غزة..."متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"

28.03.2024 11:19 PM

وطن- جورج كرزم

منذ بداية الحرب الدموية البشعة الجارية حاليا في قطاع غزة، منع الاحتلال الإسرائيلي الطعام والماء والكهرباء والغاز عن أهلنا هناك. بل منذ سنوات طويلة قبل هذا العدوان المتواصل منذ 7 أكتوبر 2023، استخدم الاحتلال المياه سلاحاً للتنكيل المنهجي والمنظم بالفلسطينيين، والتلذذ بتعطيشهم وإذلالهم، لإخضاعهم وإرغامهم على الرضوخ له ولمشاريعه. 

سياسة التعطيش التي تمارس ضد سكان قطاع غزة تعد مظهرًا مروعًا من مظاهر الظلم الإنساني، ولا يمكننا فهمها وتحليلها سوى في سياقها الكولونيالي؛ إذ أن سياسة التعطيش تستند إلى دوافع استعمارية تتمثل في السيطرة على الموارد والمصادر المائية لتحقيق هيمنة دائمة على المنطقة، وبالتالي تحقيق الأهداف الإسرائيلية الاستراتيجية. ويتجلى ذلك في فرض حصار بشع مشدد على قطاع غزة، منذ أكثر من سبعة عشر عاما، ترافق مع تدمير البنية التحتية المائية وتقييد الوصول إلى المياه.

في إطار القوانين الدولية، تصنف سياسة التعطيش المتعمدة "كجريمة إبادة"، حيث يتم تكريس هذه الجريمة بوجود نية واضحة "لإبادة" جزء من السكان، من خلال حرمانهم من الموارد الأساسية، مثل المياه والغذاء والطاقة.

وهنا يجب ألا ننسى بأن الحصار المتواصل والحروب الإسرائيلية المتكررة وحرمان الغزيين من مواردهم المائية، تسبب في استنزاف تلك الموارد (من خلال الضخ الضخم لمياه المخزون الجوفي) وبالتالي تلوث المياه وتدهور الأراضي وتلوث المياه الجوفية، ما أثر على التنوع البيولوجي واستدامة الأراضي.
وبسبب سياسة التعطيش وانعدام المياه العذبة النظيفة، واختلاط ما تبقى من مياه "نظيفة" بالمياه العادمة المتدفقة في مختلف أنحاء القطاع، نظرا لتدمير محطات التنقية والمولدات الكهربائية التي تشغلها ونقص الوقود، تفشت الأمراض ذات الصلة بنقص المياه وتلوثها، مثل النزلات المعوية والإسهال المعوي والتهاب الكبد الوبائي وشلل الأطفال وغيرها. يضاف إلى ذلك، الضعف العام لمناعة الأفراد.

إلى جانب التعطيش، وفي ظل الحصار والقصف الإسرائيلي الدموي الشامل، أصبح ملايين الغزيين يواجهون مجاعة حقيقية، وبخاصة في شمال القطاع حيث بات مئات الآلاف دون طعام وماء ودواء، فأُجبروا- وتحديدا إثر نفاذ الطحين والأرز والمعلبات الغذائية- على تناول الأعشاب البرية والحشائش، وطحن أعلاف وحبوب الحيوانات والمواشي بدلا من القمح ليصنعوا منها الخبز، أو طحن أوراق الشجر ليصنعوا منها طعاما لأطفالهم.  بل إن البعض تساءل (من الناحية الصحية والشرعية) عن إمكانية تناول لحم القطط!  وبحسب الأمم المتحدة، يتعرض حاليا أكثر من 335 ألف طفل، دون سن الخامسة، لخطر سوء التغذية الشديد.

إذن، المجاعة في قطاع غزة ستتفاقم، بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ أكثر من خمسة أشهر، والحصار وإغلاق المعابر ومنع إدخال الإمدادات الغذائية والمائية والوقود إلى القطاع، علاوة على تدمير جزء كبير من الموارد الغذائية القائمة أصلا في داخل القطاع.  فالاحتلال استهدف بالقتل الجماعي ليس فقط البشر، بل أيضا الثروة الحيوانية من أغنام ومواشي ودواجن.

البيانات والتقارير الأممية تقدر بأن الاحتلال الإسرائيلي جرف ودمر أكثر من ثلث الأراضي الزراعية، منذ السابع من أكتوبر الماضي، وتشمل هذه المساحة الدفيئات والأراضي الزراعية والبساتين في شمال قطاع غزة، فضلا عن تدمير معظم قطاع الصيد البحري.

سلاح التجويع

استخدام التجويع المتعمد للمدنيين كوسيلة حرب، يصنف في القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني كجريمة حرب، ورغم ذلك تمارس هذه الجريمة البشعة في بث حي ومباشر، تحت سمع وبصر منظمات الأمم المتحدة والمؤسسات الحقوقية والقانونية الدولية والحكومات الغربية والعربية والإسلامية التي أقصى ما تفعله الإدانة والاستنكار اللفظيين. 

الاحتلال الإسرائيلي عمد إلى التدمير المتعمد لمنظومة الغذاء وسلاسل التوريد في قطاع غزة، فمنع دخول المساعدات التموينية والإمدادات الغذائية لجميع الفلسطينيين في القطاع، وبخاصة في مدينة غزة وشمالها.

استخدام الطعام كسلاح ضد الشعب الفلسطيني، أدى إلى أزمة إنسانية ومجاعة مروعة. الوضع في قطاع غزة، حيث يعاني معظم السكان البالغ عددهم 2.4 مليون من الجوع والبحث المستحيل عن الطعام ومياه الشرب، يندرج قانونيا في إطار جرائم الحرب؛ فمن لم يمت من القصف الإسرائيلي، قد يموت جوعا وعطشا.

أمام هذه الأعمال الإجرامية التي أجبرت أهالي قطاع غزة على تناول علف الحيوانات وشرب المياه الملوثة التي لم تعد متوافرة أصلا، أين ما يسمى "العالم الحر" وقيمه الإنسانية التي طالما تغنى بها وأشبعنا دروسا حولها، بل دمر بلدانا وأسقط أنظمة سياسية باسم الدفاع عن "حقوق الإنسان" و"العدالة" و"الديمقراطية".  وأين هو "المجتمع الدولي" الذي غابت ضغوطه الفعالة على الاحتلال الإسرائيلي، لإجباره على الالتزام بالقوانين الإنسانية وضمان وصول المساعدات الإنسانية الفورية إلى السكان المتضررين.

منذ 7 أكتوبر الماضي وحتى لحظة كتابة هذا المقال (أواخر شباط)، لم تتوقف المجازر البشرية بالجملة، بمعدل أكثر من مائتي شهيد يوميا، بل إن المجازر تلاحق آلاف الأفواه الجائعة التي تنتظر حصولها على مساعدات، كما حدث في مجزرة دوار الكويت جنوب مدينة غزة ومجزرة دوار النابلسي في شارع الرشيد شمال قطاع غزة. وبحسب منظمة اليونيسف، فإن آلاف الأطفال الغزيين معرضون لخطر الهزال أو نقص الوزن غير الطبيعي، وبالتالي إعاقة نمو الجسم والدماغ؛ ما يعد أخطر نتائج سوء التغذية والمجاعة.

وتحت تهديد السلاح، حشر الاحتلال نحو 1.5 مليون نسمة في منطقة رفح (جنوب القطاع)، وتحديدا في رقعة مساحتها نحو 15% من إجمالي مساحة القطاع (أي حوالي 55 كم2)، بمعدل أكثر من 27 ألف فرد/ كم2، علما أن حوالي 1.9 مليون نسمة نزحوا من منازلهم بشكل عام، من مختلف مناطق القطاع.

النفاق الأخلاقي

في كانون ثاني الماضي، طالبت محكمة العدل الدولية (في لاهاي) إسرائيل بوقف أعمال "الإبادة". ولأول مرة منذ إنشائها عام 1948 وُضِعَت إسرائيل في خانة المتهم باقتراف "جريمة الإبادة الجماعية" في قطاع غزة والتحريض المباشر عليها؛ وذلك استنادا إلى ما أسمته هيئة المحكمة "معقولية" الأدلة المقدمة إليها من جنوب افريقيا، بخصوص تنفيذ إسرائيل جريمة "الإبادة الجماعية".  وطالبت المحكمة إسرائيل باتخاذ إجراءات "لمنع الإبادة الجماعية" وضمان توفير الاحتلال للخدمات والمساعدات الملحة والإنسانية (غذاء، ماء، دواء، وقود...إلخ.).

لم تمض بضع ساعات على إعلان محكمة لاهاي قرارها، وبدلا من التحرك الغربي للضغط على إسرائيل كي تلتزم بالتدابير والإجراءات التي أقرتها المحكمة الدولية، مارست بعض الدول الغربية عملية عكسية، وتحديدا معاقبة الغزيين المحاصرين المجوعين؛ بذريعة مشاركة بعض موظفي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في هجوم 7 أكتوبر(كما زعمت إسرائيل دون تقديم أي دليل قانوني، وقبل الشروع بالتحقيق)، فقررت بعض تلك الدول وقف تمويلها للوكالة التي توفر المعونات الأساسية والغذاء والدواء لنحو مليوني فلسطيني في القطاع.  أما دولة الاحتلال، ليس فقط أنها داست على قرار المحكمة الدولية، بل صعدت حربها البشعة ومجازرها البشرية اليومية، وواصلت تنفيذ نقيض ما أمرتها المحكمة بتنفيذه، وتحديدا وقف القتل والتدمير والحصار والتجويع والتهجير ومنع دخول المساعدات.

النفاق السياسي والأخلاقي تجسد كذلك في استنفار الاتحاد الأوروبي لاتخاذ قرار ضد اليمن، بدلا من ردع الاحتلال الإسرائيلي المتهم من قبل أعلى سلطة قضائية أممية بممارسة جريمة "الإبادة الجماعية" المتمثلة في قتله عشرات الآلاف خلال بضعة أسابيع، وتدميره مدنا وقرى وبلدات ومخيمات لاجئين عن بكرة أبيها، وقضائه على كل مقومات الحياة وتهجيره لمعظم أهالي القطاع واقتلاعهم من منازلهم وأماكن سكنهم. وفي المقابل، يعاقب اليمنيون الفقراء المجوعون أصلا، الذين لم يقتلوا أحدا؛ بينما قتل عشرات الآلاف والاقتلاع والتطهير العرقي وتفجير آلاف المنازل فوق رؤوس ساكنيها، وتدمير المشافي والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس والبنى التحتية، كل ذلك لا يتطلب أي قرار ضد الاحتلال!  هذا يذكرنا بقول الشاعر: "قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر"! 

الاتحاد الأوروبي "غاضب" لأن اليمن قطع "سلاسل التوريد الدولية".  المثير هنا، أن عشرات آلاف الفلسطينيين يذبحون، وآلاف الأطفال يعالجون جراحيا وتبتر أطرافهم دون تخدير، ومئات الآلاف يعانون المجاعة وأطفال يموتون من الجوع، وبعض الدول الغربية لا تتوقع ردا! ألم يقل أبو ذر الغفاري (رضي الله عنه): "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه"!  أو قول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

لا "عدالة" مع العقلية الاستعمارية

للأسف، لا تزال بعض الحكومات الغربية تتعامل مع شعوب الجنوب بذات العقلية الاستعمارية القديمة التي تتميز بالغطرسة والغرور؛ تلك العقلية التي لا تجيد سوى لغة التهديد والوعيد والعقوبات والحصار ضد الشعوب والأنظمة السياسية "المتمردة" وغير الخانعة لإملاءات وأوامر الأنظمة الإمبريالية المهيمنة. العديد من الناشطين البيئيين والمناخيين والاجتماعيين في الدول الغربية يعبرون عن قلقهم بشأن "مستقبلنا" على الكرة الأرضية، وبالتالي ضرورة "الحفاظ على مستقبل مناخي آمِن ومستدام للأجيال القادمة". 

فأي "مستقبل" ذاك الذي يتحدثون عنه؟  إذ أن أطفال قطاع غزة، تماما كما مئات ملايين الأطفال في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية ليس لديهم مستقبل أصلًا ولا حتى حاضر، وهم بالتأكيد ليسوا قلقين بشأن مستقبلهم، بل قلقين بشأن حاضرهم.

القلق في بلدان الجنوب يجب أن يتركز أساسًا حول وضعها الراهن (الآن)، علمًا أن عدد الجوعى حاليًا، بلغ نحو المليار، أي حوالي 13% من سكان العالم، بل إن 2,7 مليار في العالم لا يجدون حاليًا طعامًا يوميًا يأكلوه. ورغم ذلك، عديد من نشطاء "العدالة المناخية" يَعِظون الناس بقولهم: "قلّلوا الاستهلاك".
ما معنى ذلك عند طفل فلسطيني جائع لم يأكل منذ أيام أو أسابيع؟  وما معنى ذلك عند الفلسطينيين بينما الحروب الإسرائيلية الهمجية تُشن ضدهم في غزة، مضافًا إلى ذلك سنين الحصار والتجويع والإذلال الطويلة "المستدامة" حتى يومنا هذا، تحت سمع وبصر منظرّي حقوق الإنسان والديمقراطية "والأمن الغذائي"؟

ما هو الموقف المتسم بـ"الإنسانية" و"الديمقراطية" و"العدالة" المفترض اتخاذه إزاء عملية حصار وحشر وتجويع أكثر من مليوني فلسطيني في مساحة جغرافية صغيرة كثيفة السكان، وقصفهم المرعب والمكثف من الجو والبر والبحر بهدف سحقهم وتحويلهم إلى مختبر لفحص الأسلحة "المحرمة دوليًا؟

 

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير