رحلة مع البرتقال والحمضيات في فلسطين من معليا إلى يافا وأخيرًا غزة

11.03.2023 08:03 PM

وطن- عمر عاصي

صحيحٌ أن فلسطين عرفت الحمضيات (أو الموالح كما يُصنفها البعض) مُنذ قديم الزمان إلا أن الكثير من الحمضيات التي نعرفها - ولا نستغني عنها - اليوم، لم تعرفها فلسطين غالبًا إلا مُنذ بضع مئات من السنين، كالبرتقال الحلو مثلًا، في حين أن فاكهة الأترج يعود تاريخها غالبًا لأكثر من 2000 عام.

وقد بدأت رحلة أكثر الثمار الحمضية التي نجدها في أسواقنا اليوم من الصين والهند عبر بلاد فارس وعُمَان ثم بلاد الشام وفلسطين.
ومسميات الحمضيات يُمكن أن تحكي لنا شيئًا من القصة، فكلمة نارنج التي انتقلت من العربية إلى الإنجليزية والألمانية وصارت "أورانج Orange" هي في الأصل سنسكريتية (من الهندية القديمة).
كما أننا نجد أن الكثير من سكّان المغرب كالجزائر يطلقون لفظة "تشينة" (China) بدلًا من بُرتقال، باعتبار أن "البرتقال" نُقل إلى بلادنا من الصين، وقبل أن نبدأ رحلتنا في فلسطين، لا بُد أن نشير إلى أن كلمة برتقال، هي تحريفًا لكلمة "برتغال" باعتبار أن البرتغاليين هم من جلبوا البرتقال من الصين في القرن السادس عشر.
في جولتنا مع الثمار الحمضية في فلسطين، لن نبدأ مع برتقال فلسطين، كبرتقال يافا الذي اشتهرت به فلسطين حول العالم، بل سنبدأ مع الأترج، وهي من الحمضيات التي يجهلها الكثير من أبناء فلسطين اليوم، مع أنها كانت من أكثر ما يميز ديارنا يومًا ما.

معليا
نبدأ رحلتنا مع "الأترج" في أقصى شمال فلسطين، في الجليل الأعلى وفي قضاء صفد تاريخيًا وبالقرب من أعلى قمّة جبلية في فلسطين وهي جبل الجرمق، التي تعد أغنى بلاد فلسطين بالمطر، حيث تهطل فيها كمية تتفاوت من 1000 إلى 1100 ملم (مقارنة بحوالي 600 ملم بالمعدل في بقية فلسطين) وتحديدًا في قرية معليا.

قبل حوالي 700 عام تقريبًا، عندما تحدّث شيخ الربوة الدمشقي في كتابه "نخبة الدهر في عجائب البر والبحر" عن معليا، قال: "معليا قلعة مليحة جبلية حصينة وبأرض معليا القرين، قلعة مليحة منيعة بين جبلين، كان ثغراً للفرنج فتحه الملك الظاهر رضي الله عنه، وله وادٍ نزه معروف به من أنزه البقاع، وبه من الكمثرى المسكي، المعطر الرائحة الطيب الطعم، ما لا بغيره، ومن الأترج ما تكون الثمرة الواحدة نحو ستة أرطال دمشقية".

وهنا، لا بُد أن يستوقفنا هذا الأترج كون الثمرة الواحدة منه تبلغ نحو ستة أرطال دمشقية، والرطل الدمشقي هو وحدة وزن تختلف عن الرطل البغدادي وتقدّر أحيانًا بحوالي 2.5 كغم  . ما يعني أن الحبة كانت تصل إلى 15 كغم، وهو رقم "مذهل" مقارنة برقم آخر اُحتفي به في المواقع الإسرائيلية، حيث قطف مزارع يهودي في المستعمرة المسماة "موشاف مسلول" الواقعة بين غزّة وبئر السبع حبة أترجة وزنها 8 كغم، ويسعى لإدخالها موسوعة جينيس، مما يجعل حكاية أترجة "الدمشقي" تستحق البحث أكثر.

 

برتقال عكا
من معليا، نتجه جنوبًا لنرى شيئًا من برتقال عكا، وهو يختلف عن برتقال يافا شكلًا وطعمًا كما جاء في كتاب "جغرافيّة فلسطين" لخليل طوطح وحبيب خوري عام 1922، حيث يذكران انتشار زراعة البرتقال شمال شرق عكا، وكانت معظم البيارات والبساتين ملكًا للسراسقة والسيد محمد العفيفي، ومما ميّز برتقال عكا، أنه كان يُسقى من مياه الينابيع الطبيعية مثل نبع الكابري، إضافة إلى مياه الآبار.

وقد ازدهرت زراعة البرتقال في عدد من قرى عكا مثل الزيب، حيث بلغت مساحة البيارات حوالي 3000 دونم قبل عام 1948، أما في السُميريَّة فكانت حوالي 2000 دونم، وفي قريتي النهر والتل بلغت مساحات البيارات أكثر من 2500 دونم، وهي مساحات مُعتبرة قياسًا بصِغر هذه القرى.  

قيسارية من أقدم بلاد النارنج والأترج
نتجه مع الساحل جنوبًا إلى قيسارية، لنجد شيخ الرحالة المقدسيين وهو "شمس الدين المقدسي البشاري"، يذكر الأترج والنارنج في فلسطين قبل حوالي 1000 عام في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم".
وكذلك نجد الرحالة الفارسي ناصر خسرو في كتابه الشهير "سفر نامة" الذي وثّق رحلاته عبر فلسطين يأخذنا لمنطقة أخرى في فلسطين تقع على ساحل البحر الأبيض أو بحر الروم كما كان يُسمى سابقًا وهي "قيسارية" التي زارها في القرن الحادي عشر للميلاد، فيقول عن قيسارية وخيراتها باختصار: "مدينة جميلة بها ماء جارٍ ونخيل وأشجار النارنج والترنج، ولها سور حصين له باب حديدي، وبها عيون جارية".

ما ذكره ناصر خسرو عن أترج قيسارية يستحق الوقوف بلا شك، فهو يُبرز الأهمية غير المباشرة للمياه في زراعة الحمضيات، إذ يذكر مياه قيسارية الجارية تارةً ويعود ليذكرّنا بعيونها الجارية، فزراعة الأثمار الحمضية تتطلب الري المستمر وتزدهر قرب مصادر المياه كالأنهار والعيون الجارية، حتى أن كلمة بيّارة التي تُطلق على البساتين المزروعة بالحمضيات تعود في الأصل لكلمة "بئر"، لكون هذه البساتين تُروى من مياه الآبار.

"أم الفحم" بلد الأترج الفاخر

إلى الشرق من قيسارية، إذا قصدنا طريق وادي عارة، نصل إلى بلدة تُعد من أغنى بلاد فلسطين بالعيون، واشتهرت تاريخيًا بالأترج المميز الذي ذاع صيته بين اليهود في القرن التاسع عشر.
تقارير هيئة استكشاف فلسطين التي انطلقت عام 1872 في مسح جغرافي شامل، كان من المثير فيها الحضور اللافت لحمضيات أم الفحم.
وجاء في تقرير الهيئة أن القرية تمتلك حوالي 20 ينبوعًا أو أكثر ويوجد بالقرب منها أشجار الزيتون والبرتقال والليمون و"الشادوك" الكبير جدًا.

الغريب أن "الشادوك" هو لفظ يُطلق على "البوملي" ويُسميه بعضٌ "أترج"، إلا أن البوملي والأترج مُختلفان عن بعضهما.
بالعودة إلى الكتابات العبرية، نجد أن أم الفحم حظيت باهتمام خاص بين اليهود في التحضيرات لعيد العُرش، وكثيرًا ما يظهر أترج أم الفحم بأنه ذو جودة عالية وهو "أفضل من أترج يافا" عند بعضهم، لدرجة أنهم كانوا يقصدونه من مناطق بعيدة للحصول عليه.
حتى اليوم عندما نبحث في مسميات عيون أم الفحم، نجد أن بعض عيونها مثل عين خالد ويُطلق عليها في الخرائط الإسرائيلية تسمية "عين سابير"، على اسم الحاخام يعقوب هاليفي سابير الذي زار أم الفحم عدة مرات عام 1854 بهدف الحصول على أترجها الفاخر، وقد وثّق الكثير من تفاصيل البلدة كغابات البلوط المحيطة فيها، وعيون الماء الجارية ومنها عين خالد التي حُرّف اسمها ليصبح "سابير" . 

قبل أن نُغادر أم الفحم وحكايا الأترج حول العيون الجارية في جبالها، ومن قبله أترج معليا في أعالي الجليل المطيرة، تجدر الإشارة إلى أنه حتى العام الثلاثمائة من الهجرة (القرن العاشر للميلاد)، كان الأترج هو أكثر الحمضيات شيوعيًا في بلاد الشام، وهو ما يُستفاد مما ذكره العالم المسعودي في كتابه "مروج الذهب" الذي يذكر فيه أن شجر النارنج والأترج المدوّر "حُمَل من أرض الهند إلى أرض غيرها بعد الــ "ثلثمائة"، فزرع بعمان ثم نقل إلى البصرة والعراق والشام، حتى كثر في دور الناس بطرسوس وغيرها من الثغور الشامية وإنطاكية وسواحل الشام وفلسطين ومصر، وما كان يعهد ولا يعرف، فعدمت منه الروائح الخمرية الطيبة، واللون الحسن الذي يوجد فيه بأرض الهند".

قلقيلية مدينة الحمضيات
بتأمل نص المسعودي في "مروج الذهب" نجده يفتقد إلى الروائح الطيبة واللون الحسن الذي تميّز به النارنج والأترج المدوّر في بلاد الهند، ومع أننا لا نعرف بالضبط أين تذوّق المسعودي النارنج عديم الطعم والرائحة واللون الحَسن، إلا أن الأكيد أن هذه الحمضيات لا تجود في كل البلاد، حتى في بلد كفلسطين، نجد تباينًا بين بلد وآخر.
ولعل قلقيلية من البلدات الفريدة في فلسطين بمناخها الواقعة بين جبال نابلس وساحل يافا، والذي جعلها تنجح وتبرز في زراعة الأشجار الاستوائية، فشهرة قلقيلية الحقيقية تتجلى في زراعة الجوافة التي تصل أرباح الدونم الواحد من زراعتها حوالي 2000 دولار، كما أن زراعة الأفوكادو تُعد مربحة ويصل ربح الدونم الواحد هناك إلى أكثر من 3000 دولار أميركي، وهذه كلها أشجار استوائية لا تنجح إلا في مناطق بعينها في فلسطين.

وزراعة الحمضيات في قلقيلية تعود إلى نحو 150 سنة، كما جاء في كتاب حول البلدة للشيخ محمد خطيب بعنوان (قلقيلية حتى عام 1842) يذكر فيه تاريخ التطور الزراعي في قلقيلية قائلاً إن أول من نهض وفكّر في زراعة البرتقال رجلان من قلقيلية وهما حسن العلي النصر ومحمود بن مصطفى العلي من عائلة اشريم، حيث حفرا بئرين وزرعا البرتقال وذلك سنة 1298 هــــ ( 1880 ميلادي).
وفي سنة 1320 هـ التفت أكثر أهل البلدة إلى مشروع زيادة البرتقال، وبدأوا حفر الآبار حتى وصلت عدد البيارات في قلقيلية عام 1942 إلى 68 بيارة برتقال وكانت مساحتها تقدر بـ 8000 دونم.

يافا
من قلقيلية، إلى عاصمة البرتقال في فلسطين، وكم ليافا من حكايات بديعة مع البرتقال، ولعل أبدعها ما ذكره كتاب جغرافيّة فلسطين (1922) بأن الشاعر العراقي معروف الرصافي أبلغهم بأن "القوم في الأستانة يُسمون البرتقال يافا، مما يؤخذ منه أن هذه الكلمة أصبحت مُرادفة لفاكهتها التي اشتهر أمرها"، فمدينة يافا كانت تصدّر كميات وافرة من البرتقال إلى مصر و"الأستانة" إلا أن أكثر البرتقال كان يُصدّر إلى إنجلترا.

ولأن يافا ارتبطت بالبرتقال، لا بُد أن نذكر ونُذكّر بأن برتقال يافا هو ما كان يُزرع في كُل قضاء يافا، فقرية الشيخ مونس المهجرّة عند مصب نهر أبي فطرس (نهر العوجا) كانت من القرى التي تطوّرت تطورًا لافتًا بسبب نجاح زراعة الحمضيات، حتى ذكرت "الموسوعة الفلسطينية" بأن بيوت القرية القديمة كانت من طوب اللبن (الطين)، إلا أن الحمضيات ساهمت في التطور العمراني للقرية فكثرت المنازل المبنية من الحجر والإسمنت، وكان في القرية مدرسة يأتيها الطلاب من القرى المجاورة، تميّزت بالتدريس العملي التجريبي لفنون الزراعة وتربية الدواجن في 36 دونمًا مخصصًا للطلبة.
ولعل أبرز قرى يافا، التي تفوّقت في مجال زراعة الحمضيات هي قرية بيت دجن المُهجرة حتى جاء عنها في الموسوعة الفلسطينية بأنها "أسبق قرى قضاء يافا في مجال التطور والتقدم"، فقد تطورت عمرانيًا بسرعة نتيجة ما أصاب أهلها من ثراء بسبب نجاح زراعة الحمضيات عندهم وتوسعهم فيها.

إلى جانب الشيخ مونس وبيت دجن، برزت قرى كثيرة في مجال زراعة الحمضيات والبرتقال، ولا بُد أن نذكر قرية الخيرية التي قدّرت مساحة بياراتها حوالي 6 آلاف دونم تُروى من 75 بئر ماء، ونفس هذه القرية التي هُجّر أهلها عام 1948، أصبح اسمها يرتبط – ويا للأسف - بمزبلة الخيرية، جراء تحوّل أراضي القرية إلى أكبر مكب نفايات في "إسرائيل" واسمه حتى اليوم "خيرية".
قبل أن نُغادر يافا، لا بُد أن نذكر أحد أسرار شهرة بُرتقال يافا، وتحديدًا البرتقال المسمى "شموطي" ويكمن في قشرته السميكة، التي مكّنت حبّات البرتقال من السفر حول العالم لأسابيع مع الحفاظ على طعمها والجودة، وهكذا صار بالإمكان تصدير البرتقال اليافاوي إلى إنجلترا وألمانيا.

بيارات اللد والرملة
لم تتأخر اللد والرملة عن جارتهما يافا، فقد ازدهرت زراعة الحمضيات في اللد والرملة وقراها، وتحديدًا بعد الحرب العالمية الأولى.
والمثير أن نجد في قرى الرملة حكاية أخرى لـ"نهضة البرتقال" وتحديدًا في قرية البريّة التي كانت في طليعة القرى التي شرعت في تربية النحل كما يُخبرنا الدبّاغ في "بلادنا فلسطين"، ولأن النحل يحتاج إلى الزهور، فمع توسّع أهالي البرية في تربية النحل لم تعد الزهور في القرية تكفي نحلهم، فصاروا ينقلونها إلى بساتين الحمضيات في القرى المجاورة، وكل هذا لإنتاج عسل الحمضيات المميز، والذي كان يُعد من أهم الركائز الاقتصادية للقرية التي قُدِّر دخلها بألف جنيه فلسطيني في سنة 1936، كما جاء في كتاب "كي لا ننسى" لوليد الخالدي.

في عام 1936، نشرت الوقائع الفلسطينية في الملحق الزراعي مقالة حول أهمية عسل النحل في فلسطين، جاء فيها أن زهور بيارات البرتقال وحدها يُمكن أن تكفي لتشغيل 60 ألف خلية نحل، بينما كان عدد الخلايا في نفس السنة حوالي 20 ألف خلية، وهو ما يعني أن إنتاج العسل من البرتقال الفلسطيني يُمكن أن يُضاعف ليصبح العسل ركيزة من ركائز الاقتصاد، كما البرتقال، ولكن يا للأسف، كُل هذا كان قبل النكبة وقبل أن يُهجّر أكثر من 700 ألف فلسطيني، ممن يشتاقون لشم رائحة يافا ولا يستطيعون لذلك سبيلًا.

أريحا

نُغادر الرملة إلى الأغوار، إلى أريحا تلك المدينة التي اشتهرت بالموز والنخيل وحتى قصب السُكر إلا أنها اشتهرت بالحمضيات والبرتقال، وتألقت به وكان له طعمه ونكهته الخاصة، والأهم رُبما رائحته الخاصة فقد ارتبطت تسمية أريحا بكلمة سريانية بمعنى الرائحة والأريج، وبعض الفلسطينيين يُسمونها بلهجاتهم "رِيحة".

لأريحا تاريخ عريق، فيُقال إنها أقدم المدن الفلسطينية عُمرانًا، ويقال إنها أقدم مُدن العالم في الشرق الأدنى، بل قد نجد من يُقول إنها أقدم مدينة مسوّرة في العالم أجمع، وكل هذا يؤكد عراقتها وخبرات أهلها الزراعية المتراكمة مُنذ فجر التاريخ، فقد سكنوا قُرب عيون الماء وأبرزها عين السلطان في الشمال الغربي من البلدة وهي "واحة نَضرة في منطقة تكاد تكون قاحلة جرداء" على حد قول "الدباغ" في موسوعة "بلادنا فلسطين"، وبتأمل خرائط أريحا نجد البرتقال والحمضيات يتصدّر منتوجاتها بعد الموز.

كما أن برتقال يافا عُرف بــ "اليافاوي"، فإن برتقال أريحا عُرفت بالريحاوي وكانت له صفات مميزة عن غيره، فمناخ أريحا ومياهها يختلفان كثيرًا، حيث اعتمد برتقالها على المياه العذبة من العيون، بينما برتقال يافا اعتمد على الآبار والمياه الجوفية القريبة من البحر.
ومن خصائصه التي حدّت من شُهرته مع أنه من أجود أنواع البرتقال، ما يُخبرنا به الأديب الرحالة "نيقولا زيادة" - وهو من مواليد 1907 - فيفسر ذلك بأن قشره رقيق جدًا ولا يتحمل النقل لمسافات بعيدة بوسائل التوضيب البدائية التي كانت معروفة حينها، وبالتالي لم يكن معروفًا إلا في أريحا والقدس وعمان، بعكس برتقال يافا الشموطي ذو القشرة السميكة الذي وصل إلى إنجلترا وألمانيا.
ورغم كُل المدح والثناء الذي حظي به برتقال يافا، إلا أن من يقرأ مذكرات نبيل شعث يجده يتحدث عن برتقال أريحا و"البوملي ذو القشرة الخضراء" فيها وكأنهما من ثمار الجنة.
وهذا الأديب السوري سمير الطحان يُخبرنا أنه "ما في العالم أطيب من البرتقال الريحاوي" و"الريحاويون يؤمنون أن صفات المزارع تظهر في زرعه، فصاحب الطبع الجاف كان برتقاله جافًا، وذو الطبع المر يكون برتقاله مرًا وهلّم جرا!".

غزّة

نصل إلى محطتنا الأخيرة "غزة"، حيث يُسمى البرتقال وغيره من الحمضيات بـ "الذهب الأصفر"، وتكثر في غزّة أصناف البرتقال الأصيلة مثل البرتقال الشموطي اليافاوي ذو القشرة السميكة، وبرتقال "أبو سرّة" ذو الحجم الكبير والسرّة المميزة الموجودة في أسفل حبّاته، وكذلك برتقال الفالنسيا وهو من أكثر أنواع البرتقال التي تستخدم للعصير، ويعد من الأصناف الرخيصة، ما يجعله عُرضة للاندثار.

ولا يُمكن المرور عن برتقال غزة، دون الحديث عن الاحتلال والمقاومة، فيذكر الباحث عبد الله عيّاش أن المخابرات الإسرائيلية كانت تركز اهتمامها على إسقاط وتجنيد أصحاب البيارات الزراعية وخصوصًا بيارات الحمضيات التي اشتهرت رفح بزراعتها، وكانت ملاذًا آمنًا للفدائيين المطاردين، وبمثابة "قواعد سريّة" لهم.
في منشور للإغاثة الزراعية حول "واقع الحمضيات في قطاع غزة" نجد الاحتلال حاضرًا وبقوة في الحديث عن تدهور زراعة الحمضيات، فسياسة تجريف الأراضي قرب السياج الحدودي وهدم آبار المياه ووضع العراقيل أمام تصدير الحمضيات وغيرها من الأسباب التي يُعد الاحتلال الإسرائيلي المسؤول الأول عنها، وساهمت في تدهور هذا المجال الزراعي.
ولتصور حجم التدهور يكفينا أن نذكر أن المساحة المزروعة بالحمضيات في السبعينيات كان تصل إلى 75 ألف دونم، وتنتج حوالي 280 ألف طن، كانت تُصدّر إلى الكثير من الدول العربية والأوروبية وحتى إيران، فإن غزة اليوم بالكاد فيها 18 ألف دونم والإنتاج 44 ألف طن.

لقد زرعت غزّة الحمضيات وأبدعت في زراعتها حتى أصبحت الحمضيات مصدر الرزق الوحيد للكثير من العائلات كما هو الحال في بيت حانون التي كانت تنتج وحدها حوالي 34 ألف طن من الحمضيات، وكان الكثير من هذه الحمضيات تُباع للتجار في موسم الإزهار لكثرة الطلب عليها.

ومن الصور البيئية البديعة التي نجدها في زراعة الحمضيات في غزة، صورة تَجاور الحمضيات والنخيل جنبًا إلى جنب في بيّارات دير البلح المشهورة بالنخيل والبلح، وأما بيت لاهيا المشهورة "بالتفاح اللهواني" فقد زرعت كذلك التوت وأبدعت فيه حتى اُعتبرت عاصمة التوت في فلسطين، وإلى جانب كُل هذه الخيرات نجد أنها أبدعت في زراعة الحمضيات فكانت ثمارها من أجود ما يكون في فلسطين.
في ختام رحلتنا هذه، لا بُد أن نذكر ونُذكّر بأن كُل الحقائق الجميلة عن برتقال فلسطين أصبحت في الكثير من المناطق تاريخًا لا حاضرًا، فسيطرة الاحتلال على الأرض والمياه والمعابر وسُبل التسويق دفعت الفلسطيني إلى العزوف عن زراعة الحمضيات، بعد أن كانت من أهم الموارد الاقتصادية في فلسطين لأكثر من 100 عام.

 

كُل الحقائق الجميلة عن برتقال فلسطين، سواء في يافا أم عكا أم غزة أم قيسارية أم اللد أم الرملة أم قلقيلية، أصبحت في الكثير من المناطق تاريخًا لا حاضرًا، فسيطرة الاحتلال على الأرض والمياه والمعابر وسُبل التسويق دفعت الفلسطيني إلى العزوف عن زراعة الحمضيات، بعد أن كانت من أهم الموارد الاقتصادية في فلسطين لأكثر من 100 عام.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير