زينب الغنيمي تكتب لوطن من غزة: استمرار الجوع تحت العدوان ينهش أجساد الناس ويُغيّر أولويّات الكثيرين

06.03.2024 06:26 AM

اليوم الحادي والخمسون بعد المائة لحرب الإبادة على غزة، 5 مارس 2024

عيون الأطفال تشخص نحو السماء من على أسطح المنازل، وصُراخهم يعلو وهم يشيرون بأيديهم أو يلوّحون ببعض ملابسهم الحمراء للطائرات التي تمرّ من فوقهم، ظنًّا منهم أن قائد الطائرة سيراهم وانتظارًا لما سُيلقيه من مساعدات. لكن عندما تأخذ الرياح المظلّة بعيدًا تعلو أصواتهم بالشتائم ضده لأنه لم يُسقط على سطحهم أحد الصناديق.

بات هذا الحال اليومي في كلّ الأحياء خصوصًا تلك المكتظّة بالسكان، لأنّ قدرة الناس على احتمال الجوع تضعف تدريجيًا، كما ليست لديهم القدرة على شراء المواد الأساسية والتي بات ثمنها باهظًا جدًا حتى إن وجدت في الأسواق، مثل الطحين والأرز والبقوليات والمعلّبات.

القهر يستولي على الجميع رجالًا ونساءً حيث لا يستطيعون تأمين وجبة طعامٍ واحدةٍ لهم على الأقل يوميًا. لا يمكن تصوّر القسوة التي يشعر الإنسان بها، عندما يضطر الرجل أو المرأة خفض رأسيهما بذلٍّ وهما يتسوّلان ما يمكن أن يسدّ جوع أطفالهما، كما حدث معهم عندما هُدمت منازلهم وكانوا يدورون في الشوارع بحثًا عن أماكن للبيات أو مراكزٍ للإيواء، حيث كانوا يتوسلون الآخرين سواء في البيوت المدمرة أو في الحواصل كي يقبلوا أن يؤوهم.

عندما مررت قبل أيام من طريق السوق الشعبي، وجدت أطفالًا من الجنسين يقفون خلف بسطات صغيرة أو في وسط الشارع لتسويق بضاعتهم البسيطة والتي قد تكون صلصة البندورة المُعلّبة، أو كُراتٍ من ورق التواليت، أو كيس حليب مما كان يُوزّع قبل العدوان في مساعدات الأنروا، أو حتى الأدوات المنزلية أو الملابس المستعملة، أو فرشات الإسفنج التي حصلوا عليها كمساعدات. يضطرون للتواجد في السوق علّهم يبيعون ما لا يجدونه مُهمًّا كي يشتروا ما هو أهم بالنسبة لهم.

إحدى الطفلات بعمر الثانية عشرة كانت تجرّ عربةً صغيرةً عليها كميّةً كبيرةً من أكياس الفحم. سألتها "لم تجرّين العربة الثقيلة؟"، فردّت عليّ "أبوي مصاب ونايم في الدار وأنا عم ببيع الفحم عشان أمي تشتري لنا أكل".

الكثير من الأطفال يعملون أيضًا لمساعدة آبائهم، مثل أحدهم الذي كان يضع قالبًا من الجبنة الصفراء على طاولةٍ أمامه، وحين سأله السائق بكم الكيلو ردّ الطفل دون تردد "بمائة شيكل (28 دولارًا)". طبعًا كان سعر القالب كاملا قبل العدوان، والذي يبلغ وزنه كيلو ونصف، 15 شيكلا أي 4 دولارات فقط. أمّا المحل الذي كان يبيع بعض أنواع الفطائر والحلويات وجدنا به قطعًا من السمسميّة والفستقيّة واللوزية، وثمن المربع الواحد (5×5 سم) بخمسة شواكل (1.4 دولار) أي عشرة أضعاف سعره الأصلي، وسألت الطفل الذي يجلس خلف طاولة البيع إن كان لديه أصنافًا أخرى، رد بثقة التاجر "لا يا حجّة، الله جبر البضاعة كلّها"، أي أنه باع كل ما كان لديه.

قبل العدوان كانت الشابات تقفن للبيع فقط في داخل محلات الملابس أو الأحذية، أو المحلات الكبرى، ولم يكن من السهل عليهن أن يجلسن في سوق البسطات ليبعن أكياس الشيبس أو أيّة بضائع أخرى، حيث كانت فقط النساء الكبيرات في السن اللواتي يجلسن وراء البسطات وفي أيام محددةٍ مثل سوق الجمعة بمدينة غزة أو في أيام الأسبوع الأخرى في المناطق المختلفة.

لكنّ الحال اليوم تغيّر، والحاجة أجبرت النساء والفتيات على النزول إلى سوق البسطات الشعبي بغضّ النظر عن مستواهنّ الاجتماعي أو مستوى تعليمهن. ولربما كان بعضهن في البداية يخجل من التعامل مع الآخرين، حيث تترك الواحدة طفلها الصبيّ ليساوم عنها، ولكن مع الوقت انكسر حاجز الخوف والخجل، وحتى الكثير من الرجال لم يعد لديهم مشكلة في أن تقف زوجاتهم أو بناتهم للبيع في السوق لساعات.

هذا العدوان الصهيوني البغيض لم يقتصر فقط على كونه عدوانًا عسكريًا بالأسلحة والطائرات والمدفعية، ولم يستهدف فقط الناس بالقتل وإيقاع الإصابات بهم، أو تدمير بيوتهم ومؤسساتهم وتشريدهم وتهجيرهم، بل هو عدوانٌ شاملٌ سبق التخطيط له بلا شك، ليُجبر الناس على الركوع أمام جبروت قوّة حكومة الحرب الإسرائيلية. وكلّما تقدّم الوقت تُمعن هذه الحكومة في غيّها وإصرارها على إبادة كلّ الشعب في قطاع غزة، سواء بقتلهم بالقذائف أو بالمرض بمنع الدواء عنا، أو بالجوع بمنع الغذاء. كما لم تكن المجازر التي يرتكبها الجيش الصهيوني ضدّ من يحاولون أخذ المساعدات من نقاط وصول الشاحنات سوى غيضٍ من فيض، بينما يتبجّح الجيش بالادعاء بأنه يسمح للمساعدات بالوصول لغزة كذبًا وافتراءً.

وبالرغم من مرور بعض الطائرات في سماء غزة في الأيام القليلة الماضية، إلا أنها تُلقي بالفتات، حيث ترمي الطائرة من ثمانية إلى عشرة صناديق محمولة بالمظلات، وتحتوي الصناديق على حاجياتٍ متنوعة من فوط الأطفال والفوط النسائية والشاي والقهوة وبعض الأرز وبعض المعكرونة، لكنّها لا تسدّ حاجة المواطنات والمواطنين في غزة وشمالها، فمائةُ صندوقٍ في اليوم لا يعني أن الناس ستبيت شبعانة، خاصةً وأنّها لا تحمل بالضرورة موادًا غذائية وهي ما يحتاجه الناس بالأساس في ظلّ المجاعة.

الكلّ في انتظار انتهاء العدوان كي يتمكّنوا من العودة لحياتهم الطبيعية، وكي يستطيعوا تجاوز محنتهم، وحتى ذلك الوقت سيحاولون قدر الممكن الصبر على جوعهم وتحمّل القهر، ولكنّهم لن يقبلوا أن يركعوا صاغرين للعدو وداعميه من الأمريكان والأوروبيين الذين أطلقوا هذا الوحش الصهيوني من القفص ولن يتمكنوا من إعادته قبل أن ينهش فيهم هم أيضًا.

زينب الغنيمي، من مدينة غزة تحت القصف والحصار

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير