طارق عسراوي يكتب لوطن.. مَن يُطفِئ "نيون" السماء !

29.06.2023 03:08 PM

وطن: حين كنتُ طالبًا في الإعداديّة، كان ضوء السقف "النيون" في صفّنا يَزِنُّ مثل ذبابة ضخمةٍ طوال الوقت. أحيانًا سيرسل مدرّس العلوم أحدًا منّا إلى آذن المدرسة كي يحضر المكنسة الطويلة، ويضرب "النيون" برفقٍ على جانبيه حتى يختفي الصوت؛ حينها كُنّا نصابُ بخلل لم ندركه، نشعرُ بفراغ هائلٍ وهدوء مزعج، مما يدفع مشاكسًا منّا إلى إطفاء الضوء وإشعاله فور انتهاء حصّة العلوم ليعود الصوت مجددًا، فتمتلئ رؤوسنا بالضوضاء مرّة أخرى، ونصير عاديين على طبيعتنا المزعجة

منذ أن صحوت صباح اليوم وجلست في فناء بيت العائلة، وصوت كَـ " نيون" الصفّ يرجُّ صمت المدينة، زنّة ذبابة ضخمة لا تفارق سماء المدينة، تَزِنُّ بشكل متواصلٍ، فليس عبثًا أن يُطلق سكان المدينة اسم "الزنّانة " على طائرة الاستطلاع. يبدو أنّ " نيون" الصف لم ينجح بتمريني للتكيّف مع صوت الزنانة الدائم؛ هكذا وجدتني أحملُ مكنسة طويلة في محاولةٍ لضرب جنبات السماء، ولكن دون جدوى!

لم نكن في الإعدادية نعرف ما هي الميزوفونيا، ولا أظنّ أيًّا من مدرّسينا عرفها، وإلا لعذروا صراخنا الهستيريّ ونحن نركض خارج المدرسة مثل قطيع ثيران!

عمّا قليل سأجدُ شُبّانًا عصبيّين، يوجّهون بنادقهم صوب السماء ويطلقون الرصاص على غير هدى، وسوف أجد أطفالًا يضعون أيديهم على آذانهم ويركضون في كلّ الاتجاهات، وهكذا يصير صوتي عصبيًّا وأنا أردُّ التحيّة على المارة كمن يخوض عراكًا مع ذباب وجهه!

لذا، بتُّ متيقّنًا أنّ الاحتلال يتعمّد إرسال طائرات زنّانة كي يُصدّع رأس المدينة ويحبط هدوءنا؛ فالمنطق العسكري يقول بإنّ طائرات الاستطلاع لا بدّ أن تكون سرّيّة، مكتومة الصوت، حتى لا ننتبه - نحنُ المُراقَبين - إلى وجودها فنأخذ حيطةً من لا شيء نفعله في السرّ.

ولكنّه، وأعني الاحتلال، صار يدرك بأنّ مصاب الميزوفونيا تلتصقُ به أعراض مصاحبة لا يمكنه التحكّم بها أو السيطرة عليها، وأظنّ على المصاب بنفسه كذلك، مثل صوتِه الحادّ والقادم من ضيق روحه، وإقدامه المتهوّر تجاه مصدر الصوت. وربّما يكون هذا واحدًا من الأسباب التي تدفع شبّانًا تأنّقوا في أوّل أيّام العيد، وبعد برهةٍ، أن يعودوا وضحكاتهم ترجُّ مرايا المدينة، وقد أفرغوا ذخيرتهم من مسافة صفر مع حاجز الجلمة، حيث يختبئ الجنود، المصابون بدورهم بـميزوفونيا الرصاص!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير