سم يتسلل لأجساد المواطنين والرقابة مشلولة
تحقيق استقصائي لوطن بعنوان: الجمال المشوه
- وحدة الصحافة الاستقصائية في وطن تكشف: مستحضرات تفتيح بشرة ملوثة 13300 ضعف من الزئبق السام
- خبراء لوطن: الزئبق يتسرب عبر طبقات الجلد ويؤدي الى فشل كلوي وتشوهات خلقية للأجنة
- بعد عرض النتائج المخبرية.. وزارة الصحة تصدر قرارا بحظر المنتجات الراسبة في تحقيق وطن
- وزارة الصحة لوطن: لا نستطيع ضمان سلامة وأمن المستحضرات المباعة إلكترونيا
- نقص في أعداد المفتشين يؤثر سلبا على الرقابة
وطن – نزار حبش: مفعول كالسحر، يوحد ألوان الوجه ويعالج الكلف والتصبغات والحبوب ويخلق بشرة ناصعة البياض، هو دون سواه أساس للباحثات عن الجمال والأناقة والتأثير، كما يدعون.
وفي المقابل يتغلغل بين طبقات الجلد، يضرب الكلى والجهاز العصبي، ويسبب تشوهات خلقية للأجنة، فمن يكون؟؟ هذا ما سنكشفه لكم في هذا التحقيق الذي استمر العمل فيه على مدار 3 شهور.
عشبي بالكامل؟
في يوم عمل اعتيادي، توجهت الشابة "ر.أ" من محافظة نابلس الى وحدة الصحافة الاستقصائية في وطن كي تحدثنا عن معاناتها بعد استخدام منتجات عشبية تباع في الأسواق كي تعالج بشرتها من التصبغات كما قيل لها.
تؤكد الشابة "ر.أ" أنها "لاحظت وجود بقع داكنة اللون على وجهها، وبدأت تتسع مع مرور الوقت، ما أدخلها في حالة نفسية صعبة.
"بصراحة كنت بقلب صفحات النت، صفحات الفيسبوك، الا بطلعلي إعلان عن كريم عشبي بعالج التصبغات وبوحد الألوان، اطلعت على التعليقات لقيت ملان صبايا يتحدثوا عن نتائجه السحرية" وتضيف الشابة ر.أ: على الفور.. حكيت مع الصفحة وسألتهم إذا المنتج أعشاب، وأكدوا لي أن مكوناته اعشاب بنسبة 100%، لذا طلبت عبوة وبعد 3 أيام وصلني باب البيت".
وتؤكد أنها بعد استخدام الكريم أكثر من مرة شعرت ببثور جديدة وتصبغات وبداية حروق وتشوهات، وتدفق سائل شفاف من البثور"، وتابعت: أوقفت استخدام المستحضر على الفور واتجهت نحو مختص في الأمراض الجلدية فأكد لي وجود مواد كيماوية خطيرة في الكريم وحثني على وقفه فورا.
فحوصات مخبرية.. منتجات تطفح بالزئبق السام!
وحدة الصحافة الاستقصائية بحثت عن مستحضر البشرة الذي استخدمته "ر.أ"، وقد جدت أكثر من صفحة تروج له عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لذا تواصلنا مع إدارة إحدى الصفحات، وبعد تأكيد القائمين عليها أن المنتج عشبي وآمن، طلبنا المنتج المشبوه، وبعد ثلاثة أيام وصلنا وسط مدينة رام الله بتكلفة سبعين شيكلا..
توجهنا بالمنتج الى مختبرات جامعة بيرزيت، وطلبنا فحوصات كيمائية وبكتيرية، بحثا عن أي إجابة لأسباب الحروق والبثور التي ظهرت على وجه المواطنة "ر،أ" بعد استخدام المستحضر، وبدأت عملية فحص دقيقة على مدار ثلاثة أيام.
بعد الانتظار، حصلنا على نتائج صادمة، حيث اكتشفنا أن المنتج ملوث بـنسبة عالية من الزئبق، بواقع أربعة آلاف وثمانمائة ضعف.
بلال عاموص مساعد مدير المختبرات في جامعة بيرزيت أكد أن العينة فحصت 3 مرات على جهاز متخصص في الكشف عن الزئبق وكان هناك تطابقا في النتائج، مردفا: هناك ارتفاع كبير جدا للزئبق السام في المستحضر، خصوصا وأن كمية الزئبق المسموح تضمينها بالمستحضرات التجميلية لا تتعدى 1 ميليغرام/ كيلوغرام، أو جزء واحد بالمليون (ppm) حسب تعليمات منظمة الصحة العالمية.
وأكد أن الكريم مع وجود الزئبق يعطي نتائج لافتة على الوجه ما يخدع المستخدمات، لكن تأثيره على جسم الإنسان مدمر.
ولمعرفة خطورة الزئبق وإمكانية تسربه عبر طبقات الجلد الى داخل جسم الإنسان، توجهنا الى أخصائي الأمراض الجلدية في مدينة رام الله د. صلاح صافي، فأكد لنا أن الزئبق يتسرب من الجلد الى داخل أعضاء جسم الإنسان، مردفا: ان امتصاص هذه المادة يشكل خطر على الجهاز العصبي والكلى والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والغدة الدرقية.
وتابع "هناك ضرر كبير على المرأة الحامل والجنين، قد يؤدي الى تشوهات خلقية لدى الأجنة وخلل في الجهاز العقلي للطفل، كما يسبب اضطرابات سلوكية واضطرابات في الحركة كونه يضرب الجهاز العصبي، واضطرابات في الرؤية والسمع وفقدان الذاكرة، كما أنه من الممكن أن يؤدي الى فشل كلوي في الحالات الشديدة".
وزارة الصحة تحظر المنتج الراسب على الفور..
توجهنا بهذه النتائج الى الإدارة العامة للصيدلة في وزارة الصحة في مدينة نابلس، كونها المسؤولة المباشرة عن كل المستحضرات الطبية داخل الأسواق الفلسطينية، فأصدرت وزارة الصحة تعميما لكل مدراء الصحة في جميع المحافظات بالتأكد من خلو الأسواق الفلسطينية من المنتج الراسب في فحوصاتنا المخبرية.
مديرة الإدارة العامة للصيدلة في وزارة الصحة د. تهاني فتوح أكدت لنا أن الزئبق يؤدي الى حروق وتشوهات للجلد، وينتقل الى داخل الجسم، مردفة: "المشكلة أن سميته عالية للجسم ويؤثر بشكل سلبي وكبير على الأطفال لذا فإن المنتجات بالغة الخطورة".
وشددت أن المصدر الآمن لشراء الأدوية والمستحضرات هي الصيدلية لأن المستحضرات الموجودة فيها مسجلة لدى وزارة الصحة.
لكن القضية لا تقتصر على منتج واحد فقط، فقد نجحت وحدة الصحافة الاستقصائية في شبكة وطن الإعلامية في مقابلة ضحية أخرى عانت بعد استخدام مستحضر تفتيح بشرة آخر، يدعي مروجيه أنه عشبي بالكامل.
المواطنة "ع.م" أكدت أنها اقتنعت بفعالية المنتج بعد قيام "مؤثرة" بالترويج له عبر منصات التواصل الاجتماعي، لذا بدأت باستخدامه، لكن المنتج أدى الى تكون بقع وتحسس شديد نتج عنه حبوب وبثور في وجهها، اتجهت على اثر ذلك الى طبيب مختص في الأمراض الجلدية.
وأضافت أن الطبيب وصف لها مضاد حيوي ومجموعة من الأدوية الأخرى وطلب منها وقف استخدام منتج تفتيح البشرة على الفور، مؤكدا أنه يحوي مواد خطيرة.
تتبعنا المنتج.. ولكن!
كما فعلنا مع المنتج الأول.. اتصلنا مع إدارة الصفحة عبر الفيسبوك، وبعد تأكيدهم أن المنتج عشبي وآمن، قمنا بشراء عبوة وأرسلناها الى مختبر جامعة بيرزيت، وهناك كانت صدمة أخرى..
وأظهرت النتائج ان المنتج ملوث بـ 13300 ضعف من الزئبق، وهي النتيجة الأكثر خطورة في تاريخ الفحوصات المخبرية للزئبق في مختبرات الجامعة كما أكدت إدارة المختبر.
وأكد مساعد مدير المختبر بلال عاموص أن النتيجة دقيقة 100% لأنها أعيدت 3 مرات وأعطت نفس التركيز.
وشدد أن مختبرات جامعة بيرزيت فحصت معدلات الزئبق في السابق، لكن هذه النتيجة هي الأخطر على الإطلاق والأكثر ارتفاعا في تاريخ المختبر، داعيا الى ضرورة سحب المنتج من الأسواق في أسرع وقت ممكن، كونه يشكل خطرا كبيرا على المواطنين.
وعند سؤاله عن كيفية الحصول على الزئبق، أشار بأن بعض منتجي المستحضرات التجميلية يقومون بشراء المراهم ذات السعر الرخيص، ويحصلون على الزئبق من السوق الإسرائيلية بطريقة سهلة، وبعد الخلط يضعون المادة الممزوجة في وعاء جديد ويدعون أنه عشبي 100% في عملية غبن للمواطنين، ويقومون ببيعها بأسعار مرتفعة جدا.
المنتج محظور في الأصل!
بعد الحصول على النتيجة الصادمة من مختبرات جامعة بيرزيت، قمنا بتحويلها الى الإدارة العامة للصيدلة، وهنا كانت مفاجأة أخرى، حيث تبين ان المنتج محظور في فلسطين منذ عام 2022، وأصدرت حينها الإدارة العامة للصيدلة كتابا دعت فيه الى خلو الأسواق من المنتج الذي يعمل على تفتيح البشرة، لكن هذا القرار لم يطبق على أرض الواقع، وهنا نتساءل من يتحمل المسؤولية؟ ولماذا فشلت وزارة الصحة في وقف بيع المنتج في فلسطين؟
وردا على ذلك، قالت د. تهاني فتوح مديرة الإدارة العامة للصيدلة في وزارة الصحة " هذا ليس فشلا، لأن التجارة الإلكترونية منتشرة بكثافة وبازدياد، حيث لاحظنا وجود هذه المشكلات السابقة الذكر وحذرنا المواطنين عدة مرات عبر وسائل الإعلام المحلية وعلى موقع الإدارة العامة للصيدلة، من الشراء عبر الانترنت، لأن وزارة الصحة لا تستطيع ضمان سلامة وأمن الصنف المباع، خاصة أن معظم المنتج المباع غير مسجل وغير معروف المصدر".
وتابعت" ان المشكلة الحقيقية تكمن في الصفحات مجهولة الهوية التي تعمل من مناطق خارج سيطرتنا الأمنية وخصوصا من القدس الشرقية والداخل المحتل".
وردا على سؤال هل تشعرون بالعجز في متابعة هذه الصفحات، قالت "عددنا محدود كمراقبين في وزارة الصحة، في كل مدينة هناك مفتش أو مفتشين وهذا العدد غير كاف"، مردفة "نحول هذه الصفحات الى النيابة العامة لكن فعليا لا نجد الكثير من الصفحات أغلقت بسبب عدم القدرة على إغلاقها".
3 الى 10 سنوات حبس!
وحدة الصحافة الاستقصائية في شبكة وطن الإعلامية عرضت نتائج التحقيق على رئيس نيابة مكافحة الجرائم الالكترونية سفيان أبو زهيرة، الذي قال "عندما يتم غبن المواطنين بادعاء أن المنتج عشبي بينما في الحقيقية هو مخلوط بمواد كيماوية مضرة فإنه في هذه الحالة يعتبر غش للمستهلك من حيث طبيعة المنتج وحقيقته" مضيفا "حسب قانون حماية المستهلك تعتبر جناية وعقوبتها ما بين 3 سنوات الى 10 سنوات سجن، وغرامة ما بين 3 آلاف دينار أردني وحتى 10 آلاف دينار".
وتابع أبو زهيرة " أن المشكلة الحقيقية أن الفضاء الإلكتروني مفتوح وواسع، وأي شخص يمكنه إنشاء صفحة لترويج منتجات، وبصراحة من الصعب على جهات الرقابة تتبع كل هذه الصفحات خصوصا إذا كانت من خارج البلاد أو مناطق ج".
9 مستحضرات أخرى..
لا يتوقف الأمر عند المستحضرات التي سقطت في فحوصاتنا المخبرية، معد هذا التحقيق رصد 9 صفحات أخرى على مواقع التواصل الاجتماعي تروج لتسع مستحضرات مختلفة لتبييض البشرة بأسماء مختلفة، ومن هنا يجب على الجهات الرقابية أن تمارس دورها في فحص هذه المنتجات لمعرفة المواد الداخلة في صناعتها.
10% ملوث..
وفي دراسة قامت بها منظمة الصحة العالمية في عامي 2017 و2018 على 338 مستحضر لتفتيح البشرة في 22 بلدا حول العالم، اتضح أن 10 في المئة من المستحضرات ملوثة بالزئبق بما يزيد عن جزء واحد في المليون.
في 16 أغسطس 2017، دخلت اتفاقية ميناماتا بشأن الزئبق حيز التنفيذ، وهي معاهدة عالمية لحماية صحة الإنسان والبيئة من الانبعاثات البشرية ومن إطلاقات الزئبق ومركبات الزئبق.
وتعهدت الدول الموقعة على الاتفاقية وعددها 120 بتقديم دعمها السياسي والمالي للمساعدة في الحد من استخدام الزئبق ومركبات الزئبق والقضاء عليه نظرا لأضراره المؤكدة.
ويتواجد الزئبق في قشرة الأرض ويتم إطلاقه من خلال النشاط البركاني وتآكل الصخور، وهو موجود بأشكال مختلفة، لكل منها درجة متفاوتة من السمية على الكائنات الحية، لكن جميع أنواعه سامة.
وأمام كل ما سبق، فإن التداوي بالأعشاب في بلادنا بات وسيلة لخداع المواطنين، منتجات يدعي مروجوها أنها عشبية وآمنة تطفح بمواد سامة ومحظورة عديدة، والزئبق ليس إلا مثالا واحدا على ذلك، لذلك فإن الوعي الشعبي هو بداية العلاج في ظل ضعف الرقابة وعدم السيطرة على الفضاء الرقمي ولا على الأسواق، إلا ما رحم ربي.