هل اختلفت صورة الموت لدى الفلسطيني قبل وبعد معركة الطوفان؟

28.04.2024 02:06 PM

 كتب د. محمود الفطافطة: الموت ليس هو النهاية، بل هو البداية. النهاية تتمثل في رحيل الجسد فيزيقياً، أي كشكلٍ وصورة ومشهد، أما البداية فهي الخلود الذي يستحضر به ذوي ومحبي ومعارف الميت ذكرياته وسيرته؛ سواءً أكانت تحمل مآثر الخير، أو مثالبٍ وشر.

الموت هو لقاءٌ منظور يأمل تحققه من جمعتهم الدنيا بصدق الايمان، وعمق الحب، وديمومة الوفاء. هذا اللقاء هو اللقاء الآخروي في جنة عرضها السماوات والأرض. هذا اللقاء هو أُمنية أولئك الذين فقدوا أعزاءهم، وبه ما يُخفف عنهم قسوة الفراق، ولوعة الشوق، وتذكر سمر الحكايات، ومداد الذكريات.
إنه الموت الذي وصفه الله في كتابه بالمصيبة. هذه المصيبة قد تتضاعف عندما يكون صاحبها، أي الميت، لم يخاف من ربٍ، ولم يتورع في ارتكاب محرم. فالموت موتان: موت يشرف صاحبه وأهله ومحبيه، وموتٌ آخر قد يسعد أهله ومعارفه من فراقه؛ لما كان في دنياه من شرير لا يتقي خالق، ولا يرحم مخلوق.
الأول سيرته عطرة، كمسيرته، أما الثاني فلا سيرة خالدة له سوى ذكريات من ألم، أو غياب مستديم. الأول يحيا في القلوب وكأنه في ميدان الحياة، والآخر تُدفن سيرته بدفن جسده.. سيبقى الموت رعباً وأملاً: رعباً لمن دخل القبر دون أن يدخل أبواب الصالحات، وأملاً لأولئك الذين عاشوا في محراب العبادة، وميادين الجهاد، وساحات البذل والخير. هؤلاء عاشوا بالخير، وماتوا بخير؛ لتظل سيرتهم مخلدة بلسان أهل الوفاء والخير.
إن الموت تختلف درجات الرهبة منه باختلاف الأزمان، وطبيعة الظروف والوقائع. ففي زمن الاستقرار والرخاء يكون الموت شديداً على النفوس العزيزة، ومركزاً في الاهتمام والمتابعة، في حين أن الموت يكون في زمن الحروب والصراعات الدامية اعتيادياً في المشهد؛ نظراً إلى غزارة الدم والدموع، وكثافة الجثث، وتبعثر الأحياء، وتشتت الأقرباء، وتعمق الفقر والجوع والبلاء.
وهذا ما نشاهده ونلمسه في زمن حرب الابادة التي تشنها الدولة اللقيطة النازية على أهلنا في القطاع. إذ أنه بسبب كثافة الموت والمصابين والتدمير الكلي للقطاع، والتشرد والنزوح الداخلي للسكان، وما يحدثه كل ذلك من هول المشهد، وصدمة الحدث، فإن الموت يفقد هيبته ومكانته ووجوب الاهتمام بطقوسه ومطالبه.
إن الموت الفردي والجماعي قبل حرب الإبادة يختلف عن الموت أثناء هذه الحرب، حيث أن " الهلاك" غير المسبوق الذي لا يزال يُصب على أهلنا في القطاع، وما ينجم عنه من رعب وتشرد وتجويع وتعطيش وفقر ودموع ودماء أجبر الناس على " التغييب القسري" لإجراءات الدفن وطقوس العزاء. فالمشهد العام موت، والحديث بين العموم عن الموت، والتفكير الكلي عن رهبة الموت، وبالتالي يصبح الفضاء العام متلبداً بواقع الموت، أو الحديث عنه، أو التفكير به.
مجمل القول: الموت واقع لا مفر منه، وحق لا يمكن تجازوه، ولكن الموت موتان: موتٌ يصبو نحوه من يمتلك الحق ويدافع عن أهله، وبالتالي يرى في الموت أُمنية قد تحققت، في حين النوع الآخر من الموت يُصاب صاحبه برعبٍ لا مثيل له؛ ليقينه المسبق أن الباطل كان هدفه، وأن الحق وأهله كانا له عدواً ونداً. الموت لدى الفلسطيني المقاوم شهادة وخلود، والموت لدى المنافقين موتٌ ونسيان.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير