"شجرة العائلة" روح البيت التي تتجذّر عمقاً ولطفاً

03.03.2023 07:49 PM

 هديل عوني عطا الله

يقول "السير ديفيد أتينبارا" في كتاب "لو كان بإمكاني أن أخبرك شيئًا واحدًا فقط":"لم يسبق أن قابلتُ طفلاً ليس مفتوناً بعالمنا الطبيعي، وفقط حين نكبر نفقد ذلك الحسّ بالدهشة، لكنني أظن أننا سنكون أفضل لو حافظنا عليه، لذا فإن نصيحتي هي ألاّ تفقد هذا أبدًا، وافعل ما بوسعك للحفاظ على حسّ الافتتان بعالمنا الطبيعي حياً داخلك".

ثمة أشخاص هم مثل الأطفال، استمروا في حياتهم مفتونين بأجمل وألطف علاقة بعالمنا الطبيعي، إنها العلاقة مع الأشجار ومع النباتات عموماً التي ربما قد تبدو غير مفهومة أو مألوفة لدى شخص لا يفقه شيئًا عن "عِشرة عُمر" من هذا النوع.
في التقرير التالي نستعرض نماذج، بعضها حقاً ينطبق عليه حرفياً معنى "شجرة العيلة" وكأنها فرد متجذر في العائلة، لها حضور وروح وقداسة مثيرة للدهشة في حياة من يعيشون في كنفها.

حقًا تحزن على أصحابها
في منزل الراحل رباح عطاالله في مدينة غزة، ما زالت شجرة عين الجمل التي زرعها عام 1995 بيديه حيةً ترزق.
تقول قرّة عينه الصغرى علا: "كان أبي يحب الشجر وما من مساحة فارغة في دارنا إلا وكان لها حظ من غَرسه، ودائمًا ما كان يردد أن الشجر نور البيت وله قدرة على جعل الأمكنة تضحك".
وبكل حب تمضي علا في حديثها قائلة عن "الجوزة": " لم تكن الشجرة إلا نبتةً صغيرة لا يتجاوز طولها المتر الواحد، وها قد أصبحت باسقة في عمر الثامنة والعشرين، تزين البيت حيث تقع في منتصفه، ويمتد طولها إلى الدور الخامس الذي يُقدّر بـنحو 30 مترًا، وكل شرفة من شقق الأدوار الخمسة يُطلق عليها "برندة الجوزة"، تتخذ منها العصافير أعشاشّا، وأيضاً في كل عامٍ تتخذ منها البومة عشًا لها".

تعود إلى سنين خلت، وتتذكر أن الشجرة بعد عامين أثمر على بعض فروعها عدد صغير من الحبّات.
عام بعد عام كبرت الشجرة، وصار حصادها يكثر شيئاً فشيئاً، فيأكل منها جميع أفراد العائلة والجيران، وحتى الغربان التي تتشاكس في أعلى فروعها تقتات منها والخفافيش أيضًا، والورق الذي يسقط منها تشعله أسرتها في فصل الشتاء، حسب قولها.
وتضيف: تزهر"جوزتنا" في شهر نيسان وتكبر الحبّة إلى أن يكتمل نموها في شهر تشرين الأول، والجميل فيها أن تغطي منزلنا فتصبح ساترًا بيننا وبين الجيران".

وتزيد بالقول: "في الصيف والشتاء نستمتع بالجلوس تحتها، إما نستظل بها، أو نأخذ قسطاً من دفء الشمس في الأيام الباردة، إلا أنها مع تقدم الزمن تقل ثمارها، ويتضاءل حجمها".
حديثها عن الشجر لا يُملّ، ومن أعذب ما قالته بشأنه، أنها مقتنعة بل موقنة تماماً أن "الأشجار تموت بسبب حزنها على أصحابها بعد رحيلهم عن الدنيا، موضحة ما تقصده: "لقد ماتت شجرتا التين والعنب بعد وفاة أبي".
وتستخرج من ذاكرتها بعض المشاهد: "كان لدى والدي طريقة خاصة في العناية بالشجر بترتيب وتنسيق مذهل، كالصغيرة التي تزين أمها شعرَها بــ "شّبرة أنيقة"، وحين يأتي أي ضيف كان أول ما يُكرمه به طبقاً من الفاكهة، متغزّلاً بابتسامة صافية "انظر ما أجمل حبة التين وحبة العنب، هذه بركات شجراتنا".

عن شجرة آمنة
تخبر علا "آفاق البيئة والتنمية" عن علاقة أختها آمنة بهذا الكائن الحي الاستثنائي: "مع أن شجرة الجوز تعتني بنفسها ولا تحتاج إلى رعاية خاصة ولا للتقليم، إنما يتكفّل المطر بها، إلا أنها كانت تحرص على سقايتها دائمًا، أذكر أنه ذات مرة كان النمل قد بنى فيها بيوتًا، وعلى الفور جلبت دواء لــ "سوسة النمل"، يمكنني القول إن شقيقتي  حافظت عليها بالدعاء، هي تحبها كثيرًا وتعتبرها مِلكها لأنها كانت هدية أبي لها، ويوم زرعها أطلق عليها "شجرة آمنة" ، لذا الشجرة جزء منها وكأنها قلبها، وأقرب تشبيه أنها تحبها كما تحب الأم بنتها، وبدورها الشجرة ردّت الجميل لها بالكثير من الثمار، وفي المقابل تحب أختي أن تطعم الناس منها".
تسترسل أكثر وهنا تحديداً تضحك: "أحيانُا تزعجني الشجرة جراء كثرة تساقط أوراقها، ما يستفزني إلى درجة أن أدعو عليها في لحظة غضب، وما يلبث أن ينشب الشجار بيننا، إلى هذه الدرجة "الجوزة" غالية على آمنة".

"ماذا عن أمك "كرامة" كما يحلو لك أن تناديها.. هل كانت أيضاً تحب الشجر؟".. تلمع في عينيها دمعة تكاد تفلت منها، ثم تحكي لنا: "أمي مكرم أو كرامة كما أحب مناداتها، كانت تعشق كل شيء أخضر، بل كل شيء جميل، ولطالما أوصتني بها وعلى وجه الدقة بهذا التعبير: "أروٍ الشجرة تدعو لك هي والملائكة، نظّفي حولها حتى تردّ روحك"، ومع أن بيتنا متواضع، إلا أن صديقاتها كن يعتبرن أن أهم ميزة في منزلنا أن الشجر الوارف يحيطه من كل جانب".
وتنساب الذكريات أكثر من قلب علا: "كانت لدينا شجرة ورد زرعها أبي وبلغ عمرها 25 سنة، كم كانت أمي تحبها وتحب الصلاة بجانبها خاصة صلاة الضحى، تضع سجادتها وتتمتم بأدعيتها، عندما فارقت أمي الدنيا حزنت الشجرة، ثم ماتت بعد رحيل صاحبتها بشهر واحد فقط".

وتعقّب في السياق نفسه: "الشجرة لها قلب وروح، وليس عندي أدنى شك في أنها كائن حي يشعر".
ولا تنسى "الجميزة" التي تصنفها عائلتها بأنها "شجرة الأجداد"، فقد بلغ عمرها أكثر من 100 سنة، وعندما أجرت بلدية غزة بعض الإصلاحات والتغييرات في الشارع حزن الجميع على اقتلاعها.
وتشير إلى أنه ليس شرطًا أن يتخذ المرء الزراعة مهنةً حتى يرتبط بالأشجار ارتباطاً وثيقاً، تماماً كجدها – رحمه الله - الذي كان متعلقاً بشجرة "الكلمنتينا" خاصته.
وتنهي تدفق حديثها قائلة: "تتجلّى القيمة العظيمة للشجرة في عظمة الحديث الشريف: "إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليزرعها"، وفي ما قاله الشاعر اللبناني وديع سعادة: "الذين ألفناهم شجراً باسقاً، صاروا قشّاً حين حزنوا".

صبر وعاطفة ودقة
بحثنا عن تجربة إبداعية مختلفة لاحترام النباتات والتعامل معها كما لو كانت قصيدة، وعثرنا على قصة مثيرة للاهتمام، بطلاها Toshinao و Josepha Yoneyama .

في فرنسا يحاولان أن يبلغا أقصى حدودهما لاكتشاف طرق جديدة للإبداع وتجفيف أنواع من الزهور، إذ ينتجان في ورشة عمل خاصة "لوحات مؤطرّة" مكونة من أزهار حقيقية وأوراق مجفّفة أُلصقت بعناية على ورق فني، وتضفي أعمالهما الفنية الفريدة لمسةً شعرية ونباتية على ديكور البيئة الداخلية، ويا له من سحرٍ يتمثل في تأليف لوحات مستوحاة من النباتات بعناية فائقة، وبما يضمن للمتذوق أن يقع في حب عملهم الدقيق والحساس في صناعة الأعشاب المزخرفة.

بمجرد أن ترى رشفة بتلات بألوانها النابضة سيهتز داخلك، وفي حقيقة الأمر، ستتكّشف باقة من المشاعر الجميلة لتنعش حياتك اليومية، حيث الفرح والمفاجأة والفرح والأمل والحرية تتجول في اللوحات المفعمة بالعفوية، لقد أخذا في الحسبان كل التفاصيل بعنايةٍ فائقة لإضفاء لمسة من النعومة والجنون على الجدران.

وفي موقعهما الرسمي Les Poésies Végétales يفصحان عن الدافع لهذا العمل: "بعد حياة المدينة العاصفة وقضاء بضع سنوات في متجر الزهور الجميل، لبيّنا نداء القلب والطبيعة، وحزمنا حقائبنا إلى الحقول والغابات لنعيش بهدوء أكثر على إيقاع الفصول، وبعيدًا عن صخب المدينة، وبحثًا عن حرية أكبر وهواء أنقي وإبداع أكثر جموحًا، لقد فرض هذا الحلم نفسه علينا".
وكان من أجمل ما صرّحا به: "لقد تعلّمنا الكثير من هذه التجربة، وكأننا أصبحنا شجرة صغيرة تتجذّر بقوة لنشر فروعها بشكل أفضل نحو السماء، بتنا أقدر على الاستفادة أكثر من مواردنا الداخلية مثل التكيف، والإبداع، والتحمل، والحدس، والمرونة، والثقة بالنفس".
أما ماذا يتطلب ذلك من هؤلاء "الحرفيين العاطفيين" حتى يتقنوا هذه الهدايا من الإبداعات الفريدة من النباتات: "الجواب يكمن في الوقت والشغف وجرعة جيدة من المعرفة، ولا ننسى الدقة والصبر والعاطفة".
وسيلاحظ المتفحص أن ثمة لوحات أنسب كلمة لوصف العشبة فيها "الرقة"، وفي لوحةٍ أخرى تمنح النقاط الوردية الداكنة الصغيرة مزاجًا احتفاليًا مبهجًا.

ويُلاحظ النمط السماوي في أخرى، حيث التعاون الحقيقي يبرز بين العناصر الطبيعية وهي الشمس والماء والهواء، إذ يذكرّك اللون الأزرق بالسماء والبحر للهروب والحلم.

إبداعٌ دافعه المسؤولية البيئية
تتنقّل في أرجاء موقعهما الالكتروني وتراهما يتحدثان عن حديقتهما الصغيرة التي كثيرًا ما تكون سخية بالورود والخضراوات، إلى الحد الذي قد يفوق توقعاتهما أحيانًا، إذ يجفّفان الأزهار لعدة أشهر قبل استخدامها، حتى تتطور أشكالها وألوانها في مرحلة التجفيف.
عند هذين الشريكين، الزهور والورق الفني هما المادتان الخام الأساسيتان، يقولان في هذا الصدد: "بحكم عملنا سابقاً في بيع الزهور، نحن نعرف النباتات عن ظهر قلب، لكن الورق لا يزال غامضًا جدًا بالنسبة لنا".
ومن وجهة نظرهما أن شهر يونيو/ حزيران مثالي لزراعة وحصاد وتجفيف الزهور، والسبب أن الأزهار عادة ما تنمو بغزارة وتتفتح في نفس الوقت وتكون ذات ألوان زاهية، وبمجرد ضغطها تجفّ بسرعة كبيرة حينها، لذا هذا التوقيت تحديداً يكون بمثابة "موسم عمل رائع" لهما، وكما يقولان: "نفعل تمامًا مثل السناجب، نخزّن لفصل الشتاء".

وحين يحلّ الشتاء وتهطل الأمطار، يتحرّقان لعودة الشمس وبموجبها عودة الزهور في الحديقة إلى التفتّح مجدداً، إذ تصبح المحاصيل قليلة، ومع ذلك هما يدركان أن "كل شيء يأتي في الوقت المناسب لمن يعرف كيف ينتظر، ما يتطلّب الصبر".
ولعل في موسم الخريف تنال الأعشاب سحرًا خاصًا، وكما في وصفهما: "موسم متناقض، فيه كيمياء رقيقة من التناقضات".
ويعطيان نصيحة لكل من يرغب في اقتناء لوحات الأعشاب: "ضعها في مكانٍ بعيد عن ضوء الشمس المباشر وضوء القمر، وتجنّب الغرف الرطبة".

ولإتمام مراحل العمل، تكرّس Toshinao مع رفيقها Josepha Yoneyama الجهد لأيامٍ طويلة للقيام بأنشطة أساسية في سبيل إنجاز "المعشّبات"، وتتمثل في تجفيف الزهور لإكمال لوحة الألوان؛ وبذر وزراعة نباتات مُزهرة جديدة لموسمي الصيف والخريف؛ والإلهام من خلال التأمل في الطبيعة والأعمال الفنية.
وعن القيم التي تدفعهما بعمق للتشبث بهذا العمل، يقولان بثقة: "الجمال والمسؤولية البيئية، لقد أسسّنا أعمالنا على المسؤولية البيئية بأوسع معانيها، هذه القيمة هي المنارة التي توجه جميع قراراتنا، نحن نحترم الأرض وهذا يبدو جليًا في اختيار المواد الخام والتعبئة والتغليف".

بنقاء أهل الشجر
مَن هذا الذي لا يعرف أم زاهر طنطيش، المزارعة الثمانينية التي ينشرح القلب عند رؤيتها، هي أيضاً شجرتها المفضلة "عين الجمل" التي تحافظ عليها منذ ثلاثين عامًا، حيث تقف على رصيف الشارع بشموخ مقابل باب منزلها في بيت لاهيا.
تحدّثنا عن شكل رعايتها لها: "أسقيها وأعتني بها دائمًا إما أنا أو زوجي، وصاحب النصيب يأكل منها، "الطالع والنازل"، منذ صغري تربيّت على حب الشجر، وأنه من واجبنا الاهتمام بها".

يخرج الكلام من روحها وكأنه الحِكم: "أجمل ما في حياة الإنسان أن يرعى شجرة ويخدمها، نوزّع ثمارها مجانًا على الجميع، الشجرة إما أن تطعمك أو تستظل بها، وبالتأكيد تعطي منظرًا جميلًا".
وكان لدى أم زاهر شجرة توت يزيد عمرها على 40 عامًا، ثم جفّت، وزرعت بدلاً منها، وأصبحت تطرح ثمارها، حسب تعبيرها.
وتضيف: "أولادي وأحفادي يكملون مشوار رعاية الأشجار، أتذكر أبنائي في طفولتهم حين كانوا يعودون من المدارس، فيلقون حقائبهم ويتناولون الغداء معي، ثم يشمرّون عن سواعدهم للاعتناء بالأرض".
يقول دوستويفسكي: إنني أحبُّ وريقات الأشجارِ الطرياتِ الندياتِ، أحبُّ السماءَ الزرقاء".. بنفس مقدار الحب والبساطة والنقاء الذي يجتمع في أهل الأشجار، أهدتني المرأة الطيبة دعاءً في ختام كلامها: "يعطيكِ الصحة والهنا والسعادة، الله يرضى عليك، وياخد بيدك، ويكتّر رزقك بين إيديكِ، ويحبّب فيك ما خلق رب العالمين".. ابتسمتُ وقلت: "آمين".

ثمة أشخاص هم مثل الأطفال، استمروا في حياتهم مفتونين بأجمل وألطف علاقة بعالمنا الطبيعي، إنها العلاقة مع الأشجار ومع النباتات عموماً التي ربما قد تبدو غير مفهومة أو مألوفة لدى شخص لا يفقه شيئًا عن "عِشرة عُمر" من هذا النوع.
في التقرير التالي نستعرض نماذج، بعضها حقاً ينطبق عليه حرفياً معنى "شجرة العيلة" وكأنها فرد متجذر في العائلة، لها حضور وروح وقداسة مثيرة للدهشة في حياة من يعيشون في كنفها.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير