنروا UNRWA المتخاذلة هي ومؤسسات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والعالم. ما يعنيه هذا هو أن نرتقب أن تغرق الناس في الوحل مع تساقط أوّل مطر قادم. هذا هو مخطط حماية دولة الاحتلال، إفراغ القطاع ومد مساحة دولة الاحتلال، وللأسف المخطط ليس ببعيد عن الضفة التي تنزف يوميا دماء أبنائها شهداء او معتقلين
إن الادعاء الباطل لدولة الاحتلال باستمرار بأنها تدافع عن نفسها بات مكشوفًا وباتت أهدافها مُعلنة خاصةً بعد حصولها على التأييد الأمريكي والأوروبي بأن تقضي على الشعب الفلسطيني في غزة. هذا هو مخطط حماية دولة الاحتلال، إفراغ القطاع ومدّ مساحة دولة الاحتلال، وللأسف المخطّط ليس ببعيد عن الضفة التي تنزف يوميًا دماء أبنائها شهداءً أو مُعتقلين، كي تكتمل دولة الاحتلال على أرض فلسطين التاريخية. كلّ ذلك تحت سمع وبصر الدول العربية التي تخشى حتى الدعم بالكلام للشعب الفلسطيني.
ولكننا نحن نتمنى أن نسمع أصوات الشعوب كي نستطيع أن نكون بخير.

اليوم الرابع عشر للحرب على غزة، 20 أكتوبر2023

حياة الحرب وتغيير العادات

هذه الحرب الطاحنة التي نعيشها والتي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي بكل˜ ضراوة، خلقت واقعًا جديدًا في حياة الناس؛ استشهاد الكثير من العائلات رجالا ونساءً وأطفالا، والحصار المطبق، والحرمان من الكهرباء والماء والتنقّل، وفقدان السكن، والعوز والحاجة المادية.

وشأني شأنُ الجميع فإن هذه الحرب القذرة أجبرتني على تغيير عاداتي اليومية: في الصحو المبكر أولًا، لأنني طيلة الليل في حالة صحو لمتابعة الأخبار وأين سقطت تلك القذيفة أو هذا الصاروخ، وأصبحت أغفو عند ساعات الفجر رغم القصف الشديد وأصحو في الثامنة أو التاسعة صباحًا.

اعتدت ان أغتسل يوميًا كافتتاحٍ ليومي، أما الآن فإن المياه ورغم ملوحتها الشديدة حتى المرارة -لأنها مسحوبة من البئر- باتت ثروةً ثمينة، حتى إن الصابون لا ترغي جيدًا، ولكن بعد عدّة أيام شعرت أنني يجب أن أغتسل وأتحمّل ملوحة المياه، وأتحمّل تساقط شعري بسبب هذه الملوحة، وعلينا أن نشكر الله لأنّ لدينا بئر ماء يمكننا الاغتسال منه وأيضا غسيل الملابس واستخدامها في الاستعمالات الأخرى.

انتهزت فرصة هدوءٍ نسبي هذا الصباح، وقلت لصديقتي أنني سأقوم بالاستحمام سريعًا، صديقتي مقيمةٌ معي هي وعائلتها لأنها اضطرت للتهجير من منزلها، ولكن ما إن وضعتُ المياه الفاترة على جسدي بالكوب المعدني (الكيلة) لأنه لا مجال لاستخدام الدُش وإهدار المياه. اشتدّ القصف فسارعت للاستعجال كي انتهي من الاغتسال بسرعة، ولكن قدمي انزلقت وانكسرت رجل الكرسي البلاستيكي الذي كنت أجلس عليه. جاءت صديقتي مسرعةً لتطمئن، ساعدتني على الوقوف، شكرتها ممتنّة، نظرت إلى نفسي واستغربت كيف تقبّلت فكرة أن تدخل صديقتي إلى حمّامي وأنا بدون ثياب، وقلت في نفسي حسنًا إنها موجودةٌ وإلا لكان الأمر أصعب. تحسّست جسدي، المهم أن ساقي لم تنكسر لأن هذا سيكون كارثيًا في هذا الزمن العصيب.

كنت أيضًا في السابق أتناول وجبة الإفطار باكرًا، وكانت قرقعتي في المطبخ سببًا للجدال مع ابنتي فرح أثناء زيارتي لها، حيث كانت تُطالبني بتخفيف الضجيج الذي أحدثه لإعداد وجبة الفطور لأنها لا تحب الصحو من نومها على أي صوت، و لكن الآن أتناول الفطور دون اهتمام بتحضيره، زعتر وزيت وبعض الزيتون الموجود سابقًا، أو حبة من مقدوس الباذنجان، فطور سريع فقط لارتباطه بتناول الدواء.

بشكلٍ عام، كلّ عادات الأكل تغيرت، كنت أصنع خبزًا خاصًا بي لأحافظ على عدم السّمنة، اليوم لا مجال لذلك ونشعر أنا وصديقتي بأننا محظوظتان لأننا ما زلنا نحصل على الخبز، ومحظوظتان لأنّ هناك بائع خضار مرّ منذ أيّامٍ من أمام المنزل معه البطاطس والباذنجان والبصل والليمون، فاشترينا منه كمية كبيرة، دفعنا ثلاثة أضعاف ثمنها الأصلي، المهم أنها موجودة.

صديقتي تضحك وغصّةٌ في حلقها لأنها تريد أن تطهو دجاجًا أو لحمًا وأن تنوّع في الوجبات لصغارها ولكن لا يوجد، فتقول لي: "تمام، أصبحنا نباتيين مثلك". المهم، ما زال يوجد بعض الجُبن المعلّب لفطورهم وبعض البيض الذي يقتصدون في استخدامه خوفًا مما هو قادم.

سابقًا، كنّ صديقاتي تمازحنني في اللقاءات والاجتماعات عندما ترين أنني أحمل زجاجة الماء الخاصة بي، والتي كنت أعدّها خصيصًا من منقوع الزنجبيل والخيار والليمون والنعناع، ويقلن لي "ألم تغيري عادتك هذه منذ سنوات حتى الآن؟"، أقول لهنّ اليوم، لقد غيّرت الحرب هذه العادة، حيث لا يوجد نعناع طازج أو بقيّة المكونات، واعتدت أن أشرب المياه العادية، ولكن لا أعلم إن كانت مياه الشرب ستظلّ متوفرةً أم لا، وهل سنضطر للتوقف عن شرب المياه الحلوة بعد أن تنتهي كميّة المياه التي كنت اشتريتها سابقًا، والتي أخذتها من المكتب؟ لا أعلم حقًا.

أتأمّل الأمر وأنا أستمع لصراخ أبناء الجيران، منزلٌ به عددٌ من العائلات، سألت الحارس عمّا يجري، قال إنهم مختلفون على من يجب أن يجلب الخبز من المخبز القريب لأنهم خائفون بعد قصف العديد من المخابز. كما نشأت مشكلةٌ أخرى بينهم من أجل عدم توفر المياه. عاداتُ الناس تتغير ارتباطًا بحاجاتهم، صبرهم ينفذ وعصبيّتهم تزداد، ليس رغبةً في افتعال المشاكل، ولكن خوفًا من المجهول، ما يدفعهم للاختلاف والانجرار نحو الصراعات الصغيرة.

والسؤال الذي يطرح نفسه كيف استطاع الناس التكيف في الخيام داخل المدارس المخصّصة للإيواء، وكيف تغيرت عاداتهم وتنازلوا عن الكثير مما كانوا يفعلونه يوميًا، فقط طمعًا في البقاء على قيد الحياة، حيث يُصبح الاختلاط بين الغرباء ومن الجنسين، أمرًا طبيعيًا في ظلّ وجود أكثر من عائلة في غرفة مدرسيّةٍ واحدة، بعد أن كان الاختلاط من الممنوعات والمحظورات بسبب طبيعة مجتمعنا المحافظة. لم تعد الخصوصية موجودةً، خاصةً بالنسبة للنساء في ظلّ هذه الحرب المدمّرة للبشر والشجر والحجر دون رحمة. كلّ ما نرجوه هو أن تنتهي هذه الحرب ونكون جميعنا بخير.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير