كفاح واحد لا يكفي.. ! كتب عاطف سعد

13.08.2014 08:50 PM

خفق قلبي وأنا أرى جريحا من غزة يقص شعره ويبتسم. حَيَيتَهُ بلهجة أهل خان يونس،"نعيما يا راجل"! فرد ببشاشة، "الله يِنعَم عليك خوي"! انشرح صدري وقلت لنفسي، لدي قصة سيكون وقعها لطيفا على القراء. وما أن تحققت من التفاصيل حتى اكتشفت أن "قص الشعر" وما يرافقه من استرخاء هو مجرد لحظة توقف لالتقاط الأنفاس وأن كفاحا واحدا لا يكفي لمواجهة الحرب وتداعياتها.

الأب والابن في منازلة "الخبيث"!     
يخوض محمد ووالده حماد بركه ،من خان يونس قطاع غزة، عدة معارك في آن واحد رغم أنهما لا يتواجدان على أرض المعركة التي يشتعل أوارها في غزة وإنما في مدينة نابلس لغرض العلاج.

في السادس والعشرين من حزيران 2014 وصل محمد برفقة والده لمشفى جامعة النجاح بنابلس قادمين من خان يونس لإجراء عملية جراحية تستأصل ورم سرطاني (من النوع الخبيث) من عظم فخذ محمد الأيمن.

صَمَدَ الأب ونجله ستة عشرة يوما قبل إجراء العملية الخطيرة التي لم يسبق أن أُجري مثلها في فلسطين. ضبطا أعصابهما. سيطرا على توترهما. صار الصبر رفيقهما الدائم في ملاحقة التحضيرات:  فحوص طبية معقدة، تلقي جرعات وقائية من "الكيماوي"، السعي للعثور  على مفصل رجل صناعي و ترتيبات التعاقد مع خبير تقني (لتركيب المفصل الصناعي) وطبيبة أعصاب (كلاهما) من تركيا لينضما لفريق طبي فلسطيني مختص يقوده ويشرف عليه البروفيسور علاء عزمي ويضم أخصائي أمراض العظام د. مازن عبد الله و د. حسام سلامة المشرف على تنفيذ جرعات الكيماوي.

فرحة .. ولكن!

جرت العملية الجراحية بعد مرور يوم واحد على اندلاع الحرب العدوانية على قطاع غزة (13/7). وكان النجاح حليف الفريق الطبي المحلي، في أول سابقة من نوعها تتم في فلسطين.  لقد قام الأطباء ببتر 20 سم من عظم الفخذ واستبدلوه بمفصل صناعي صُمم خصيصا. لكن تسارع أحداث الحرب على ما يبدو أجل الاحتفاء بالنتيجة الإيجابية.

"صار محمد يمشي بعد إجراء العملية،" قال الأب حماد وأضاف،" غَمَرتني فرحة بطعم من يُكتب لأبنه حياة جديدة، لكن أخبار الحرب في غزة وخان يونس كَتَمَت فرحتي. فبعد أيام قليلة سمعت صوتا يهتف لي، عبر هاتفي الجوال، عوضك ع الله يا أبو محمد، راحت داركم! هذا النبأ قَصَفَ فرحتي بمشاهدة ابني يعاود المشي. لم يبق لدي قوة أو رغبة للاحتفال بالنبأ السعيد مع زوجتي  وأولادي الأربعة وابنتي، اللذين صاروا برمشه عين مشردين ونازحين في مدرسة وكالة."  وذكر شهود لأبي محمد أن منزله تساوى مع التراب في لحظة. وقالت له زوجته بعد تفقدها لما بقي من البيت بُعيد إعلان وقف إطلاق النار لسبع ساعات، "لم أر غير الركام  والحجارة والتراب. لم أُفلح بالعثور على شيء يُفيد العائلة فعدت مكسورة الخاطر!"
عيني هنا وقلبي هناك!
يتشتت انتباه السيد حماد،(47 عاما) وكان ضمن أوائل تشكيلات قوات الأمن الفلسطيني التي وصلت غزة 1993 قادمة من ليبيا، بين محمد، الابن الثاني في العائلة (19 عاما) الذي يتشافى ويحتاج لمتابعة ومرافقة في تمارين المشي والعلاج الطبيعي، وبين آدم، آخر العنقود، ( 8سنوات) الذي بَلَغَهُ عن التهاب معوي أُصيب به في مدرسة الوكالة التي آوت 3000 نازح من خان يونس. 

ويصاحب الالتهاب  ارتفاع في الحرارة. قال، "لم تنزل حرارة آدم رغم مرور خمسة أيام. يفحصه عامل صحي بين حين وآخر ويعطيه مسكنا. أنا مش عارف أنام ومش عارف أفكر، كيف يحدث كل ذلك وأنا بعيد عنهم. أأفكر فيهم ولا في البيت إللي راح ولا في آلاف النازحين ولا بأمراض تانية جاييتنا ع الطريق. حكمتك يا رب ..عونك يا رب.!"  

معركة حي الزنة! 

يقع حي الزنة شرق خان يونس على بعد 1200 متر فقط من الخط الحدودي. وقد شهد الحي وأهله ساعات من الجحيم بعدما تجاوزت الدبابات الإسرائيلية الحدود وأمطرت الحي بوابل من قذائفها بالتزامن مع قصف جوي طال المنازل والبساتين على طول كيلومتر واحد وذلك بعد أن دك المقاومون بقذائف من نوع آر.بي.جي RPJ بولدوزر (جرافة عسكرية ضخمة) ومركبة مدرعة فدمروهما.
بين اليأس والأمل! 

مساحات واسعة يشغلها الموت في خان يونس ونواحيها فيما فضاءات الحياة تبدو ضيقة، لكن ممكنة في نابلس. وبين المساحتين تتجاذب المشاعر وتتباعد بين الأب حماد وابنه محمد      

كان محمد مصغيا لما قاله والده. قال وكأنه، يحاول تلطيف مستوى الأسى والحزن وقال وكأنه يذكره بلون آخر  من ألوان الأمل، " بس يابا أختي حنان وزوجها إبراهيم نجيا من موت محقق بعد تدمير حارتهما بكاملها في عبسان الكبرى. (حنان وزوجها، ولم يمض على زواجهما سوى بضعة شهور، نجيا من الهجوم لأنهما كانا مدعوان عند صديق آخر من العائلة على وجبة إفطار رمضان. سقط فيه أكثر من 20 شهيدا)    

سألت السيد حماد

- من أين جاء السرطان لمحمد؟

- " من الفسفوري (قنابل محرمة دوليا) إللي ضربوه خلال  حرب 2008-2009 (أسمتها إسرائيل بعملية الرصاص المصبوب). كنا نسكن آنذاك في حي الرميده في منطقة بني سهيلا، قرب مركز الشرطة حيث صار المركز هدفا للقصف الجوي باعتباره موقعا لكتائب القسام. بعد القصف بقليل طغى على الحي دخان أبيض له رائحة قريبة من رائحة الثوم. تسللت بعض من ألسنة الدخان للبيت ويبدو أن زوجتي وابني محمد استنشقا بعضا منه فكانت زوجتي أول ضحية لمرض سرطاني حميد، بحسب الأطباء، حيث من عانىت من تكسر في صفائحها الدموية، ولاحقا شالو لها ( استأصلوا جراحيا) الرحم والطحال.

وبالرغم مما واجهته السيدة أم محمد فإنها الأخرى مشتتة بين مسؤولية رعاية الأسرة في خان يونس في ظروف النزوح الاضطراري عن البيت وبين ملاحقة كفاح زوجها وابنها ضد مرض السرطان في مدينة نابلس.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير