عبد الناصر.. أين أنت؟

28.09.2015 11:09 AM

وطن - كتب نصري الصايغ: 

«ارفع رأسك يا أخي»

هذا صوت جمال عبد الناصر. الصوت الذي أذن بعصر عربي جديد. الصوت الذي ملأ الزمان العربي، بقامة مارد، وحرّك شعباً بقامة أمة، صَدَحت أملاً، «من المحيط إلى الخليج».
«ارفع رأسك يا أخي».
هذا صوته. سمعتْه الملايين، فامتلأت يقيناً بأن مكانها وسيع تحت الشمس. هذا صوته. سمعتْه ملايين متعطشة لأفق لا يدلهمّ قهراً وظلماً ويأساً. سمعتْه جباه ارتفعت إلى مكانها الأعلى، فلن «تنخفض بعد اليوم». كان المكان العربي يليق باستقبال الغد، النقيض النقي، من التجزئة والتخلف والتبعية والاتكالية والهزائم. وكانت الجماهير، تؤم الساحات، تبشر بـ «يقظة العرب».
«ارفع رأسك يا أخي».
هكذا سمع العرب. شيء من نبوءة سياسية، تتكفل بصناعة تاريخ، لأمة عريقة ومستحقة، سلبتها الدول الاستعمارية وسامتها احتلالاً وتجزئة واستيطاناً ونهباً. لم يكن الصوت مصرياً، كان عابراً لحدود الكيانات والاقطار، ويبشر بعروبة هزت أنظمة، وأخافت ممالك، وأشعرت الغرب، بأن شمسه في المشرق إلى غياب.
«ارفع رأسك يا أخي».
كان ذلك قبل السويس وابانها وبعدها. ذهل غرب حشد عسكره وإسرائيله، لكسر الصوت وشل الإرادة ومنع النهوض. غلبت مصر، بعروبتها، الغزوة الثلاثية... احتفلت الجماهير ببداية عصر جديد. الحراك القومي ملأ الميادين من تونس إلى اليمن، ومن لبنان إلى سوريا، فيما كانت فلسطين تنفض عنها «النكبة» وتستعد لـ «عناق البنادق»، التي أطلقت العمل الفدائي.
بات عبد الناصر قائداً وعدواً معاً. قائداً لأمة مشت معه إلى التحرر، وعدواً لأنظمة عربية، وكيانات محظية، واستعمار لا يرى في العرب إلا قطعاناً تسير خلف سراب. كان صوته على صورة الرسم الذي أتقنته أقلام رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر ومطالع «العشرين». عروبة متحررة من القيود. ترى إلى الشعب بروابط الاجتماع والتاريخ، وليس بروابط الدين وتقاليد المذاهب. عروبة تتطلع إلى إقامة الدولة الواحدة، بالشعب الواحد، في الأرض الواحدة... لم يكن الإسلام دين العروبة، بل كان من روافد غناها الحضاري، ولا كان التراث حكراً على جماعة وأروقة، بل كان صناعة حقبة من حقب الأصالة العربية في الإبداع والترقي. كانت عروبته بحجم المستقبل، ولم تكن بوطأة الماضي، فملأت حاضراً يحتاجها، بعد يباب. كان ذلك في الزمن «الناصري» حقاً. وهو زمن مميّز، يؤسس لمشروع نهضوي سياسي، برغم نواقصه، يستقيم بقاعدة «التجربة والخطأ».

وكان ما كان. جاءت فلسطين بعد اليمن. تأخر الامتحان. انكسرت مصر، جاءت «نكسة حزيران»، أكبر من «نكبة فلسطين». بُحَّ صوت القائد. ظهر على الشاشة محطّماً. قال بنبرة المقهور: «إني أتنحى». سمع الناس حزنه الشاهق، وعرفوا أن الاستقالة هي الخسارة الثانية. خرجوا إليه بأمر رددته القبضات: «عُد إلى حيث أنت». رفضوه متنحياً، وأوكلوا إليه المستحيل الذي قتله.

كان ذلك زمن البدايات المغدورة. بعده، لم يقل أحد مثله، «ارفع رأسك يا أخي»، غلبت بابل الطوائف والمذاهب والفتاوى، الصوت الرائد. غلبت الدسيسة والنميمة ونصوص النفط وإسلام الفتنة والتكفير، صوت الكرامة والعقل والمستقبل. عصر عربي مظلم، أضاءته شعلة الفدائيين التي عادت وأطفأتها عباءات الظلام العربي، ونجوم «الاستبداد القومي» وجنرالات الهزائم المستدامة. زمن أسود، لم يرفع فيه العربي رأسه ولا صوته، إلى أن استعادت الجماهير الساحات والميادين. فكانت انتفاضة البوعزيزي في تونس، ثم انتفاضة إعلاميين في مصر، ثم انتفاضة المطلوبين في ليبيا، ثم انتفاضة المؤمنين بالحرية في مصر، وانتفاضة الأحرار في اليمن... في بعض ذلك الزمن، رفع العربي رأسه. نجح في تونس، وقليلاً في مصر، وتعرّض للسرقة والتنكيل في أكثر من بلد. حتى إذا هتف هاتف ما، وغرّد خارج السرب العربي بـ: «ارفع رأسك يا أخي»، سأل السامع: «أين» و «كيف» و»متى»... والأمة مذبحة.

يأس أقام دهراً. الذاكرة تحتشد فيها النكبات والنكسات. فقدان الأمل سمة الكائنات العربية التي ما تزال تدبّ في حياتها وبؤسها. لا ضوء، والعتمة العربية، «بطيئة الكواكب»، ولا تنبئ بنهاية... العرب، إقامة جبرية في الغياب. البديل عنهم، غربان الطوائف والمذاهب و «الاخوانيات» ومتوحشو التكفير ومرتزقة الآيـــات. البديل عن العرب، نماذج سياسية، تقتبس التجربة اللبنانية الفاشلة والرخيصة والمفضوحة...

ومع ذلك، ليس لليأس إقامة دائمة، برغم هذا الكالح من عصر العرب. البوعزيزي افتتح الميادين، وبالأمس القريب، افتتح لبنانيون، الميدان في قلب العاصمة بيروت. حراك لم يكن متوقعاً. حراك، حرك كل لبنان. أمل يراود اللبنانيين أن لا وقت للبدايات، كل الأوقات ممكنة. من هذا الحراك، ومن لحظة اندلاع الثورات العربية، يستعيد الإنسان العربي الأمل، بأن عبد الناصر، يمكن استعادة قامته وصوته وأحلامه. ويمكن استعادة زكي الارسوزي، وقسطنطين زريق، وانطون سعاده، وشبلي الشميّل وفرح أنطون، وقائد الإصلاح الديني محمد عبده. التاريخ، نظنه ينسى. إنه يحفظ للعرب لحظات المستقبل، والمطلوب ريادتها. فاليوم. وبعد الحراك في لبنان، يطيب للأحرار، استعادة ذلك الصوت الهادر: ارفع رأسك يا أخي. هنا وهناك وحيث يتطلّب ذلك. فلا بد للقيد أن ينكسر.
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير